عن مستقبل سوريا
مقاربة نظرية
جاد الكريم الجباعي
السؤال الحارق الذي يشغل السوريات والسوريين اليوم، بعد أن تمادى العدم في حياتهم، هو سؤال المستقبل. متى ستوقف هذه الحرب المدمّرة؟ ماذا بعد إيقافها، سواء بإرادةٍ ذاتيةٍ أم بإرادةٍ إقليميةٍ ودولية؟ هل ستظل سوريا "موحَّدةً"، كما كانت قبل عام 2011، أم ستتحول إلى دويلاتٍ وكانتوناتٍ ومعازل؟ ما شكل النظام السياسيّ الممكن؟ وكيف ستكون العلاقة بين "الأكثرية" و"الأقليات"؟.. سيلٌ من الأسئلة التي تولّد أسئلةً، ولا جواب يشفي حرقة السؤال.
ولما كان سؤال المستقبل سؤالاً عن المجهول أو الغيب، على نحو ما يُفهم المستقبل في اللغة المتداولة والوعي العامّ، فلا بدّ أن يستحضر قوّة الغيب وقوّة القدر من الماضي، فيصير السؤال سؤالاً لا عن "المستقبل"، بل عن الماضي وأشكال استعادته أو استحضاره واستقباله. الماضي، كما هو متداولٌ بين الناس، ضدّ الحاضر ونقيضه. وهو، حسب تأويلنا، غيرُ الحاضر وعدمه، ومن ثمّ، فإن الماضوية غيريةٌ جذريةٌ متطرّفةٌ، أو غيريةٌ جذريةٌ وعدميةٌ خالصة، لا للحاضر بصفته زمناً، بل بصفته شكل وجود الذات، (الذات هنا هي المجتمع السوريّ والشعب السوريّ). نقصد بالغيرية الجذرية المتطرّفة إنكار الذات والذاتية، أي أن يسلم الناس مقاليد أمورهم لـ"الغير"، سواء كان هؤلاء من "السلف الصالح" أم من الدول الصديقة والحليفة، كما هي الحال اليوم. وإنكار الذات والذاتية، أي الاستقلال والحرية، هو إنكار ذاتية الآخر المختلف والأخرى المختلفة أساساً، إنكار حرية الآخر المختلف والأخرى المختلفة واستقلالهما، أي إنكار إنسانيتهما واعتبارهما مادةً وموضوعاً لإرادة ذاتٍ متعسّفةٍ ومستبدةٍ، ليست ذاتيتها سوى ذاكرتها.
الماضي هو عدم الحاضر، هو العدم الملازم للوجود في الحاضر، هنا والآن، هو الموت الملازم للحياة في الحاضر، هنا والآن.. الماضي هو الذي يموت في الحاضر، ويتعفن في ثناياه ويسمِّمه، فيملأ الذاكرة المعتمة، ويجعل الأموات يمسكون بتلابيب الأحياء، ويقرّرون اتجاهاتهم وأفكارهم وتصوّراتهم عن أنفسهم وعن الآخرين، ويتحكّمون في مصائرهم، إذا لم يُعلَن موتُه والحداد عليه. فلا مستقبل للسوريين وغيرهم من دون الاعتراف بما مات على أنه ميتٌ، لا رجعة له، ولا فائدة منه، لكي تمتلئ الذاكرة بالحياة. فإن فكرة "الاعتبار" و"التعلم من دروس الماضي" تقوم على افتراض أن الحياة تكرّر ذاتها بحركةٍ دورانيةٍ وعبثية. الماضي لا يعلّم شيئاً سوى الفرار من الحاضر والعجز عن تدبير المستقبل، كما هي حالنا.
المستقبل يمضي في الحاضر وبعضُه يموت فيه. صيغة "المستقبل الماضي" ليست صيغةً شعريةً خالصة، على الرغم من شعريتها، عند لويس أراغون، بل حدسٌ إنسانيٌّ بما هو الزمن، وتأويلٌ عقلانيٌّ لما هو التاريخ. المستقبل الماضي حركةٌ ذاهبةٌ بعكس سير الإنسان، وبعكس سير التاريخ الذي يحمل فكرة التقدّم وإمكان التقدّم، وإمكان التراجع أيضاً. المستقبل هو ما يتحقق ويمضي، فللتاريخ طابعٌ مستقبليٌّ مؤكّدٌ، لأنه توقيع ممكناتٍ على حساب ممكناتٍ أخرى، كما عرّفه الياس مرقص. المستقبل هو الممكن، على كلّ صعيدٍ. هذا عكس المفهوم المتداول للتاريخ، وسبب التباسه بالتأريخ، أي تدوين الوقائع والأحداث، وفق تسلسلها الزمنيّ، الخطّيّ (ماضٍ – حاضرٌ – مستقبل). هذا الالتباس هو أساس التصور التقليديّ للزمن على أنه آناتٌ متتابعةٌ، وانفصاله عن المكان أو استقلاله عنه، وأساس فكرة "الأصالة" و"الاستمرار التاريخيّ" أيضاً. المعنى الأعمق للزمن هو شكل وجودنا المتغيّر باستمرارٍ في المكان المتغيّر باستمرار، في العالم الذي نبنيه لأنفسنا. الزمان والمكان وجهان متلازمان للوجود الحاضر دوماً. "الحاضر هو اللحظة التي تملأ الوجود".
قد يكون المستقبل الماضي هو اللحظة التي مرّت للتوّ دون أن ندركها، أو الفرصة المواتية التي لم نعرف كيف نستغلها، فتغدو فرصةً ضائعةً ومضيِّعةً، كالثورة السورية السلمية، وتغدو الحياة سلسلةً من الفرص الضائعة، من أهمّها، على الإطلاق، أولادنا الذين لم نحسن تربيتهم على القيم الإنسانية المشتركة، وأردناهم نسخاً كربونيةً عنّا، ولم نحسن تعليمهم، إذ تركناهم لنظامٍ تعليميٍّ فاسدٍ لم نسائله يوماً، وسلطةٍ تعليميةٍ جاهلةٍ، تحشو أدمغتهم بالترّهات والأوهام، وتملأ قلوبهم بالحقد والضغينة. وإلا فمن أين جاء هؤلاء المقاتلون الأشاوس، ومن أين جاءت هذه الهمجية سوى من المدرسة والمعهد والجامعة والمسجد والكنيسة والمعبد.. ومن الحرمان؟
كلّ فعلٍ نقوم به هنا والآن يغدو ماضياً فور إنجازه، لكن نتائجه المباشرة وغير المباشرة هي المستقبل. قدرتنا على التحكّم في أفعالنا والسيطرة على نتائجها هي قدرتنا على تدبير مستقبلنا ومصيرنا. ما نحتاج إليه، نحن السوريين، اليوم، للخروج من دائرة العدم، هو هذه القدرة على التحكّم في أفعالنا والسيطرة على نتائجها، وهذه الأخيرة ليست مضمونةً دوماً إلا بانضباط الأفعال وانتظامها في أطرٍ مؤسّسيةٍ تشاركيةٍ ينتجها الأفراد لأنفسهم، لا لتعزيز ما هو مشتركٌ بينهم فقط، بل لإدارة اختلافهم أساساً.
يقول الفيلسوف الفرنسيّ المعاصر رنسيار: "ليس ثمّة مستقبلٌ في انتظارنا.. ثمّة فقط الكثير من العمل لمن لا يريد أن يموت أحمق.. وتبّاً للمتعبين". ويقول الفيلسوف الألمانيّ هيغل: "إن ما هو عقليٌّ متحققٌ بالفعل، وما هو متحققٌ بالفعل عقليٌّ. ولو كان التفكير، أو العاطفة، أو أية صورةٍ شئتَ من صور الوعي الذاتيّ، تنظر إلى الحاضر على أنه شيءٌ باطلٌ، وتسعى إلى تجاوزه بمنظار حكمةٍ أعلى، فإنها تجد نفسها في فراغٍ؛ ولأنها لا تكون موجودةً بالفعل إلا في الحاضر فحسب فإنها هي نفسها مجرّد عبثٍ باطل". سؤال المستقبل هنا هو سؤال العمل والتفكير والعاطفة، سؤال العقل والأخلاق، وكيف يمكن تحريرهما من الذاكرة المعتمة، من وهم تجاوز الحاضر بمنظار حكمةٍ أعلى من حكمة الإنسان، وقوّةٍ غير قوّة المجتمع المدنيّ. "أصدقاء الشعب السوريّ"، من الشرق والغرب والشمال والجنوب، يصنعون مستقبلهم، بل يدبّرون حاضرهم، وليسوا معنيين لا بحاضر الشعب السوري ولا بمستقبله، وليسوا بقادرين على منحه حاضراً أفضل أو مستقبلاً أفضل، وإن حسُنت نياتهم، وليست كذلك.
صارت لدينا "قضيةٌ سوريةٌ" إلى جانب "القضية الفلسطينية" وقضايا أخرى مشابهة. الذين اعتبروا القضية الفلسطينية "قضيةً قوميةً"، لا قضية الشعب الفلسطينيّ، لا يمانعون جعل القضية السورية قضيةً إيرانيةً أو روسيةً، وواقع الحال شاهدٌ على ذلك. والذين اعتبروا القضية الفلسطينية قضيةً إسلاميةً (سنّيةً) لا يمانعون جعل القضية السورية قضيةً تركيةً أو سعوديةً، وواقع الحال شاهدٌ على ذلك أيضاً. هكذا يغدو الوعي الذاتيّ والعاطفة القومية أو الدينية عبثاً باطلاً، ويغدو المستقبل الماضي ذاكرةً معتمة. فلا بدّ من النسيان، إذ لا سعادة ولا صفاء ولا رجاء من دون نسيان. لا يكون الحاضر حاضراً والمستقبل مستقبلاً حاضراً بلا نسيان.
ليس ثمّة مستقبلٌ بانتظارنا، بل ثمّة مستقبلٌ نصنعه هنا والآن، ولكننا لا نصنعه على هوانا، كما لاحظ ماركس. هكذا يتعاشق المستقبل والتاريخ. والتاريخ بالضبط هو ما يجري في الحاضر، هنا والآن، حسب المتكلمة أو المتكلم، لا ما جرى في زمنٍ آخر، بفعل أناسٍ آخرين، لا تربطنا بهم أية رابطةٍ ميتة. ليس للسوريين أيّ مستقبلٍ إذا لم يستعيدوا قضيتهم من أيدي المتاجرين بها، وإذا لم يجتهدوا في تدبير مستقبلهم الذي هو ممكنات حاضرهم ليس غير. من غير ذلك يبقى الكلام على "دولةٍ مدنيةٍ تعدّديةٍ" أو دولةٍ ديمقراطيةٍ أو دولةٍ فدراليةٍ وعقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ.. مجرّد كلام.