info@suwar-magazine.org
التغريبة الحلبيّة
Whatsapp
Facebook Share

 
النازحون يعيشون في البراري.. والمقيمون يُدفنون تحت الأنقاض

 

سامي الحلبي

 

هذه رسالةٌ إلى العالم وجّهها رجلٌ حلبيٌّ في السبعين من العمر، من سكان حيّ الفردوس: "منشان الله، أولادي تحت الأنقاض من أربعة أيام في منطقة الزبدية. أناشد كافة الفصائل والكتائب المقاتلة في حلب، أو أيّ شخص يستطيع مساعدتي، أن يؤمّن لي رافعة أو جرّافة مشان طلّع أولادي من تحت الأنقاض. اتقوا الله فيني، أولادي الثلاثة الوحيدون تحت الأنقاض في منطقة الزبدية!".

هي واحدةٌ من رسائل عديدةٍ وجّهها رجالٌ من حلب إلى العالم منذ بداية عام 2014. وبعد مرور سبعة أشهرٍ لم يلبّ أحدٌ النداء.

 

ما هو البرميل المتفجّر؟

 

غالباً ما تُنفَّذ الغارات بالبراميل المتفجّرة عن طريق سربٍ من أربع حوّاماتٍ ترافقها طائرة سوخوي أو ميغ للقصف الصاروخيّ الموجّه والرصد. تحلّق الحوّامة على ارتفاعٍ يتراوح بين 5-7 كم، وتلقي من هناك البرميل.

 

يستغرق البرميل حوالي الدقيقة للوصول إلى "الهدف". وفي هذه الأثناء يحلّق قائد الحوّامة حتى يتأكد من انفجار البرميل، فإذا لم ينفجر ألقى برميلاً آخر في المنطقة نفسها، لينفجرا معاً محدثين أضراراً مضاعفة.

 

براميل محدّثةٌ فوق رؤوس أبناء حلب:

 

يتكوّن البرميل عادةً من حوالي 200-300 كغ من مادة التي إن تي، تضاف إليها مشتقاتٌ نفطيةٌ لتسريع الاشتعال، بالإضافة إلى مسامير و"خردةٍ" معدنيةٍ مدبّبة الأطراف، الهدف منها إيقاع أكبر أذىً ممكنٍ في المنطقة المستهدفة. ويضاف إلى البرميل صاعقٌ ميكانيكيٌّ من أجل ضمان الانفجار.

 

يروي الناشط هلال الحلبي لمجلة "صور": "لجأ النظام مؤخراً، بمساعدة خبراء إيرانيين وروسٍ، إلى تطوير نموذجٍ جديدٍ من البراميل، في أحد مراكز البحوث في منطقة الساحل. إذ أضاف إلى البرميل القديم زعانف توجيهٍ تجعله يسقط بشكلٍ طوليٍّ، بدلاً من البراميل التي كانت تسقط بشكلٍ عرْضيٍّ أو مائلٍ، وإمكانية انفجارها أقلّ. وبذلك تصبح إمكانية تدمير الهدف محقّقة".

 

وأضاف هلال: "زاد وزن البرميل المحدّث ليصل إلى 600 كغ، الأمر الذي ضاعف قوّة الانفجار الحاصل".

يُذكر أن البراميل المتفجّرة سلاحٌ من ابتكار الاتحاد السوفياتي، استخدمه للمرّة الأولى في الحرب العالمية الثانية ضد القوّات النازية. وهو سلاحٌ عشوائيٌّ يُستخدم لتدمير المدن، وكسر الروح المعنوية للأعداء.

 

أكثر من خمسمئة برميلٍ على حلب في شهرٍ عاديّ:

 

ذكر المرصد السوريّ لحقوق الإنسان في تقريرٍ سابقٍ له: "سُجّل سقوط 1963 مدنياً جرّاء قصف طيران النظام بالبراميل المتفجّرة مدينة حلب، منذ مطلع 2014 وحتى 29 أيار 2014".

 

وأضاف التقرير أن القتلى يتوزّعون بين "567 طفلاً دون سنّ الثامنة عشرة، و283 أنثى، و1113 رجلاً فوق سنّ الثامنة عشرة".

ويؤكّد التقرير أن "هذا الإحصاء لا يشمل القتلى في صفوف مقاتلي المعارضة، الذين غالباً ما تستهدفهم الغارات الجوية".

وقال المعهد السوريّ للعدالة، في تقريرٍ مطوّل: "سقطت 509 براميل متفجّرةٍ و260 صاروخاً من الطيران المروحّي والحربيّ على مدينة حلب وريفها، في شهر حزيران الفائت".

كذلك أفاد المعهد، ومقرّه مدينة حلب، بأن عدد ضحايا القصف بلغ "354 مدنياً، بينهم 86 طفلاً، و52 امرأةً، و7 عسكريين، وإعلامياً واحداً، في الشهر نفسه".

 

المنظمات الطبية تواجه صعوباتٍ كبيرة:

 

منذ بداية حملة البراميل على حلب، في نهاية عام 2013 وحتى الآن، لم تتوقف الكوادر الطبية في هذه المدينة عن إطلاق نداءات الاستغاثة المتواصلة، بسبب عجزها عن معالجة المصابين، وقلة الأدوية والتجهيزات، وضعف منظومة الإسعاف. إذ لا توجد سوى خمسة مشافٍ خاصّة، بالإضافة إلى نقاطٍ طبيةٍ ميدانيةٍ غير مجهّزةٍ بغرفٍ للعناية المركّزة الإنعاش.

 

 

يروي الممرّض طارق أبو الفحم، من حيّ بستان القصر، لمجلة "صور": "يومياً نقف عاجزين أمام أعداد الجرحى الهائلة جرّاء القصف بالبراميل المتفجّرة. الإصابات خطيرةٌ جداً ومعقدة. وفي غالبيتها نضطرّ آسفين إلى بتر أحد الأطراف العلوية أو السفلية، نتيجة ضعف الإمكانيات وقلة الأجهزة الطبية الدقيقة".

 

ويضيف: "لا يتجاوز عدد المشافي الخاصّة في الجزء الشرقيّ من حلب خمسة مشافٍ، كلّ واحدٍ منها مجهّزٌ بغرفةٍ أو غرفتين للعمليات الدقيقة. كيف ستستطيع هذه المشافي تغطية ضحايا عشرات البراميل التي تلقى فوق رؤوسنا؟!".

 

ويؤكد أبو الفحم أن "نقص الكوادر الطبية المؤهلة، كجرّاحي الأوعية الدقيقة، يزيد من تعقيد الأمور. لذلك نضطرّ إلى تحويل أغلب الإصابات الصعبة إلى المشافي الحدودية، وخصوصاً في إعزاز وكلس".

 

ويختم حديثه بالقول: "كثيراً ما تُستهدف المشافي بالبراميل المتفجّرة، كما حصل في مشفى دار الشفاء بحيّ الشعار، ما يؤدّي إلى خروجها من العمل. الأمر الذي يضعف المنظومة الطبية بحلب، والتي تعدّ ضعيفةً بالأصل وغير قادرةٍ على سداد الحاجات".

 

 

قاهرو الموت اليوميّ.. رجال الدفاع المدنيّ:

 

مع اشتداد موجة القصف بالبراميل المتفجّرة، برز دور رجال الدفاع المدنيّ، وغالبيتهم من المتطوّعين، مع بعض المنشقين عن الدفاع المدنيّ التابع للنظام.

تعمل فرق الدفاع المدنيّ وسط ضعف الإمكانات المادية، وعدم وجود المعدّات اللازمة لرفع الأنقاض، وعدم توافر الوقود اللازم لعمل الآليات. ويشتكي العاملون من إهمال وتقصير الحكومة السورية المؤقتة، وعدم تزويدهم بالمبالغ اللازمة والأدوات الضرورية.

 

يروي الناشط أبو خالد الحلبيّ لمجلة "صور": "استشهدت عائلةٌ مؤلفةٌ من أربعة أشخاصٍ خنقاً تحت الأنقاض في بلدة كفر حمرة، بعد عجزنا الكامل عن رفع ثلاثة أسقفٍ انهارت فوق رؤوسهم، وكذلك الأمر في عدّة مواقع. يومياً أموت ألف ميتةٍ عندما أرى أمامي بشراً يصرخون ويموتون تحت الأنقاض، ولا أستطيع تقديم العون لهم وإنقاذهم".

 

ويؤكد أبو خالد: "بعد عدّة مناشداتٍ ومطالباتٍ وإضراباتٍ، نفّذها رجال الدفاع المدنيّ في حلب، استجابت الحكومة المؤقتة لبعض مطالبنا. ولكن، للأسف، يبقى التقصير سيّد الموقف، فكثيراً ما يتوقف (التركس) عن رفع الأنقاض بسبب نقص المازوت وعدم قدرة الدفاع المدنيّ على شرائه".

 

ويضيف: "نعمل تحت خطر الموت اليوميّ بقصف البراميل المتفجرة. وراتب العامل في الدفاع المدنيّ لا يتجاوز الـ 150 دولاراً، بينما أقلّ راتبٍ لموظفٍ في الحكومة السورية المؤقتة في تركيا ألف دولار!".

 

أهالي حلب بين النزوح إلى مناطق النظام واللجوء إلى مخيّمات تركيا:

 

باتت الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضة في حلب خاليةً من الحياة، بعد دخول القصف اليوميّ بالبراميل المتفجرة شهره العاشر. فقد أصبحت أحياء المرجة والمعصرانية ومساكن هنانو وطريق الباب فارغةً من السكان تماماً، وأغلقت معظم المحالّ التجارية أبوابها، وهرب الأهالي من بيوتهم، وبات الدمار منتشراً في أزقة وأرجاء تلك الأحياء، جرّاء انفجار عشرات البراميل يومياً.

 

توجّه أهالي حلب إلى الحدود السورية التركية، أو إلى المناطق النائية في الريف، بينما فضّل آخرون النزوح إلى الطرف الغربيّ من المدينة، الخاضع لسيطرة النظام.

 

 

النزوح إلى مناطق النظام:

 

شهد معبر كراج الحجز، قبيل إغلاقه، والذي يصل بين مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة المعارضة، ازدحاماً شديداً بسبب حركة النزوح الكبيرة. وقامت أجهزة النظام الأمنية بتشديد إجراءات التفتيش، وضيّقت الخناق على المدنيين أثناء مرورهم. كما منعت إدخال أية موادّ غذائيةٍ باتجاه مناطق المعارضة.

 

وقُصف المعبر عدّة مراتٍ بقذائف الدبابات، ما أدّى إلى وقوع عددٍ من الضحايا بين قتيلٍ وجريح. واستمرّ قنّاصا القصر البلديّ والإذاعة بفتح الرصاص عشوائياً على النازحين. وبعد صدور قرار إغلاق المعبر تضاعفت معاناة الفارّين باتجاه مناطق سيطرة النظام، إذ صاروا يضطرّون إلى التوجه إلى مدينة سلمية بحماة عن طريق خناصر، والعودة منها إلى مناطق سيطرة النظام.

 

يروي أبو عمر، وهو موظفٌ من مدينة حلب: "أقام الكثير من النازحين الخيم عند دوّار الباسل، وبالقرب من فرع الأمن العسكريّ، بينما افترش آخرون الأراضي عند مداخل البنايات والأزقة في أحياء حلب الجديدة والسليمانية ومنطقة جامع التوحيد، دون أن يجدوا سكناً يليق بهم كبشر".

ويضيف أبو عمر: "تنفّذ الأجهزة الأمنية حملاتٍ لطرد النازحين من المساجد والمدارس. ومنع الأمن أصحاب المكاتب العقارية من تأجير المنازل للنازحين من تلك المناطق، مما سبّب زيادة وضع النازحين صعوبة. وسُجّلت عدّة حالات اعتقالٍ لشبانٍ واعتداءاتٍ بالضرب عليهم، بالتزامن مع حملة اعتقالاتٍ واسعةٍ تشهدها الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام، وخصوصاً في حيّي الحمدانية وحلب الجديدة، بالقرب من "أكاديمية الأسد" معقل قوّات النظام وكتائب حزب الله".

 

وعن الإغاثة التي يتلقاها النازحون يقول أبو عمر: "تستحيل إغاثة النازحين، لأن عملية الإغاثة تتطلب روتيناً معقداً، أوله تسجيل المسكن، ثم قيام المتطوّعين بالكشف على العائلات، ثم تقديم العون. وتتطلب هذه العملية ما لا يقلّ عن شهر، عداك عن المخاطر الأمنية، وقلة عدد المتطوّعين العاملين مع الجمعيات".

 

وعن معاناته الشخصية يقول: "أنا موظفٌ في إحدى مديريات مدينة حلب. أذهب شهرياً لقبض راتبي البالغ 20 ألف ليرة، وأحتاج للوصول إلى حلب 12 ساعةً في الذهاب ومثلها في الإياب، وأجرة الطريق ثلاثة آلاف ليرة. في السابق كانت الرحلة لا تحتاج أكثر من ربع ساعة".

 

الحدود السورية التركية:

 

معظم النازحين من أبناء مدينة حلب توجّهوا إلى الريف الحلبيّ الشماليّ أو إلى تركيا. تروي أم محمد، النازحة من حيّ المشهد إلى بلدة بيانون في الريف الشماليّ: "نجونا من برميلٍ متفجّرٍ سقط على البناية المجاورة لبيتنا، فقرّرنا النزوح فوراً إلى قرية زوجي. بتنا عدداً من الليالي عند أقاربنا، لنفاجأ بالقصف اليوميّ على بيانون بالبراميل والصواريخ أيضاً، فقرّرنا أن ننصب خيمةً في إحدى مزارع الزيتون المحيطة بالبلدة، نتوجّه إليها صباحاً ونقضي يومنا، ثم نعود في المساء إلى بيت أقاربنا للنوم".

 

توجّه الكثير من الحلبيين إلى تركيا، متوقعاً الأفضل، ولكن غلاء الأسعار الفاحش، مقارنةً مع سورية، خيّب آمال الكثيرين. يروي عبد الجبار غلاونجي لمجلة "صور": "توجّهت مع أسرتي المكوّنة من خمسة أولادٍ وأمّهم إلى تركيا، حاملاً معي مبلغ مئة ألف ليرةٍ سوريةٍ (حوالي 600 دولار)، لأصدم بأن الإيجار الشهريّ للبيت في مدينة "نيزب" يبلغ حوالي 250 دولاراً شهرياً. عندها قرّرت التوجّه إلى المخيّمات. وبعد انتظارٍ دام أكثر من عشرة أيامٍ نقلتنا السلطات التركية إلى مخيّمٍ على طريق كلّس غازي عينتاب. المخيّم في غاية السوء، إذ لا توجد فيه خدماتٌ تذكر، وننام في خيامٍ تصل درجة الحرارة فيها نهاراً إلى حوالي 40 درجة. وبعد شهرٍ من الإقامة في المخيم عثرتُ على غرفةٍ مهجورةٍ بالقرب من مدينة كلّس، جهّزتها وبنيت فيها مرحاضاً وأوصلت الكهرباء إليها بمساعدة مواطنٍ تركيٍّ، وسكنّا فيها. أعمل على بسطةٍ لبيع الدخان. وأربح، بعد اثنتي عشرة ساعةً من العمل اليوميّ، حوالي 10 دولاراتٍ، أستطيع بها تأمين قوت أطفالي".

 

تلخّص هذه الصورة المأساوية جانباً كبيراً من التغريبة الحلبية التي تمتدّ فصولها بلا نهايةٍ مع استمرار الحرب والدمار.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard