ثنائيّة الأكثريّة-الأقليّة، والأصول الخرافيّة لتصنيف البشر
فراس سعد
كثر الحديث، في الآونة الأخيرة، حول ثنائية الأقلية-الأكثرية. والمقصود بها، في حديث وحوارات السوريين، مسألتان: الأولى ثنائية سنّي-علوي، أو أكثريةٌ سنّيةٌ وأقليةٌ علويّة، والثنائية الثانية هي عربي–كردي، أو أكثريةٌ عربيةٌ وأقليةٌ كردية. وإذا كانت للثنائية الأولى خلفياتٌ دينيةٌ عقديةٌ وتاريخيةٌ بعيدة، إلا أنها في الواقع ثنائيةٌ حادثةٌ عن ممارسات نظام الأسد منذ استلامه الحكم، في انقلابٍ شهير، قبل ما يقرب من نصف قرن. قل الأمر ذاته بالنسبة إلى ثنائية عربي-كردي، الناشئة عن الموقف العنصريّ من الأكراد السوريين، المستمرّ منذ أكثر من نصف قرن، والذي حرم قطاعاً لا بأس فيه منهم من الحصول على الجنسية السورية.
الأصول الخرافيّة لتصنيف البشر
سنحاول هنا البحث عن الأسباب الذهنية والنفسية للاصطفاف الاجتماعيّ والفصل المذهبيّ والإثنيّ. وهي أسبابٌ لا تتعلّق بالآخر الذي نقرّر عنه "ماهيته" و"هويته"، بقدر ما تتعلّق بنا كأفراد، أو بـ"النحن" كمجموعات، وتتعلّق، بشكلٍ أساسيٍّ أيضاً، بكيفية تكوين معرفتنا بالآخر.
إن الحواسّ شرطٌ ضروريٌّ للتفكير، والتفكير هو أساس تكوين المعرفة طبعاً. لكن، في "المعرفة القروسطية" إن جاز التعبير، أو "بالمعرفة البدائية"، وهو تعريفٌ أدقّ، يتمّ استخدام الحواسّ فحسب، إضافةً إلى المخيّلة، لتكوين المعرفة. والمخيّلة بالنسبة إلى البشر، سواءً أكانوا في العصور الوسطى أم الحديثة، هي غالباً أقرب إلى عالم الأحلام والأسطورة والخرافة. وهذه المعرفة التي تتأسّس على الحواسّ والمخيلة، دون التفكير أو التمحيص، وبناء العلاقات المنطقية لمنتوجات الحواسّ، ستكون معرفةً سحريةً أو خرافية.
كيف نقرّر أن مجموعةً ما هي مجموعةٌ متجانسة؟
لماذا ننظر إلى "مجموعةٍ ما"، دينيةٍ أو مذهبيةٍ أو أيديولوجية، على أنها مجموعةٌ متجانسةٌ كاملةٌ ذات هوية، وهي في الحقيقة ليست كذلك؟ في الحقيقة يميل الإنسان، ربما بطريقةٍ لاشعورية، إلى تصنيف الآخرين وبناء منظومةٍ متجانسةٍ لهم، بناءً على أن الآخرين الذين ليسوا منّا، أو من مجموعتنا المذهبية أو العرقية، يملكون رابطاً أو أكثر بينهم "يجعلهم" مجموعةً متجانسة. مثلما قد نجد أن طبقةً ما متجانسة، لأنها تتّصف بصفاتٍ محدّدةٍ عمومية، تميّزها عن طبقةٍ أخرى. وحين لم يكن، في زمن العثمانيين، تمييزٌ للمجموعات الدينية عن بعضها في الشارع، بسبب كون لباس عموم العثمانيين آنذاك واحداً، فقد قرّر الخليفة العثمانيّ تمييز اليهود والمسيحيين بالقوّة.
ربما منذ تلك اللحظة، خُلقت فكرة الأقلية والأقليات، التي تحمل صلباناً، أو تضع على رأسها علامةً تميّزها؛ إنه التمييز بالقوّة. ومنذ هذه اللحظة، صارت جموع السوريين أو العثمانيين العرب، تميّز المسيحيين وأقلياتٍ أخرى. وتمّ وضع علاماتٍ على رؤوس أو صدور أو ثياب تلك الأقليات، تظهر بها اختلافها عن الآخرين، بحيث حدث انكسارٌ إضافيٌّ في مسألة الحضور الاجتماعيّ العامّ. ولربما من هنا أصبحت المسألة الطائفية مقوننةً بما يخصّ غير المسلمين، ولم تبق في حيّز العقيدة والنظرة الذهنية عن الآخر غير المسلم كمختلف.
على أيّ أسسٍ يجب تقسيم البشر؟
فيما يتعلّق بمسألة الأقلية، أعتقد أنه يجب ألا تؤخذ بالعدد السكانيّ أو العقيدة أو اللغة، بقدر ما تؤخذ بمقدار الفاعلية الاجتماعية. وبهذا لن يكون لكلمة أقليةٍ معنى، إن كان القصد من الكلمة هو المجموعة السكانية القليلة العدد، بالنسبة إلى مجموعاتٍ أخرى أكثر عدداً.
المسيحيون في سورية، على سبيل المثال، ليسوا مجموعةً واحدة، وليسوا متجانسين إلا من حيث الفضاء الثقافيّ والمفاهيم الاجتماعية. وكذلك الحال بالنسبة إلى العلويين، فهم "مجموعةٌ متجانسة" في اعتقاد الآخرين، إلا أن هذا من الأخطاء الشائعة. فالعلويون، عدا عن اختلافهم العقائديّ والاجتماعيّ، بسبب توزّعهم الجغرافيّ بين سورية وتركيا ولبنان وشمال العراق، يختلفون قومياً وثقافياً بين عربٍ وكردٍ وأتراك، ما يشكّل عاملاً مهماً في عدم تجانسهم. إضافةً إلى اختلافٍ واضحٍ بين من قطن المدينة، لنصف قرنٍ أو أكثر، وبين من بقي في الريف.
وهذا ما يصحّ أيضاً بالنسبة إلى السنّة. فهم متمايزون في الحقيقة بين دمشقيٍّ وحلبيٍّ وديريّ، وبين ريفيٍّ ومدينيٍّ وبدويّ.
هنا سنجد، على الدوام، الفرق بين العقيدة وبين الناس الذين يتّبعونها. ونحن، حينما نقول أقليةً وأكثرية، لا نتحدّث عن العقيدة، بل نتحدّث عن الناس والمجتمع. ولربما كانت هناك نسبةٌ كبيرةٌ ممن يحسبون على طائفةٍ ما، وهم غير مؤمنين بعقيدة هذه الطائفة. لهذا فالبشر مختلفون حتى لو ولدوا لنفس الأمّ والأب، وعاشوا في بيتٍ وحيٍّ وبلدٍ واحد.
الأمر الذي يكشف أن تقسيم المجموعات البشرية إلى أقلياتٍ وأكثريات، ومن ضمنه الحديث عن أديانٍ وطوائف، ليس سوى تقسيمٍ تعسّفيّ، ربما يكون ضرورياً من الناحية الأكاديمية، ولكنه في المحصلة الاجتماعية لم يأتِ سوى بالكوارث والمجازر وحروب الإبادة، سواءً على مستوى الأديان والمذاهب أم على مستوى الأعراق .
الاختلاف موجودٌ على مستوى العقيدة أيضاً. فإذا كان ما يجمع المسلمين إيمانُهم بمحمدٍ (ص) والقرآن والصلاة والحجّ، فإن ما يفرّقهم أكثر من ذلك بكثير. بل إن ما يجمعهم هو نفسه ما يمكن أن يكون عامل تنافرهم، فهناك اختلافٌ في تفاصيل الصلاة، وفي ضرورة الحجّ، وفي كون محمد رسولاً مقدساً أم مجرد رجلٍ حمل رسالةً إلهيةً ثم توفي، ولا تجب متابعته في كلّ شيء، كما يقول السلفيون. ويكبر الفارق بين المذهب الشيعيّ والمذهب السنّيّ بمذاهبه المختلفة، وبين المنشقّين عن الشيعة من علويين وإسماعيليين ودروز.
ربما كان الأمر على هذه الشاكلة في المسيحية؛ فالخلاف حول طبيعة المسيح، وحول مكانة مريم العذراء، واختلافاتٌ عديدةٌ أخرى، يجعلهم مذاهب وفرقاً مختلفةً متكاثرة.
لهذا لا يصلح تفريق البشر على أساس إيمانهم ومعتقداتهم أو لغتهم، لأن هذه المعتقدات قد تتعدّد وتزداد، تتعقّد أو تتبسّط، لتصبح معتقداتٍ خاصّةً فردية، فيما يمكن تسميته "الدين الفرديّ"، وهو موضةٌ ازدهرت في الغرب منذ عقود. بل يمكن للغة الواحدة أن تتعدّد، كما هو حال أكراد سورية، الذين يتحدّثون لهجاتٍ لا يفهمها كلّ الأكراد.
التمييز بين البشر على أساس المصلحة المعاشية
نعتقد أن التمييز بين البشر على أسسٍ غير عقيديةٍ ومذهبيةٍ أمرٌ أكثر منطقية. فالاختلاف تبعاً للمكان، أو تبعاً للعمل، أو على أساس الدخل والمعاش، أكثر دقة. إذ يمكن تسمية الصلة التي تجمع جماعةً أو مجموعة أفرادٍ "رابطة". والرابطة الأساسية في كلّ عصرٍ هي رابطة المصلحة والعمل والبيئة. وهي روابط لا يستطيع أن يعيش الإنسان دونها، على خلاف رابط العقيدة الذي هو رابطٌ متحرّكٌ وفق المصلحة والبيئة الاجتماعية، وقد يتعرّض للتهتّك والضعف، ولم يحافظ على وجوده بقوةٍ سوى عند الجماعات البدائية.
كما أن العقيدة لا تتعلّق بالمصالح الحيوية للإنسان أو البشر عموماً، بل تتعلّق بمفاهيم وأفكارٍ مجرّدة. وهذه الأخيرة تتعلّق بعالمٍ علْويّ، أو بمجالي العقل والنفس، وهذه ليست من المصالح الحيوية كالطعام والشراب والسكن والعمل.