info@suwar-magazine.org

قراءة في التعصب

قراءة في التعصب
Whatsapp
Facebook Share

 

ريدي مشو 

 

التعصب مفردة قديمة في اللغة ولها ما يقابلها في كل زمن من الأفعال والاتجاهات ما يساعد على بقاءها، لا بل أنه في العصر الحديث تشبعت بآليات جديدة وتوسع مداها لحد كبير، لدرجة يمكن القول بأن جمهوريات وممالك التعصب قد قامت وسادت، وحروب التعصب المحلية والإقليمية والعالمية هي التي حددت السمات الأساسية للتاريخ المعاصر.

 


في اللغة العربية، التعصب من العصبية، والعصبية أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أم مظلومين. وفي اللغة اللاتينية التعصب يعني «الحكم المسبق».

 

معنى التعصب كما هو موجود في اللغة العربية قادم تماماً من الأفعال والتصرفات القبلية والتي تتسم عادة بقدر كبير من الجهل بدقائق الأمور، مما يدفع بالقبيلة وأفرادها للدخول في حروب طويلة من أجل حدث قد يكون بسيطاً بل وحتى تافهاً، لكن الأفراد يستمرون في دفاعهم عن قبيلتهم دون  أن يتساءلوا: هل  الدخول في اقتتال ميداني أو معركة كراهية طويلة الأمد اتجاه قبيلة أخرى هو أمرٌ صواب؟!

 

بالتأكيد التعصب تجاوز القبلية إلى القومية والدين وحتى الدولة بجماعاتها وتشكيلاتها المتنوعة، وكل هذه التشكيلات تتصرف وفق نبض القبيلة الأولى!

 

تناول مفهوم التعصب العديد من المفكرين الإسلاميين والليبراليين منذ حوالي 150سنة، وشمل تناولهم العديد من جوانب التعصب في الدين والقومية، من هؤلاء الكتاب أديب اسحق وهو كاتب سوري كتب مقالته حول التعصب والتساهل في عام 1874، ويركز فيها على سمة الجهل في الشخص المتعصب دينياً، ويقول بأن التعصب هو من مفاسد الرئاسة، حيث أن «رئيس كل جماعة قد وضع أحكاماً وفق ما توهم من مصلحة أو ما يميل إليه قومه، وهكذا قالت كل جماعة بأن الحق ما نحن عليه فتنافروا وتقاتلوا على أبسط وأتفه الأشياء وازداد جهلهم من أجل تثبيت رأيهم». وطرح اسحق بالمقابل مفهوم «التساهل» كونه يعبّر عن تقبل الآخر برأيه واتجاهه المختلف وعدم التعرض له كرهاً أو أذية بأي شكل من الأشكال.


جمال الدين الأفغاني كتب مقالة عن التعصب في عام 1884، تحدث فيها عن التعصب من ناحية إيجابية كونه آلية خيرة من أجل حماية الأمة والدين، وأن كلمة «التعصب هي من العصبة، وهي قوم الرجل الذين يعززون قوته ويدفعون عنه الضيم والعداء، فالتعصب وصف للنفس الإنسانية تصدر عنه نهضة لحماية من يتصل بها والذود عن حقه (....)، وهو عقد الربط في كل أمة، بل هو المزاج الصحيح يوحد المتفرق تحت اسم واحد، وينشئها بتقدير الله خلقاً واحداً»، وكذلك وضّح الأفغاني رأيه بوضوح أكبر: «التعصب: روح كلي مهبطه هيئة الأمة وصورتها، وسائر أرواح الأفراد حواسه ومشاعره، فإذا ألمّ بأحد المشاعر ما لا يلائمه من أجنبي عنه، انفعل الروح الكلي، وجاشت طبيعته لدفعه».


وهاجم الأفغاني في مقالته الكتّاب الذين يدعون إلى مواجهة التعصب، وقال بأنهم: «لا يميزون بين حق وباطل»، وهم عملاء غربيون مزندقون يحاولون ضرب هذه الفضيلة العليا في الأمة الإسلامية. ويقول في المقالة نفسها بأن التعصب ينبغي أن يكون معتدلاً: «فتعصب المشتركين في الدين، (...)، إذا وقف عند الاعتدال، ولم يدفع إلى جور في المعاملة ولا انتهاك لحرمة المخالف لهم أو نقض لذمته فهو فضيلة من أجلِّ الفضائل الإنسانية». ويؤكد أنه حتى لو كان هناك إفراط في التعصب الديني، فإنه سيكون مؤقتاً وسترجع الأمة إلى أحكام الدين واعتداله مجدداً.

 

أما فرح أنطون فقد كتب مقاله حول التساهل عام 1902 واجه فيها التعصب الديني، وجاءت مقالته رداً على مفهوم التعصب عند محمد عبده، والذي كان يماثل في منظوره ما طرحه الأفغاني، وأكد أنطون بأن البشر هم البشر ولو اختلف ديانتهم، ولا ينبغي أن يهتم الإنسان بدين الآخر، ويحق لأي شخص التمتع بكافة خيرات الأمة ويمكنه أن يترشح للرئاسة كذلك، وقال بأن السلطة الدينية لا يمكنها أن تقدّر هذا التساهل، وركز كذلك على أن أسياد الدين هم من يحولون الدين واتجاهاته إلى: «آلات لكبح جماح شعوبهم وقضاء أغراضهم السياسية أو الخصوصية».  وكانت رؤيته هذه بمثابة مقدمة لمقالته التالية وهي حول الفصل ما بين السلطة المدنية والدينية، والتي اعتبرت من أهم المناظرات في هذا الشأن بينه وبين محمد عبده في ذلك الزمن.


يوجد للتعصب عنصرين: أحدهما إيجابي وهو شعور الشخص بالجماعة التي ينتمي إليها، سواء أكانت قبيلة أم وطناً أم مذهباً فكرياً أو دينياً، والعنصر السلبي هو اعتبار الفرد بأن الفئات الأخرى هي أحطّ من الفئة التي ينتمي إليها. تلازم هذين العنصرين أمر طبيعي، لأن الشخص الذي يحطّ من قدر الفئات الأخرى انما يسعى لرفع شأنه وليقدر نفسه بصورة أفضل، وهو بذلك يبدو وكأنه يتكئ كره الآخر كي يحب نفسه أكثر! فالرفيع والنبيل عند نيتشه لا يكره الآخرين ولا يتعصب ضدهم، لأنه لا يحتاج من أجل تأكيد ذاته إلى مقارنة نفسه بغيره أو التسلق على أكتاف الآخرين.

 

وقد حددت العديد من الدراسات السمات الشخصية التي من الممكن أن تقود إلى التعصب لاحقاً، ومن هذه السمات: الجمود المعرفي-الانفعالي والقلق وعدم تحمل الغموض، ولعل من أبرز السمات التي ركزت عليها الدراسات كانت «المجاراة»، وهي انقياد الفرد للتصرف وفق رغبات الجماعة خوفاً من العقوبات سواء كانت حقيقية أو وهمية، وهي صفة تتواجد كثيراً في المجتمعات المنغلقة إيديولوجياً كمجتمعاتنا.


عادة ما يسعى الأفراد في المجتمع إلى اتخاذ أقصر الطرق من أجل خلق إطار لعلاقاتهم مع الآخرين، وهذه الطرق المختصرة غالباً ما تتحقق من خلال القوالب الجاهزة عن كل فئة مغايرة، وذلك بأن يتم تعميم عدّة سمات على كامل أفراد هذه الفئة، وبالتالي إن التقى أحدهم بفرد من الجماعة المستهدفة سيكون لديه حكم مسبق حول التعامل معه أو تحاشيه أو إيذائه، ووفق هذه الآلية إنما يسعى الأفراد لتقليل الجهد اللازم لمعرفة الأشخاص، وبذلك يقللون من الجهد العقلي والتحليلي ويتجهون نحو الخمول والبلادة والجمود، ويحسبون أنفسهم أذكياء وأوفياء لجماعتهم في الوقت عينه!


هذه بعض النقاط الأولية حول مفهوم التعصب وبعض الآراء حوله، يمكنها أن توضح للقارئ الآليات البسيطة التي تقود للتعصب وسلوكياته المعقدة والمكلفة على المجتمع ونهضته، إلا أن الموضوع يحتاج إلى الكثير من الدراسات والأبحاث لفهم عقلية التعصب وبناه الاجتماعية، وكيفية تجسده في الواقع الملموس للمجتمعات، ودراسة أبعاده في الحالة السورية التي تعنينا أساساً، باعتبارنا نعاني أكثر من غيرنا من ويلات التعصب بكل أنواعه، السياسي والاجتماعي والمناطقي والطائفي، الذي دمر بلادنا على كل الصعد والمستويات، وربما سيكون له أيضاً أثر سلبي كبير على مستقبلنا.


وخير ما ننهي به هذه المقالة هذه الكلمات لأمين الريحاني من عام 1900: «التساهل أيها الشيوخ الأجلاء. التساهل أيها الشباب الناهضون. التساهل أيها الصحفيون والأطباء والتجار. التساهل أيها السوريون الأحباء. التساهل! لو كان لي ألف لسان وتكلمت من الآن إلى يوم الدين لما عييت من ترداد هذه اللفظة العذبة السهلة اللطيفة».

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
آخر المقالات
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard