التقسيم ومشروع الدولة الفاشلة
علي ملحم
مع دخول الثورة السورية منتصف عامها الخامس، ومع تصاعد حدّة الصراع ووتيرة تدويل الأزمة السورية، بحيث وصلت إلى الحدّ الذي لم يعد فيه أيّ مجالٍ لابتداع حلولٍ أو ابتكار استراتيجياتٍ سياسيةٍ بعيداً عن أيّ اعتباراتٍ إقليميةٍ أو دوليةٍ شاملة؛ يجعل كلّ هذا من مآلات الثورة، ومآلات الحرب -باعتبارهما منفصلتين بالأهداف متلازمتين بالسياق- تتشعبان بالمسارات والخيارات، لكنهما تعودان فتصبّان بالمجمل نحو مآلٍ مشتركٍ وحيد.. ألا وهو التقسيم!
يلوح التقسيم، كشبحٍ أو غولٍ سليط، يُجمع الكلّ السوريّ على نكرانه وتجاهله تمنياً، وقبوله والاستسلام له أمراً واقعاً ومفروضاً. فتحليل الوضع العسكريّ وفرز الحدود بين أمراء الحرب، أو أصحاب الأمر في المناطق، يجعل التقسيم واقعاً حقيقياً غير معلن. حتى أن الناس في الداخل السوريّ أخذوا يتبنون طبيعة حياةٍ وطبيعة تفكيرٍ واعتباراً للمناطق المختلفة على هذا الأساس. فسكان الغوطة معزولون في كانتونهم، تحكمهم سلطةٌ وقوانين وعلاقاتٌ اقتصاديةٌ واجتماعيةٌ تختلف جذرياً عن تلك التي تحكم وتسود بين الناس القاطنين على بعد كيلومتراتٍ عنهم في قلب العاصمة دمشق. كما أن التشكيل الاجتماعيّ في الشمال السوريّ غدا كانتوناً له محاكمه ومؤسّساته وحتى عملته "الليرة التركية حالياً"، والتي تختلف كليّاً عن محاكم الخلافة الإسلامية ودنانيرها ودراهمها التي تسود في الرقة وحتى أقصى تخومها في جرابلس التي تفصل بين دويلتي الأكراد بين عفرين وكوباني شرقاً وغرباً.
ليس الوضع العسكريّ وحده ما ينبئ بوجود واقع التقسيم ومآله، فالحالة السياسية على الصعيد الدوليّ تشي شيئاً فشيئاً باقتراب وقوعه. فتركيا، التي تلوّح حالياً بإقامة المنطقة العازلة في الشمال السوريّ، لا تبغي منها إلا منطقةً جغرافيةً استراتيجيةً تبدّد أحلام ومطامح حزب الاتحاد الديموقراطيّ بإقامة الفدرالية الكردية في سوريا، وتشكل منطلقاً لدولة "المعارضة المعتدلة" في الشمال السوريّ، والتي تدرّب أمريكا "صديقة الشعب السوري" مقاتليها الآن كي يكونوا فرق مارينز تجعل من هذه المنطقة خاليةً من داعش، ولكن ليس من صواريخ "الأسد" وبراميله.
التقسيم، وإن كان مفروضاً بسلطة الأمر الواقع، إلاً أن ما يجذّره بمرارةٍ أقسى وبشدّةٍ أعنف تلك البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية التي تنهمر دون أيّ تمييزٍ فوق الأراضي السورية الخارجة من سلطة الأسد. هنا ينقسم الوطن السوريّ على صعيد الموت حتى. فتتولد من جرّاء ذلك أواليةٌ ذاتيةٌ تقسم النسيج المجتمعيّ السوريّ على صعيد النفوس والعقول. لم يعد ابن الساحل بقادرٍ على أن يستشعر الألم الذي يهيم بين شوارع مدينةٍ قرب عاصمة دولته مثل دوما، كما أن ابن مدينة سقبا لا يجمعه أيّ اعتبارٍ نفسيٍّ أو اجتماعيٍّ مع أهالي دمشق الذين يأكلون ويشربون ما يشتهون في مطاعم وحاناتٍ ليليةٍ، أما هو فيُسكت ألم معدته بحفنةٍ من حبات الشعير.
هذا التقسيم العسكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ والنفسيّ لسوريا، لا يُسقط معه حدود الدولة والوطن فحسب، إنما يسقط معه ممكنات الانتماء وحوامله الوطنية، إن كان هناك من بقايا لها بعد كلّ هذه المجازر وكلّ هذه الفظاعة التي تحملها الصور المتداولة في الإعلام وعلى الصفحات الشخصية لمواقع التواصل الاجتماعيّ. فليس لك من قدرةٍ على أن تقول أو تؤمن بوطنٍ يجمع السوريين وأنت ترى طفلك الرضيع يغرق بدمائه ولست قادراً على أن تجمع أشلائه المبعثرة في سوق دوما، فما بالك بأن تجمع وطناً بأكمله.
قد يكون التقسيم حلّاً في النهاية، قد يكون من المفيد أن نبقى في أرضٍ أقلّ حجماً مقابل سفكٍ أقلّ لدماء أطفالنا، لكن ما يحمله التقسيم ليس مجرد تقطيعٍ عبثيٍّ لمساحة من الأرض. إن هذا التقطيع لا يصبّ في النهاية إلاّ في مصلحة طرفٍ واحد ليس إلا، هو نظام الأسد. فإذا كان لنا أن نعتبر أن التقسيم سيتمّ لا محالة، فإن السيناريو الأقرب واقعيةً للحدوث هو تقسيم الخارطة السورية عمودياً إلى ثلاث دويلاتٍ متجاورةٍ ومتناحرة. في أقصى الشرق لدينا داعش "دولة الخلافة الإسلامية". وهذه الدويلة موجودة ومؤسسة، شئنا أم أبينا. وقد أخذت ترسم ملامحها وحدودها وعلاقاتها المعلنة وغير المعلنة مع دول الجوار، من بيع النفط والغاز لتركيا وكردستان العراق، ونظام الأسد حتى. ثم لدينا في الداخل دولة "سوريا الثورة"، أو ما اصطلح على تسميته "دولة الإيمان"، التي تمتد في الشمال من حلب وإدلب وصولاً إلى حماة. ويستحوذ النظام على ما بقي من سوريا والتي ستكون "دولة الأسد"، أو ما اصطلح على تسميته "دولة الكفر"، وستمتد على طول الساحل وصولاً إلى دمشق ودرعا، مروراً بمدينة حمص ومناطق القلمون. أما الحديث عن دويلةٍ أو كانتونٍ للمكوّن الكرديّ السوريّ فيبدو أن الفاعل التركيّ، ممثلاً بحزب العدالة والتنمية، يصبّ كامل جهوده وعلاقاته الدولية والإقليمية لمنع إقامته وحدوثه.
قد يمثل السيناريو سابق الذكر حلاً لسيل الدم المسفوك، لكن السؤال هل سيكون مفيداً ونصراً للشعب السوريّ الثائر؟ بالنظر إلى الوضع الاقتصاديّ السياسيّ لهذه الدويلات المتشكلة نجد أن "دولة سوريا الثورة"، أو "دولة الإيمان" هي الحلقة الأضعف في السيناريو؛ فهي سوريا المدمّرة التي فعلت فيها طائرات الأسد وصواريخه ما فعلت على مدار خمس سنواتٍ منذ انطلاق الثورة، وهي سوريا التي لا تملك أيّ منفذٍ بحريٍّ، والتي يهيم في ظهرها وحش داعش الأصوليّ وتحكمها نزاعات أمراء حربها من جبهة نصرةٍ وأحرار شامٍ وجيش مجاهدين. إنها، بكل تأكيد، "سوريا الضارّة"، التي ستظل بؤرةً للتحارب والمجازر والحصار والجوع. وسيبقى للأسد "سوريا المفيدة" بكلّ ما فيها من مؤسّساتٍ وبنىً تحتيةٍ ومنشآتٍ ومرافئ بحريةٍ وعلاقاتٍ مؤسّسةٍ مع الجوار، وبامتدادها الإقليمي نحو لبنان عبر "حزب الله"، وتحالفها الاستراتيجيّ السريّ مع إسرائيل.
هكذا لن يكون التقسيم، إن كان له المضيّ وفق هذا السيناريو، سوى هزيمةٍ أخرى للثورة ولسوريا الحرية في مقابل نصرٍ آخر للأسد في معركته الوحشية مع الشعب السوريّ التائق إلى الخلاص من الاستبداد والديكتاتورية.