قوارب الموت السوريّة: رحلةٌ قاتلة نحو المجهول
جوان سوز
بعد أربع سنواتٍ من انطلاق الثورة السوريّة السلميّة التي سُلِبَت من الشعب السوريّ، وتحوّلت إلى أزمةٍ إقليميةٍ ودولية، بشقّيها السياسيّ والعسكريّ، تُهدّد بشبح حربٍ طائفيةٍ في المنطقة، خصوصاً بعد التطوّرات الراهنة في العراق؛ يُقدم الكثير من السوريين، وبشكلٍ مكثّف، على الهجرة بحثاً عن حياةٍ كريمةٍ خارج بلادهم، وخارج المعاناة المتكرّرة في دول الجوار التي تغصّ بهم، بين راضٍ عن الإقامة وغير راضٍ عن استضافتهم، كلٍّ حسب سياسته وأجنداته ومصالحه الاقتصادية. فكان لا بدّ للسوريين من البحث عن طوقٍ للنجاة مهما كلّف الثمن، بعد عجز المجتمع الدوليّ عن مساعدتهم، وها هم يفعلون.
حلم نجاةٍ شرعيٌّ وغير شرعيٍّ في آنٍ واحد
يُقدم السوريون في معظم دول الجوار، وهي تركيا وإقليم كردستان العراق والأردن ولبنان، على شراء وثائق سفرٍ أوروبيةٍ مزوّرةٍ عن طريقِ بعض السماسرة، الذين تصنّفهم الجهات الحقوقية من بين أكبر تُجّار الأزمات، إذ يتقاضون مبالغ كبيرةً مقابل رحلةٍ جوّيةٍ من إحدى مطارات هذه الدول إلى أيّة دولةٍ أوروبية. وتتجاوز هذه المبالغ في أحيانٍ كثيرةٍ 15000 دولار، ناهيك عن خيبة الأمل المنتظرة، إذ يُحتمل أن يتمّ القبض على الهارب السوريّ في أيٍّ من المطارات التي سيسافر منها، وبالتالي يخسر المبلغ الذي قام بجمعه من بعض أقاربه وأصدقائه في الخارج، أو من خلال بيع ممتلكاته في سوريا، دون الوصول إلى تحقيق هدف الهجرة، التي تنتهي بعملية نصبٍ واحتيالٍ غالباً.
وقد تتخذ هذه المغامرة أشكالاً أخرى، مثل الهجرة بحراً، من إزمير التي تُعرف بقوارب الموت الموجودة فيها. وتكلّف هذه الرحلة أكثر من 3000 دولار، من ميناء إزمير إلى اليونان. ومصيرها في حالاتٍ كثيرةٍ الغرق، كما حدث مع الفنان والموسيقيّ السوريّ الكرديّ سيامند أوسكلي، في شهر آذار/ مارس الماضي، أو عودة السوريّ خائباً إن قامت السلطات اليونانية بنجدة الغرقى.
لكن، وعلى الرغم من معرفة الجميع بخطورة هذه المغامرة، إلا أن الكثيرين منهم يُقدمون عليها هرباً من جحيم الحياة في دول الجوار، وازدياد حدّة العمليات العسكرية في الداخل السوريّ. وينظرون إلى هذه المحاولات كحلم نجاةٍ شرعيٍّ وغير شرعيٍّ أيضاً، نظراً لطرقه وأساليبه المختلفة، مبرّرين ذلك ببحثهم عن وطنٍ بديلٍ يؤمّن لهم حياةً كريمة، كما يحصل في البلدان الأوروبية التي تتعامل مع اللاجئين إليها بأسلوبٍ إنسانيٍّ.
رحلةٌ إلى إيطاليا
نجيب مظلوم، صحافيٌّ ومخرج أفلامٍ وثائقيةٍ، كان يعيش في القاهرة منذ سنتين وحتى الشهر الماضي، قبل أن يقرّر السفر إلى إيطاليا، ومنها إلى دولةٍ أوروبيةٍ أخرى، بسبب قلّة اهتمام الإيطاليين باللاجئين السوريين. وعلى الرغم من اطلاعه الكامل على المخاطر التي قد تواجهه في هذه الرحلة، إلا أنه اتخذ قراره دون تردّد.
يقول نجيب: "ربما يظنّ البعض أن رحلةً مفعمةً بالمخاطر عبر البحر، في قاربٍ صغيرٍ وقديمٍ، قد تكون مغامرةً ما إن يتجاوزها المرء حتى تنتهي كلّ مخاوفه. لكن مخاوف وهواجس البعض تبدأ منذ لحظة خروجه من ذلك القارب، وهذا ما حدث معي، بعد رحلةٍ بحريةٍ استمرّت أحد عشر يوماً".
ويصف نجيب ترتيبات رحلته قائلاً: "اتّبعت كلّ النصائح فيما يتعلّق بضرورة تخفيف الحمولة، بحيث تقتصر على حقيبة كتفٍ تحوي الملابس والتمر والماء، ويمكن أن تُضاف إليها بعض المعلبات. أما الأغراض القيّمة، كالهاتف المحمول والأوراق الثبوتية، فقد غلّفتُها بالنايلون واللاصق حتى لا تتبلّل بالماء، ووضعتُها في حقيبة صغيرة تُعلّق على الرقبة. فضلاً عن الثياب التي تتضمّن لباس نومٍ شتويٍّ مع قبعةٍ للشمس، والمعدّات الطبية، مثل الواقي الشمسيّ ومرهم الحروق، وحبوباً لمعالجة الإسهال ودوار البحر، وأخرى للغثيان، مع القليل من المعقّمات والمناديل المعطّرة، ولا شيء أكثر من ذلك".
ويضيف نجيب: "انطلقت الرحلة من القاهرة إلى الإسكندرية، عبر حافلات الـ"ميكروباص". ووصلتُ، مع مجموعةٍ من المهاجرين السوريين والمصريين، إلى شاطئٍ شعبيٍّ غرب مدينة الإسكندرية، لتتوافد حافلاتٌ أخرى، حيث خُصّص لنا مبنىً يضمّ 12 (شاليهاً)، تجمع 12 شاباً أو 4 عائلاتٍ في كلّ واحدةٍ منها. وقد تمّ تأجيل الرحلة أكثر من مرّةٍ، ريثما يكتمل عدد القادمين جميعاً. ونحن لا نمتلك إلا الانتظار والقلق".
سماسرة الموت وأسعارهم
يؤكد نجيب أن معظم سماسرة الموت كانوا مصريين، لكن مع الوقت دخل سماسرةٌ سوريون إلى هذه المهنة، ما تسبّب برفع الأسعار من 2200 إلى 3000 دولار، بحجّة أن رحلاتهم أكثر أماناً وإنسانيةً، عدا عن أنها أضمن لجهة طريقة دفع المبالغ.
يعمل السماسرة السوريون والمصريون تحت سلطة رجلٍ مصريٍّ واحدٍ، يُلقّب بـ"الدكتور"، تخضع جميع القوارب لسلطاته، وله طرُقه في التعامل مع الحكومة المصرية وحكومات دول البحر المتوسط، التي لم تجد حلاً لهذه الظاهرة حتى الآن.
في البحر.. النجاة أو الغرق
في القوارب الصغيرة، وأيضاً الكبيرة التي يتمّ الانتقال إليها في عرض البحر، يكون الطعام متشابهاً، وهو الحلاوة مع الخبز الرديء. أما العشاء فيكون بكمياتٍ قليلةٍ، ويتألف من الأرز في اليوم الأوّل، وعلب السردين في اليوم الثاني.. وهكذا.
أما الشراب فيكون ماءً نظيفاً مع بدء الرحلة، وبعض الشاي صباحاً وعصراً، ثم يصبح من الماء المُذاب من الثلج بنكهة (زنخة)، وأحياناً بنكهة المازوت. فركاب القارب قد يضطرّون إلى شرب الماء المستخدم لتبريد محرّك الزورق، بعد نفاد المياه، في حين يلجأ قائد المركب إلى تبريد محرّكه بماء البحر.
تتفاقم هذه الحالات مع وجود 300 شخصٍ على سطح المركب، نصفهم من الأطفال والنساء والشيوخ، الأمر الذي يزيد بدوره من احتمالات الغرق. عدا عن إمكانية حصول خطأٍ من قبل البحّار في الاتجاهات، إذ يتمّ الاعتماد على خدمة الـ(جي بي إس) عبر الهاتف، قبل رميه عند الوصول إلى الشواطئ الإيطالية.
الإنقاذ والوصول إلى برّ الأمان
عند الاقتراب من السواحل الإيطالية تبدأ عملية الإنقاذ من قبل خفر السواحل، عن طريق المراكب المطاطية السريعة، التي تقوم بتحميل الأطفال والنساء على دفعاتٍ أولاً، ومن ثم الرجال. وبعد التفتيش تبدأ الشرطة بتوزيع المياه والطعام، ثم تسأل اللاجئين عن العمر والجنسية، قبل أن تحوّلهم إلى الأطباء لتلقّي العلاج من آثار الرحلة. ثم يأخذ كلّ مهاجرٍ طريقه إلى دولةٍ أوربيةٍ اختارها، لتتّخذ رحلات السوريين بعدها أشكالاً ومصائر مختلفة.
هذا ما رواه نجيب، ليلخّص به قسماً صغيراً من معاناة السوريين في الهروب إلى عالمٍ جديدٍ، لا يدرون حقاً إن كان سيحقّق أحلامهم في العيش الكريم.