اقتصاد الحرب.. ونمط الإنتاج المافيوي في سوريا
صورٌ من اقتصاد سوريا الحاليّ:
قوننة النهب.. والتمويل بالتضخّم
(1)
محمد حسن
يُعرّف اقتصاد الحرب بأنه مجموعةٌ من إجراءات الطوارئ التي يتمّ اتخاذها من قِبَل الدولة، لتعبئة اقتصادها للإنتاج خلال مدّة الحرب.
ويعرّف عالم الاقتصاد (فيليب لو بيلون) اقتصاد الحرب بأنه "نظام إنتاج الموارد وتعبئتها وتخصيصها لدعم المجهود الحربيّ. وتتضمّن بعض التدابير التي يتمّ اتخاذها زيادة معدلات الضرائب، وكذلك طرح برامج تخصيص الموارد".
لا تنطبق هذه التعريفات كثيراً على الإجراءات التي يتخذها النظام السوريّ لتمويل حربه المستمرّة. فآخر ما يهمّ هذا النظام، على ما يبدو، هو إنتاج الموارد وتعبئتها، في ظلّ قصفه المستمرّ لمراكز الإنتاج الزراعيّ والصناعيّ، وتهجيره للأيدي العاملة، ودفعه أغلبية رؤوس الأموال إلى الهرب من البلاد.
لذلك فإن "اقتصاد حرب" النظام اقتصادٌ غير إنتاجيٍّ في جوهره، يقوم على تلقّي المساعدات الخارجية من جهة، والتفنّن في نهب المواطنين السوريين والاقتطاع من مواردهم ومدّخراتهم، أو مصادرتها وسرقتها بشكلٍ صريح، من جهةٍ أخرى. بالإضافة إلى تخفيض أجور العاملين في مؤسسات الدولة بشكلٍ مخاتل، عن طريق تخفيض القيمة الفعلية للعملة، وإبقاء الأجور ثابتةً في الآن ذاته.
قراراتٌ وإجراءاتٌ حكوميةٌ تعكس الأزمة الاقتصادية
وفي هذا السياق، أصدر النظام السوريّ مؤخراً عدداً من القرارات التي تهدف إلى زيادة موارد تمويله في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها، والتكاليف الباهظة للحرب التي يقودها في البلاد. أحد هذه القرارات هو مصادرة أملاك المنشقّين العسكريين عنه، ويقدر عددهم بـ 190 ألف منشقّ. كما أصدر قراراً آخر بتخفيض بدل خدمة العلم للشباب المقيمين خارج البلاد من 15 ألف دولارٍ إلى 8 آلاف دولار، سعياً لدفع الشباب المغتربين إلى تسوية أوضاعهم ودفع المبلغ المذكور، بعدما امتنع معظمهم عن دفع البدل منذ اندلاع الثورة عام 2011.
يقول أحمد، أحد الجنود المنشقين مؤخراً عن الخدمة العسكرية، لمجلة "صور": "توقف النظام عن صرف رواتب الكثير من عناصر الشبّيحة منذ فترة، إلا أنه أطلق يدهم لسرقة كلّ ما يقع تحت أيديهم من أملاك المواطنين في المناطق المنكوبة، فباتوا يبيعون الأدوات المنزلية والسيارات. وقد ظهر هذا جلياً في ما يعرف بـ"أسواق السنّة"، التي تباع فيها هذه البضائع المسروقة".
تُضاف إلى ذلك المكاسب المادية التي تحصل عليها حواجز النظام المقامة في الطرق التي تمرّ بها البضائع. يروي محمد لواحة لـ"صور"، وهو تاجر ألبسةٍ من مدينة حماة: "كنت أشتري بضاعتي من حلب. وعندما سُرقت شاحنتي، على يد حاجز الأمن العسكريّ بالقرب من أكاديمية الأسد بحلب، تحوّلتُ إلى شراء البضائع من دمشق. أدفع الآن لحواجز النظام على طريق دمشق - حماة خمسة آلاف ليرةٍ عن كلّ (كرتونة) ألبسة، وخمسمئة ليرةٍ لكلّ حاجز". ويعلق لواحة بسخريةٍ مريرة: "لا بدّ أن جنود الجيش العربيّ السوريّ "الفقراء" يجمعون ثرواتٍ طائلةً الآن".
خمسمئة ليرةٍ ورقيةٌ بطباعةٍ روسيةٍ في الأسواق السورية
وفي سياق "التمويل عن طريق التضخم"، طرحت حكومة النظام، مع بداية شهر آب الفائت، عملةً ورقيةً جديدةً للتداول من فئة الخمسمئة ليرة. وقال حاكم مصرف سورية المركزيّ، أديب ميّالة، إن "سعر صرف الليرة السورية لن يتأثر نتيجة توزيع العملة الجديدة، التي تمّت طباعتها في روسيا". مشيراً إلى إنه "سيتمّ سحب العملة المهترئة من السوق، حتى لا يحدث اختلالٌ في سعر الصرف ومعدّل التضخم"، على حدّ قوله.
وأكد ميّالة عزم المصرف المركزيّ طرح فئة الألف ليرةٍ الجديدة خلال شهرين، للتعويض عن فئة الألف ليرةٍ القديمة في السوق. وفي محاولةٍ منه للترويج للعملة الجديدة، يستفيض ميالة بشرح "مزاياها" الشكلية، فيؤكد أنها "تمتلك مزايا العملة الروسية. وهي مزايا تندرج لأوّل مرّةٍ في العملة السورية، من خلال احتوائها على تثقيبٍ مجهريٍّ، تمكن ملاحظته من خلال وضعه أمام أحد مصادر الضوء، إضافةً لميزات الطباعة النافرة والألوان والحبر المتغيّر".
ولدى سؤالنا أحد الخبراء الاقتصاديين عن صحّة ادّعاءات ميالة أجابنا بالقول: "تمّت طباعة العملة الجديدة لسدّ العجز الماليّ الحاصل بشكلٍ أساسيّ، وهو ما يرفع معدّل التضخم العامّ عن نسبة الـ150% المسجّلة في 2013، ما يجعل هذا الإجراء تمويلاً وهمياً عن طريق التضخم".
التراجع الاقتصاديّ يطال الدول المجاورة
وصلت تبعات انهيار الاقتصاد السوريّ إلى الدول المجاورة. ويذكر معهد التمويل الدوليّ أن "الاضطرابات السياسية والأمنية في بعض دول الشرق الأوسط، وعلى رأسها سوريا، أدّت إلى تراجع الأداء الاقتصاديّ لدول المنطقة". كما حذّر المعهد من أن أيّ توسعٍ لرقعة التوترات القائمة في سوريا والعراق، ستترتب عليه العديد من العواقب في القطاع السياحيّ وحركة التجارة الخارجية.
وتوقع المعهد تباطؤ معدّل النمو الاقتصاديّ الحقيقيّ لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ليصل إلى 3,7% في العام 2014، مقابل 3,8% في العام 2013، قبل أن يعود ويرتفع إلى 4,2% في العام 2015. كما خفّض المعهد توقعاته لنسبة النموّ الاقتصاديّ الحقيقيّ في لبنان للعام 2014 إلى 2,2%، مقابل توقعاتٍ سابقةٍ لنسبة 3% للعام الجاري، في حين حافظ على توقعاته للعام 2015 عند 3%.
وتندرج هجرة اليد العاملة السورية ضمن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لدول الجوار، فقد ازداد الضغط على سوق العمل والمنافسة على الوظائف، ما أدّى إلى تخفيض أجور العاملين المحليين، أو خروجهم من المنافسة وابتلائهم بالبطالة. في حين يفتقد الاقتصاد السوريّ في الداخل إلى خيرة عماله ومنتجيه.
هروب رأس المال السوريّ
يعتبر هروب رؤوس الأموال أحد أسوأ الانعكاسات الاقتصادية للحرب. وتعدّ كلٌّ من تركيا والعراق وألمانيا ومصر من أوائل الدول التي جذبت رؤوس الأموال السورية، وقدّمت التسهيلات الكافية لإنشاء مشاريع استثماريةٍ على أراضيها.
وأعلن اتحاد غرف تبادل السلع في تركيا أنه تمّ تأسيس حوالي ثلاثين ألف شركةٍ في البلاد في النصف الأوّل من هذا العام، وأن 25% من هذه الشركات تعود لمستثمرين سوريين. كما يصل عدد الشركات التي افتتحها السوريون في ألمانيا، منذ بداية العام الجاري، إلى 173 شركة، إضافةً إلى 144 شركةً أخرى في العراق.
المواطن السوريّ في الداخل هو الضحية الأولى
يعيش السوريون في الداخل حياةً يوميةً مثقلةً بالمتاعب، بسبب الأعباء المادية المتزايدة عليهم يومياً. وبعد مرور أربع سنواتٍ على الحرب، يعتمد آلاف السوريين في معيشتهم على الحوالات المالية التي يرسلها إليهم ذووهم في الخارج.
وأشارت صحيفة "الوطن"، المقرّبة من النظام، إلى أن قيمة الحوالات اليومية الداخلة إلى سوريا قد ارتفعت من 4 مليون دولار إلى 8 مليون دولار خلال الشهر الفائت.
تحدّثنا أم صلاح من مدينة دمشق عن معاناتها من الأزمة الاقتصادية، وانخفاض دخل أسرتها الفعليّ بسبب التضخم: "زوجي موظفٌ متقاعد. راتبه حوالي الـ 20 ألف ليرة. كان الراتب يكفينا لمدة أسبوعين، أما اليوم فلم يعد يكفي لأكثر من عشرة أيام".
وتضيف: "يعمل ابني الأكبر صلاح في السعودية، ويرسل لنا شهرياً 250 دولاراً. ولولا هذه الحوالة لتسوّلنا المال على أبواب الجوامع!".
ولعلّ حديث أم صلاح يلخّص واقع الاقتصاد السوريّ، من تضخمٍ وانكماشٍ واعتمادٍ على الريع الخارجيّ، بأبسط الكلمات، ويطلعنا على أبعاد المأساة التي يعيشها السوريون.
***
ما وراء الحرب السورية:
النفط ينعش السوق السوداء، وتجارة السلاح توحّد المعارضة والموالاة!
(2)
إحسان أحمد
يسيطر تنظيم الدولة الإسلامية، اليوم، على أغلب منابع النفط السوريّ. مما حوّل استثمار هذه المنابع، ذات الموارد الكبيرة، إلى نشاطٍ خفيٍّ يمكن إدراجه في سياق ما يسمّى "اقتصاد المافيات"، التي تتحكم بشكلٍ تامٍّ بأسعار النفط، وتستولي على مردوده، لتمويل مشاريعها المختلفة. وهو ما يمنحها قوةً اقتصاديةً كبيرة.
وتكرّس هذا الوضع بشكلٍ أكبر بعد صدور قرار مجلس الأمن الأخير، القاضي بمنع التعامل التجاريّ مع التنظيمات المتشدّدة في سوريا، وحظر شراء النفط منها. ما نقل الإتجار بالنفط السوريّ إلى الدهاليز الخلفية من الاقتصاد العالميّ.
تجارة النفط السوداء!
يقوم تنظيم الدولة ببيع النفط لوسطاء في السوق السوداء الإقليمية، يقومون بدورهم بتصريفه لجهاتٍ عدّة، أهمها النظام السوريّ. ويقدّر حجم إنتاج تنظيم الدولة للنفط بحوالي 125 ألف برميلٍ يومياً، بسعر 12 دولاراً للبرميل الواحد، ما يعني دخول حوالي المليون ونصف مليون دولارٍ أمريكيٍّ لخزينة التنظيم يومياً. وهو ما يعتبره الكثيرون أكثر من كافٍ لتمويل حروب "الدولة" في سوريا، حتى لو تخلى عنها جميع داعميها.
يتم تهريب القسم الأكبر من النفط المنتج في سوريا إلى دول الجوار، خصوصاً تركيا. وتقدّر إحصائيات الحكومة التركية حجم النفط المهرّب من سوريا إلى تركيا، حتى منتصف عام 2014، بما يزيد عن 300 ألف برميل.
ويتخذ الكثير من سكان القرى والمدن السورية والتركية المجاورة للحدود من تهريب النفط السوريّ مهنةً لهم، بسبب انخفاض ثمنه، والفارق الكبير في سعره بين البلدين. إذ يتراوح سعر لتر النفط في سوريا بـين 50-75 ليرة سورية، بينما يصل إلى حوالي 400 ليرة سورية داخل تركيا، الأمر الذي وفّر مصدر رزقٍ لآلاف العائلات.
وعن كيفية تأمين النظام لحاجته من النفط، يقول رجل الأعمال السوريّ المنشقّ فراس طلاس إن "النظام تعاقد مع شركة هيكي هورن، لتأسيس شبكةٍ من المرتزقة لحماية أنابيب النفط، من القامشلي إلى بانياس. وهورن، صاحب الشركة، ضابطٌ سابقٌ في جيش جنوب أفريقيا، ومرتزقٌ دوليٌّ شهير، كان قد تعاقد سابقاً مع شركة "بلاك ووتر" الأمنية في العراق. ويسمح عقده باستخدام كلّ الوسائل، والتعامل مع كلّ المكوّنات المسيطرة على المناطق، من تنظيم الدولة الإسلامية وحتى القوّات الكردية، مروراً بمقاتلي العشائر".
وأشار طلاس إلى أنّ "أغلب ضباط هورن هم من ضباط الموساد الإسرائيلي المتقاعدين، ما يعطي مؤشراً قوياً بأن النظام مستعدٌّ للتعامل مع أي جهةٍ لتأمين حاجاته من المحروقات، خصوصاً بعد توقف حليفته إيران عن تزويده بالمازوت والبنزين، اللذين كانت تنقلهما بواخر إيرانيةٌ شهرياً إلى الساحل السوريّ، ضمن اتفاقية التسهيل الائتماني الموقعة بين حكومة إيران وحكومة النظام".
تجارة السلاح توحّد الموالاة والمعارضة
أصبحت تجارة السلاح في الأراضي السورية إحدى أكثر أنواع التجارة رواجاً، فقد امتلأت حلب وإدلب ودير الزور بمحلات بيع الأسلحة والذخائر، على اختلاف أنواعها، كما تحوّل الكثير من السوريين للعمل ضمن شبكاتٍ منظّمةٍ لتجارة السلاح.
وعن طبيعة عمل هذه الشبكات يروي أبو محمد الحمصي، المقاتل السابق في كتائب الفاروق، لمجلة "صور": "غالباً ما تعمل شبكات تهريب الأسلحة بدءاً من لبنان، على ثلاث مراحل، تتولاها ثلاثة أقسامٍ من المهرّبين؛ إذ يقوم القسم الأوّل بشراء وتأمين السلاح في لبنان، ويوفّر الثاني المخابئ، خوفاً من مداهمات الأمن اللبنانيّ، أما القسم الثالث فيتولى نقله، بواسطة البغال، عبر الجبال والمعابر الترابيّة الوعرة، بتسهيلاتٍ من عدد من الفصائل اللبنانية الموجودة هناك".
وعن هوية تجار الأسلحة يضيف أبو محمد: "يعمل في تجارة السلاح سوريون ولبنانيون، معارضون وموالون للنظام السوريّ، تجمعهم التجارة والربح، وإن كانت تفرّقهم السياسة".
ولا يقتصر الإتجار بالسلاح على العصابات العابرة للحدود، فلعناصر النظام وقواته العسكرية والأمنية باعٌ طويل في هذه التجارة. وقد كانت المافيات الموالية للنظام من أولى مصادر تأمين السلاح والمضاربة بأسعاره في الأزمة السورية.
يروي نوري الحاج عبد الله، من منطقة الزعفرانية شمالي حمص، والمقاتل في صفوف الجيش الحرّ، لمجلة "صور": "أوّل قطعة سلاحٍ اشتريتها كانت من عنصرٍ يخدم في فرع الأمن العسكريّ، من قرية المخرّم الموالية. وقد دفعت ثمنها 350 ألف ليرة".
ويضيف نوري: "ما زالت تجارة السلاح عملاً أساسياً للعديد من جنود النظام لكسب المال".
ويمكن، من شهادة مختلف الأطراف المشاركة في الحرب السورية، استنتاج وجود سوقٍ موازيةٍ للحرب، لتداول الأسلحة والذخائر، وبيعها أو تأجيرها. وقد انشغلت الكثير من فصائل المعارضة المسلحة والفرق العسكرية التابعة للنظام بهذه التجارة، والاستفادة من عوائدها الكبيرة، بحيث صار استمرار الحرب مصلحةً حيويةً للطرفين، حتى لا ينقطع "رزقهم" من حالة الخراب التي تعمّ البلاد.
***
صناعة الغزل والنسيج في سوريا بعد الأزمة:
خرابٌ عامٌّ، وإمكاناتٌ تتدفّق إلى دول الجوار
جورج. ك. ميالة
كان قطاع صناعة الغزل والنسيج ثاني أكبر دخلٍ صناعيٍّ للاقتصاد السوريّ، فقد كان يسهم قبل عام 2011 بـ 12% من الناتج المحليّ الصافي، وحوالي 63% من الناتج الصناعيّ. وتعمل في هذا القطاع حوالي 20% من اليد العاملة السورية. وكانت سوريا تصدّر سنوياً ما قيمته 3,3 مليار دولارٍ بين غزلٍ ونسيجٍ وألبسةٍ جاهزة.
وتشير بعض التقارير إلى انخفاض صادرات القطاع الخاصّ من الغزل والنسيج إلى 50%، وإلى أن حوالي 40% من معامل الألبسة الجاهزة في حلب ودمشق خصوصاً قد أغلقت أبوابها بين عامي 2008 و2009، لأسبابٍ عديدةٍ منها الاستيراد غير المنتظم أو المدروس، والفساد الجمركيّ، وغلاء أسعار المواد الأولية، بالإضافة إلى ضعف القدرة الشرائية للمواطن السوريّ.
ولم تستفد سوريا من انتقال مراكز صناعة الغزل والنسيج والألبسة من الدولة المتقدمة إلى الدول النامية، إذ لم تسمح الحكومة بقيام استثماراتٍ أجنبيةٍ في هذا المجال، كما أنها لم تحفز القطاع الخاصّ على تحويل الغزول إلى أقمشةٍ قطنية.
واقع صناعة الغزل والنسيج بعد الأزمة
ذكر موقع سيريا ريبورت الاقتصاديّ التابع للنظام، نقلاً عن المؤسسة العامة للصناعات النسيجية، أن خسائر قطاع الغزل والنسيج بلغت 135 مليون دولارٍ بعد حوالي سنتين من بداية الأزمة.
ففي دمشق انخفض إنتاج قطاع الغزل والنسيج إلى ما دون الـ40% نتيجة حالة الحرب الراهنة. وأشار تقريرٌ أصدرته نقابة عمال الغزل والنسيج في دمشق عن واقع الصناعة، إلى أن الشركة التجارية الصناعية المتحدة (الخماسية) توقفت بشكلٍ كاملٍ عن العمل عام 2013، نتيجة عدم قدرتها على تأمين المواد الأولية، وعدم قدرة العمال على الوصول إلى مكان العمل.
وأشارت تقارير صادرةٌ عن وزارة الصناعة التابعة لحكومة النظام إلى أن نسبة التنفيذ في معمل سجاد دمشق لم تتجاوز الـ5%، نتيجة وجود المعمل في منطقةٍ ساخنةٍ لا تسمح بدوام العمال.
أما في حلب فتقع المدينة الصناعية على بعد 15 كم شمال شرق المدينة، بالقرب من قرية الشيخ نجار، وتتربع على مساحة قدرها 4412 كم.
ومع دخول الجيش الحرّ إلى أحياء مدينة حلب في الشهر السابع من العام 2012، وسيطرته على المدينة الصناعية، صبّ النظام جام غضبه على المنطقة، وأمطرها لمدّةٍ تزيد عن العام بوابلٍ من القصف بمختلف أنواع الأسلحة والطيران الحربيّ، ما أدّى إلى دمار أجزاءٍ واسعةٍ منها. قبل أن ينجح في استعادة السيطرة عليها بشكلٍ كامل.
يروي أبو يامن، من كتائب "الصفوة الإسلامية"، التي كانت تتمركز في المنطقة الصناعية قبل سيطرة النظام عليها، لمجلة صور: "طلب الكثير من أصحاب المعامل من الكتائب المرابطة في المنطقة الصناعية تفكيك المعامل ونقلها إلى الحدود التركية لقاء أجرٍ محدّد. ووافق الكثير من عناصر الجيش الحرّ على ذلك تحت ضغط الحاجة إلى المال من أجل شراء السلاح والذخيرة".
ويضيف أبو يامن: "انتشرت عصابات سرقةٍ ونهبٍ دخيلةٌ على الثورة، سرقت وفكّكت بعض المعامل، ولم تترك حتى كابلات الكهرباء، وباعت النحاس في السوق السوداء. وقد حاول بعض أصحاب المعامل إعادة تشغيلها رغم كل الظروف القاسية والقصف المتواصل. وسعت بعض فصائل الجيش الحرّ قبل خروجها من المدينة، إلى مساعدتهم وتأمين ظروف العمل لهم، ولكن قصف الطيران الحربيّ لم يبقِ على شيء، ومنعهم من مواصلة العمل".
واقع صناعة الغزل والنسيج في دول الجوار
اضطرّت أغلب رؤوس الأموال إلى الهرب خارج سوريا، نتيجة الحرب العنيفة، وتوجه معظمها نحو تركيا ومصر، وبالدرجة الثانية نحو الأردن.
ففي مصر صرح خلدون الموقع، رئيس مجلس الأعمال السوريّ المصريّ، في نهاية عام 2013، أن 30 % من رؤوس الأموال الهاربة من سوريا، وصلت إلى مصر.
وقال المهندس عمر الضبع، منسّق لجنة العلاقات الخارجية بالجمعية المصرية للاستثمار الدوليّ، ومسؤول ملف الاستثمارات السورية، في تصريحٍ له في العام نفسه أن "20 مصنعاً ضخماً قيد الإنشاء في مصر، وجميعها في قطاع الغزل والنسيج، بالإضافة إلى المئات من المنشآت الصناعية المتوسطة، وورش الخياطة والورش الصناعية الصغيرة". وقدّر الضبع كلفة المعمل الواحد بين 10 إلى 700 مليون دولار.
وأضاف الضبع أن "الحكومة المصرية قرّرت إقامة منطقةٍ صناعيةٍ لرأس المال السوريّ بمدينة العاشر من رمضان، على طريق القاهرة ـ الإسماعيلية، بمساحةٍ تتجاوز الـ 500 ألف مترٍ مربع. ومن المتوقع أن هذه المعامل سوف توفر 20 ألف فرصة عملٍ للعمالة المصرية والسورية اللاجئة إلى مصر".
وتوفّر الحكومة المصرية العديد من المزايا للمستثمرين السوريين، منها الخامات الجيدة، والأيدي العاملة الرخيصة، والتسهيلات الضريبية، نتيجة عراقة صناعة الغزل والنسيج في مصر.
يروي محمد شعراوي، وهو صاحب منشأةٍ لخياطة الجينز بمدينة الإسماعيلية المصرية، لمجلة صور: "كنت أملك ورشةً لخياطة الألبسة في المدينة الصناعية بحلب، مكوّنةً من 20 ماكينة خياطة. وعند اشتداد الحرب قرّرت نقل مشغلي إلى مصر، فنقلت الماكينات إلى تركيا وشحنتها عبر البحر من مدينة مرسين التركية".
ويضيف محمد: "الحياة في مصر رخيصة. وأيام حكم الرئيس مرسي كانت هناك تسهيلاتٌ كبيرةٌ للسوريين، فقمت بجلب نفس العمال الذين كانوا يعملون لديّ في حلب. والألبسة التي ننتجها نسوّقها في السوق المصرية أو نصدّرها إلى ليبيا".
أما في تركيا فيتميّز عمال قطاع النسيج من السوريين بخبرتهم الواسعة التي كسبوها من العمل في معامل الغزل والنسيج في سوريا، ولكن أكثر ما ينغّص عليهم معاملتهم كلاجئين، وعدم خضوعهم لقانون العمالة التركي.
يروي ناصر عويني، اللاجئ من مدينة حلب، لمجلة صور: "عملت لمدة ثلاثة عشر عاماً في عدّة معامل بحلب، كان آخرها معمل صباغ وشراباتي، الذي يعتبر من أكبر معامل النسيج في الشرق الأوسط. ولكن القصف بالبراميل المتفجرة على حيّ مساكن هنانو جعلني أسافر مع عائلتي إلى مدينة غازي عنتاب. أعمل في معملٍ للغزل والنسيج لمدة إحدى عشرة ساعة يومياً، وأحتاج إلى ساعةٍ للوصول إلى المعمل. راتبي حوالي الـ 500 دولار، وبالكاد يكفينا مصاريف طعامٍ وأجرةً للبيت".
ويضيف عويني: "يعاني العامل السوريّ، وخصوصاً من لا يملك جواز سفر، من استغلال أصحاب المعامل الأتراك، فغالباً راتب العامل التركيّ أعلى من راتب السوريّ. عداك عن التهديد المتواصل بالطرد، إضافةً إلى انتشار ظاهرة عدم دفع الرواتب".
وختم عويني بالقول: "للأسف أكثر من يستغلّ العامل السوريّ هو صاحب المعمل السوريّ. نحن لا نلوم صاحب المعمل التركيّ لأنه أجنبيّ، ولكن نلوم أصحاب المعامل السوريين الذين يعطون العامل السوري راتباً أقلّ من الرواتب التي يدفعها أصحاب المعامل الأتراك".
وتسعى الحكومة التركية إلى جعل العمالة السورية أكثر فعاليةً وإنتاجاً، عن طريق مجموعةٍ من المراسيم المفيدة، كان آخرها الموافقة على إنشاء منطقة صناعةٍ حرّةٍ بالقرب من مدينة كلس على الحدود السورية التركية، والتي يتوقع أن يبدأ إنشاؤها والعمل فيها في آب المقبل. ومن المتوقع أن توفر حوالي 70 ألف فرصة عملٍ للسوريين بالمرتبة الأولى، وللأتراك بالمرتبة الثانية، الأمر الذي سوف يسهم في حلّ أزمة العمالة السورية في تركيا.