بلاد الخلود والموت
قراءةٌ في رواية "السوريون الأعداء" لفوّاز حداد
أنجيل الشاعر
اختار فوّاز حداد، الكاتب السوريّ الدمشقيّ الهوى، لروايته السياسية التسجيلية عنواناً إشكالياً ومستفزّاً، يثير انطباعاتٍ وآراءً متباينةً وأحكاماً متناقضةً تتناول فنيّة الرواية ورؤية الكاتب. فقد تناول الرواية بالتحليل والنقد كلٌّ من الروائيّ نبيل سليمان (الحياة، 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2014)، وصبر درويش (القدس العربي، 30 نوفمبر 2014)، وخالد الاختيار (العربي الجديد، 23/9/2014)، وسالم الأخرس (موقع الأوان، 10 آذار/ مارس 2015)، وغيرهم. وتباينت مواقفهم منها. كما تداولتها مدوّناتٌ ومواقع إلكترونيةٌ. المثير في العنوان أنه يحتمل تأويلاتٍ مختلفةً للخبر المسكوت عنه، والمتروك تقديره للقارئة أو للقارئ؛ فمن هم السوريون الأعداء؟ وما سرّ هذه العداوة؟
ينطوي العنوان على مفارقةٍ تخترق الرواية وتحكم تفاصيلها وشخوصها، وتشير إلى مشكلاتٍ جدّيةٍ تتعلق بالمجتمع والدولة والسلطة السياسية والنظام الاجتماعيّ وعلاقات القوّة التي تؤسّس السياسة. ولكن الكاتب يختزل هذه المشكلات في تناقضٍ مفترضٍ بين سلطةٍ يمسك بزمامها علويون، وبين "مسلمين سنّة" يمثلهم الإخوان المسلمون وشريحةٌ ضيقةٌ من التجّار.
تمتدّ الرواية بين مرحلتين زمنيتين متباعدتين، تبدأ الأولى في شباط (1982) بأحداث حماة، التي احتلّت الجزء الأعظم من الرواية، والثانية تبدأ من عام 2011، وتنتهي عام 2012، العام الذي أنهى فيه الكاتب روايته، والأزمة السورية لا تزال مفتوحة. وقد ربط الكاتب بين الفترتين بطريقةٍ مباشرةٍ وفجّةٍ توحي بأن ما حدث عام 2011 استمرارٌ للفترة الأولى، من حيث الأعمال الانتقامية والممارسات الطائفية، كأن التاريخ يعيد نفسه، ويصنعه الأقوياء.
القراءة في هذه الرواية متعبةٌ، لتشابك السياسيّ والتأريخيّ والأيديولوجيّ، وضمور النكهة الأدبية التي قد تخفّف على القارئ وطأة الألم، أو تعمل على تصعيده، وتعفي النصّ من الإغراق في السياسة المباشرة. كان على الكاتب أن يحيل الحدث إلى رمزٍ، كي يرى القارئ أبعاده في الحركة التاريخية وآفاقها الممكنة. هذا ما يجعلني أصف الرواية بأنها روايةٌ تسجيليةٌ، تنطلق من الحدث (كما تأوَّله الكاتب) وتهتمّ بالتواريخ وأسماء الأمكنة والأشخاص. وهي قدرةٌ على الإيهام بأن ما يحدث حقيقيٌّ محض (طبعاً هناك كثرةٌ من الحقائق لا يمكن نكرانها، كما لا يمكن إنكار أن الكاتب رفع اللامعقول السوريّ إلى مستوى الخيال).
سليم الراجي، محامٍ من حماة انتقل إلى دمشق وعمل قاضياً في القصر العدليّ بمساعدةٍ من صديقه "الأستاذ رشدي"، رئيس محكمة النقض؛ هو السارد الأوّل في الرواية، المتحدّث بضمير المتكلم، والذي لا يغيب من البداية حتى النهاية (لم يفارقني الشعور بالخطر منذ غادرتُ حماة قبل ثلاث سنوات).
أما السارد الثاني فهو ورقيٌّ يتحدّث بضمير الغائب، ويتكفّل بكشف ما في مؤسّسات الدولة من فسادٍ، وما قامت به بعض وحدات الجيش من أعمالٍ وحشيةٍ خلال الأحداث التي دارت في حماة، وما يجري من انتهاكٍ لحرّية الإنسان وكرامته في المعتقلات والسجون، وخصوصاً سجن تدمر، بأسلوب التقارير الصحفية والتحليلات السياسية المسطّحة.
قرّر الكاتب أن يبدأ بأحداث حماة وينتهي بالوضع الراهن في سورية، مسقطاً البداية على النهاية بطريقةٍ تعسّفيةٍ ناجمةٍ عن رؤيةٍ أيديولوجيةٍ واعتقادٍ راسخٍ بأن هذه السلطة هي هي، وأنها عصيّةٌ على التعديل أو التغيير.
عدنان، الذي اعتقله الضابط سليمان وقتل عائلته ووالديه، ولم ينجُ منهم إلا الرضيع حازم، الذي أنقذته عجوزٌ أرسلها القدر، وأوصلته إلى جامع سيدي عمر في حمص، محمِّلةً إمام الجامع مهمّة إيصاله إلى عمّه سليم في دمشق؛ تهمتُه أنه طبيبٌ يعمل في المشفى الوطنيّ بحماة قد يكون عالج إرهابيّي المدينة. نجا عدنان من الإعدام الجماعيّ في حقل الرمي -وهي الطريقة التي كانت متّبعةً في تلك الفترة- بفضل مساعدٍ كان عدنان قد أسدى إليه معروفاً قبل وقوع الأحداث، مما يظهر الطيبة الريفية وفضيلة الاعتراف بالجميل. ولكنه أُرسل إلى سجن تدمر وعانى من ويلات التعذيب وانفصامٍ (شبه إراديٍّ) في الشخصية، يشير إلى محو شخصية الإنسان وهدر كرامته وحقوقه وتحويله إلى رقم.
أما الضابط سليمان، الشخصية المحورية في الرواية، وسيلقب بالمهندس، (إشارةً إلى طريقة هندسة السلطة)؛ فقد وصل إلى رتبته عن طريق التسلق والانتهازية و"الوغدنة" والغدر. إذ سلّم خاله، الذي انشقّ عن حزب البعث عام 1968، إلى حبل المشنقة، انتقاماً من ابنة هذا الخال رباب، التي رفضت حبّ سليمان والزواج منه. وقد منحه هذا الفعل امتيازاً جعل منه فيما بعد أحد رجال القصر الموثوق بهم، وذا باعٍ طويلٍ في التحكّم بجميع مؤسّسات الدولة وأهمها المؤسّسة القضائية، والمؤسّسة الإعلامية التي ترسّخ في أذهان الشعب كلّ ما تُلقِّنه من عقائد وشعاراتٍ تطلقها السلطة. وتتسم شخصية سليمان بالبطش والإجرام تعويضاً عن فشله في الدراسة: (حدّق الجد في عيون الضابط، رأى الموت فيهما وليس في الرصاص (ص31). وقد كان مشرفاً على كتائب البعث التي احتلت المدارس وحوّلتها إلى معتقلاتٍ جماعيةٍ، ونهبت المحالّ التجارية بالتعاون مع جنود الجيش آنذاك. كما نراه، في وسط الرواية، مسؤولاً عن قضايا التفتيش واعتقال من يسبح ضدّ التيار، ودون الرجوع إلى الرئيس. مما يثير إشكاليةً عند القارئ في تفسير الأمور: هل أعفى الكاتب مؤسّسة الرئاسة من المسؤولية؟ أم أنها هي من تمنح أمثال سليمان تخويلاً مطلقاً للتجاوزات مهما بلغت من انتهاك الحرمات وإذلال الشعب، وإلقاء المسؤولية على الإرهاب المتمثل في تنظيم الإخوان في تلك الفترة؟ مما جعل سجن تدمر يعاني من الاكتظاظ بكلّ من هو ملتحٍ أو حامل سبحةٍ أو مؤمنٌ بالله، ومن يحمل شهادةً عليا، كالطبيب والمهندس والباحث. مما يحمل على القول بأن السلطة هي الكابح الأول لكلّ الكفاءات والخبرات، خوفاً على نفسها، لأن انتشار الوعي بين أوساط الشعب والمراكز الوظيفية يهدّد ديكتاتوريتها واستمرارها في الحكم. والإشكالية الثانية في الرواية هي التلاعب بشخصيات سجن تدمر -الذي أخذ الجزء الأكبر من الرواية- عن طريق السارد الورقيّ المتحدّث بالنيابة عنها، مما منع الشخصيات من التعبير عن أنفسها وإظهار ملامحها. لم يتكلم الطبيب عدنان عن معاناته: (جُرَّ الطبيب عدنان إلى ساحة السجن)، (عُذِّب حسّان).
ولم تظهر المرأة في الرواية إلا في شخصية لميس، الطالبة في كلية طب الأسنان، والمتناقضة بين الطيبة (العناية بأمها المجنونة) وبين الانتهازية التي أدّت بها إلى التلاعب بعواطف الضابط السنّيّ مروان، الذي اكتسب شهرته من قسوته المفرطة على المعارضين من السنّة. وبعد التخلص منه على أيدي أجهزة المخابرات انتقلت لميس إلى التلاعب بالمهندس (الضابط سليمان)، لتمرير تجارتها بالأجهزة الطبية عن طريق التهريب من بيروت إلى دمشق. واستمرّت علاقتها به بعد أن تزوّجت من غيره. وسوى لميس، تحضر فتيات دورة المظليات التابعة لسرايا الدفاع آنذاك (أهذه هي المرأة السورية فقط؟). كما نشهد غياب النشاط الاجتماعيّ في كافة مجالات المجتمع المدنيّ.
إن في خروج الطبيب عدنان من السجن، ولقائه بأخيه القاضي سليم، وبابنه الذي تركه رضيعاً فوجده محامياً بفضل رعاية عمّه الذي أخفى عنه حقيقة أهله المغدورين، وفي التحاق عدنان بجماعته المجهولة للقارئ في الحقبة الثانية من الرواية، وجرّ ابنه إلى الالتحاق بإحدى الجماعات الإسلامية؛ تأكيداً من الكاتب على روحٍ انتقاميةٍ ورؤيةٍ طائفيةٍ واضحةٍ أسقطها على السوريين، ليست في الحقيقة إلا انزلاقاً سلطوياً لا يمكن تفسيره بعاملٍ واحدٍ، بدأ منذ زمنٍ طويلٍ، وأدّى إلى خلود السلطة والموت العبثيّ بين ثنايا ما يسمّى الوطن.