جودت سعيد.. غاندي العرب والإسلام
سومر العبد الله
لم يهتمّ مفكرٌ معاصرٌ بقضايا التسامح والاعتدال واللاعنف مثل اهتمام الشيخ جودت سعيد في أغلب مؤلفاته وأطروحاته الإسلامية، حتى غدا الشيخ وفكره يمثل تياراً خاصاً من تيارات الفكر الإسلاميّ الرافض للعنف والتطرّف، في ظلّ صعود التطرّف والتكفير في أفكار الحركات والدعاة الإسلاميين، والتي بدأت تجتاح العالم الإسلاميّ في النصف الثاني من القرن الماضي.
تأثر الشيخ بفكر الاعتدال لدى مالك بن نبي ومحمد إقبال، ومثل امتداداً طبيعياً لمدرستهما الفكرية. قاده هذا التأثر إلى التعرّف على مالك بن نبي في مصر، حين كان سعيد يدرس الأدب العربيّ في جامعة الأزهر، وكان منخرطاً حينها في الحياة الثقافية في مصر، واقترب من الحركات الإسلامية التي كان تنظيم الاخوان المسلمين يمثل أبرزها، دون الانخراط في صفوفها، وبقي مراقباً ناقداً لمسارها وأفكار دعاتها. ونتيجة مشاهداته نشر في عام 1966 كتابه "مذهب ابن آدم الأوّل: مشكلة العنف في العالم الإسلاميّ". وتأتي أهمية هذا الكتاب في أنه أوّل محاولةٍ لصياغة مفهومٍ لاعنفيٍّ إسلاميٍّ في التاريخ المعاصر، وفي أنه أوّل ردٍّ، وأكثرها جذريةً وتطوراً، على كتابات سيد قطب التي شكلت الأساس الفكريّ لحركات العنف الإسلاميّ، بالرغم من أن مفكرين إسلاميين آخرين ردّوا على سيد قطب.
حاول سعيد مخاطبة الشباب المسلم عبر عدّة كتبٍ إرشاديةٍ نشرها كسلسلةٍ بعنوان "سنن تغيير النفس والمجتمع". وهي تقوم بمعالجة مشاكل الحياة الشخصية والاجتماعية، مع التركيز على أن اللاعنف هو طريقٌ أصيلٌ في الإسلام لا بديل عنه. ولإثبات نظرته حول اللاعنف الإسلاميّ يعود الشيخ إلى نصوص القرآن، وخصوصاً الآية 27 من سورة المائدة، حين رفض هابيل أن يدافع عن نفسه أمام قابيل وقال له: "لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين". بهذه النظرة وغيرها حاول جودت سعيد التضييق على الحركات الإسلامية في توسّلها العنف ضد العنف والمجتمع. وقام بتطوير نظرته تجاه مسألة اللاعنف في عام 1988 عبر نشر كتابه "اقرأ وربك الأكرم"، عندما طوّر مفهوماً جديداً لتفسير القرآن ساعده على تدعيم فكرة اللاعنف الإسلاميّ بشكلٍ أفضل. فقد ركز الكتاب على أن التفسيرات المختلفة لنصوص القرآن شكلت تحدياً حتى للصحابة، وأن موضوع تفسير النصوص كان نقطةً هامةً في الخلاف الذي وقع بين الخليفة علي بن أبي طالب والخوارج. وفي هذا السياق يتوسّل سعيد لتبيان نظرته من نصوص التراث الإسلاميّ وأئمته في فهم نصوص القرآن، مثل قول الغزاليّ: "من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك".
(إذا نجحت الثورة السورية بالسلاح فسنظلّ محكومين بالسلاح الذي نحكم به منذ 1400 سنة، من حكم معاوية إلى يومنا هذا. كلّ من أخذ بالسيف، بالسيف يهلك. والديمقراطية لا تحلّ في بلدٍ إلا إذا أجمع الفرقاء فيه على الاحتكام لا إلى القوة بل إلى الصندوق. هذه أشياء بدهيةٌ ولا يتكلم بها أحد...)؛ بهذه الرؤية واجه جودت سعيد فوضى السلاح والقتل الحاصلين في سورية. ولم تحمِه نظرته المتسامحة من الهجوم عليه واتهامه بالتواطؤ، وهو المشارك في الثورة والمبارك لها منذ بدايتها، عبر مشاركته المعروفة من خلال الدعوة إلى جهاد الكلمة في محاضرةٍ ألقاها في مدينة جاسم جنوب سورية، والتي زارها في الشهور الأولى من انطلاق الحراك الثوريّ، ومدينة دوما في ريف دمشق.
تعرّض سعيد، المولود في قرية بئر عجم الواقعة في الجولان المحتلّ، عام 1931، لعدّة مضايقاتٍ واعتقالاتٍ كان آخرها عام 2000 أثناء انتخابات التوريث لبشار الأسد، حين قام بكتابة كلمة "لا" في بطاقته الانتخابية، معبّراً عن معارضته لسياسة التوريث.