العولمة والنّسل "الملعون"
نارت عبد الكريم
بَيَّتَا، في عملية احتضارٍ سَرْمَدِيِّةٍ، صرامة آلةٍ تسيلُ كنموذجٍ انتهى كمالهُ فتهاوى بإنتاجه مسخاً ما عاد بمقدور أحدٍ التخلص منه، لحضارةٍ تأسّستْ منذ أربعة آلاف عامٍ على صورة مركبةٍ لمحاربٍ صيادٍ، وذلك ما لا يريد أحدهما ولا كلاهما الإقرار به، أو تحمّل مسؤوليته، كما لا يريدان، كلاهما، الاعتراف بأبوّة هذا النّسل "الملعون" الذي جاءَ من زواجٍ آثمٍ دامَ أكثر من ستة عقودٍ بين أنظمة حكمٍ غربيةٍ ترفع شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان وأنظمة حكمٍ عربيةٍ مستبدّة. إنَّ تواتر الأحداث والعمليات واتساع رقعتها يؤكّدان ما أشرنا إليه آنفاً؛ فبدلاً من انكفاء "داعش" نتيجة ضربات التحالف وحلفائه أضحتْ أكثر بطشاً وجبروتاً وتوسّعاً، والعمليات الأخيرة في تونس والكويت ما هي إلاَّ بداية. ولكن، ما علاقة ذلك بالعولمة؟
إنَّ العلاقة بين القاعدة وأخواتها، من جهةٍ، والنظام الدوليّ الحديث، من جهةٍ أخرى، هي علاقةٌ بين وجهي عملةٍ واحدة، وهما في حالة تداخلٍ بنيويٍّ كما التوأم السياميّ. ولأنَّ نسل هذا السِفاح ملعونٌ كما كلُّ سِفاح، فلا عجب أنْ يتنصّلَ منه "والداه" فيسعيا إلى قتله تحت شعار محاربة "الإرهاب". لكنَّ ذلك لا يُلزمنا بالنسيان، أو يدفعنا إلى خانة الإحساس بالذنب أو جلد "الذات" وتحقيرها. فهذا المسخ، الذي تمّ توليده في أفغانستان إبّان الحرب الباردة، بمساعدةٍ أمريكيةٍ، عاد ليظهر من جديدٍ بحلّةٍ جديدةٍ مضافة إليها بصمات أجهزة الأمن في كلٍّ من سورية وإيران وتركيا وغيرهم.
وفي حين كان بمقدور الاستخبارات العسكرية الأمريكية -التي راقبتْ مخبأ بن لادن في باكستان لأشهر طويلةٍ قبل أنْ تقومَ بقتله- القبض عليه حياً ومحاكمته علناً، كما فعلوا من قبل مع قادة النازية الكبار الأكثر خطراً وإجراماً منه بما لا يُقاس، ومع مجرمي الحرب في صربيا، لكنهم آثروا التخلص منه ليس لأنَّه فقط رأس "الإرهاب" ومصدرٌ للخطر، بل لأنَّه أيضاً مجلبةٌ للعار. فالكثير من منتسبي القاعدة في سجون المملكة العربية السعودية كانوا لا يستوعبون سبب اعتقالهم، هم أنفسهم الذين أطلقت عليهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وحليفتها السعودية، لقب المجاهدين الأبطال إباّن حربهم ضدّ السوفييت. لا يعود هذا النّسل الهجين بتبعيته إلى قراءةٍ إسلاميةٍ متطرّفةٍ أو أصوليةٍ فقط، بل إلى ذلك العقد الآثم الذي أشرنا إليه آنفاً. لم يكن هذا العقد هو الأوّل من نوعه، فقد سبقهُ قرانٌ محرّمٌ، كما يقول عدنان حب الله، بين الخطاب العلميّ وبين الفكر الرأسماليّ، فأصبحَ الأوّل يخضعُ لسيطرة الثاني تحت شعار فلسفة الاستهلاك والعولمة.