فيلم الأرض المحايدة لتانوڤ يتش
عبثيّة الحرب في انتظار غودوت
عمار عكّاش
ليس مجرّد فيلمٍ آخر عن الحرب ما قدّمه المخرج البوسنيّ Danis Tanović في ظهوره السينمائيّ الأوّل، بل تمرّدٌ على سرديّات الحرب المعتادة،؛ إذ يغيب الطابع الملحميّ، ولا يكون الامتزاج بين الكوميديا والميلودراما بصورته التقليدية، وحتى الواقعيّة لا تأتي صادمةً تعجّ بالجثث والصرخات والنواح. تركيبةٌ فريدةٌ تجعل الناقد يحار كيف يصنّف الفيلم، والتصنيف بطبيعته اختزالٌ للأعمال الفنية العظيمة.
يبدأ الفيلم بصوت ترنيمٍ بشريٍّ أنثويٍّ رثائيٍّ، وتنقطع بعد ذلك الموسيقى التصويريّة كليّاً.
يضلّ مجموعة جنودٍ بوسنيّين طريقهم في الضباب فيُقتلون على يد الصرب. ينتهي المطاف بجنديٍّ صربيِّ غرٍّ (نينو) وجنديٍّ بوسنيٍّ (شيكو) سويّةً في خندقٍ فاصلٍ بين جبهتي القتال، ومعهما مقاتلٌ بوسنيٌّ مستلقٍ على لغمٍ ارتداديٍّ سينفجر في حال نهوضه. في حوارٍ طريفٍ يتشاجران مثل طفلين حول من بدأ الحرب، إلى أن يصوّب شيكو السلاح على نينو ويسأله: "من بدأ الحرب؟".. يجيب نينو تحت التهديد: "نحن من بدأها". وبعد برهةٍ يستولي نينو على البندقية ويكرّر ما فعله شيكو حرفيّاً. إنها سلطة السلاح أو القوّة، لها الكلمة الفصل في العلاقات السياسيّة وربما البشرية.
يستنجد الجنديّان الخصمان بقوّات الحماية الأمميّة، في مشهدٍ طريفٍ بالتلويح بقمصانهم الداخلية. يتجاهلهم القائد المتغطرس الوصوليّ لهذه القوّات، لكنّ رقيباً فرنسياً (مارشو) يقرّر التدخّل مستجيباً لما يمليه الحسّ الإنسانيّ السليم أكثر من مما يمليه حسّ البطولة الرجوليّة، فعلى حدّ تعبيره:
"الحياد في وجه القتل يعني عدم الحياد". تتدخل مراسلةٌ تلفزيونيّةٌ بريطانيّةٌ متعطّشةٌ للسبق الصحفيّ (جين)، وتحثّ، تحت التهديد بالفضيحة، القوّاتَ الدوليّة على التحرّك. ولدى بلوغ هذه القوّات الخندق، حيث الجنود الثلاثة، يصيح شيكو: "وصل السنافر"، في إشارةٍ ساخرةٍ إلى قبعاتها الزرقاء وعجزها عن فعل شيء!.. يؤكّد خبير الألغام الألمانيّ استحالة إبطال اللغم الأمريكيّ الصنع؟!.
إنه لغم الكراهية والتقسيم الطائفيّ والإثنيّ الذي ما إن يُنزَع فتيله حتى يدمّر كلّ شيء. ينتهي الفيلم بقتل الجنديين الصربيّ والبوسنيّ لبعضهما على مرأىً من القوّاتِ الدوليّة وتحت أزيز كاميرات الصحافة، ويُترَك الجندي المستلقي على اللغم وحيداً بعد أن تقوم القوّات الدولية بتمثيل عمليّةٍ وهميّةٍ لنقله إلى المشفى.
يستخدم المخرج، بكثافةٍ، زوايا الكاميرا لتمثيل علاقات السلطة؛ ففي المشهد الذي تتحدث فيه المراسلة التلفزيونية إلى الجنديين العالقين في الخندق يتغير موقع الكاميرا من أعلى إلى أسفل وبالعكس، وحين يُطلق الجندي الصربيّ النار على البوسنيّ تنتقل الكاميرا من الزاوية العليا إلى السفلى حسب من يمتلك البندقية. أما صورة الخندق فهي تمثيلٌ رمزيٌّ للحرب؛ موحشٌ يُسمع فيه صوت أزيز حشراتٍ، فيما يذخر محيطه بجماليّاتٍ رعويّةٍ؛ تناقضٌ بسيطٌ يكشف عن تدمير البشر للجمال في حياتهم.
تتبدّى فوضى التنسيق الدوليّ في العجز الدائم عن التواصل اللغويّ بين الجنود متعدّدي الجنسيات والبوسنيين والصرب، والمفارقة أن الجنديين العدوَّين وحدهما يتحدّثان اللغة ذاتها ويتشاجران مثل أخّين بأسلوبٍ طفوليٍّ. إنّهما الأقرب إلى بعضهما، لكنّها الأكثر عداوة!!. حتى أنهما يكتشفان أنهما كانا معجبَين بالفتاة نفسها ذات يومٍ غابر، لكن الكراهية تنتصر في النهاية. حتى قصّة الفيلم ذاتها تمثيلٌ رمزيٌّ لاندلاع الحرب وتطوّرها؛ اقتتالٌ بين جنديين من أبناء بلدٍ واحدٍ ينتهي بقدوم الصحافة والقوّات الدوليّة.
في المشهد الختاميّ ينظر الجندي المستلقي على اللغم إلى السماء (في انتظار خلاصٍ إلهيٍّ) دون حلٍّ نهائيٍّ للحبكة، وينطلق نفس الترنيم النسائيّ الحداديّ الذي استُهلَّ به الفيلم، فالحرب لدى تانوڤيتش حالة انتظارٍ دائمةٌ يعيشها البشر؛ انتظارٌ لغودوت صموئيل بيكيت.
بقي أن نذكر أن الفيلم، حين عُرض للمرة الأولى في الولايات المتحدة، شهد حضوراً من مختلف قوميّات يوغسلافيا السابقة. ضحك الحضور وتفاعلوا مع كلّ النكات سويّةً، ومارسوا، مرّةً أخرى، تقليداً بلقانياً علمّتهم إياه بلادٌ لم تغادرها الحرب يوماً، السخرية المرّة وسيلةً للتأقلم مع واقعٍ مريرٍ بلا هوادة...
لمشاهدة الفيلم كاملاً ؛
الترجمة غير متوفرة