فيلم رحلة أمل
الجنّة في السماء، لا فراديس أرضية
عمار عكاش
قال فيلسوفٌ مسّه ضربٌ من الجنون: "إن الأمل لم يُكتب لنا إلا بفضل أولئك الذين هم بلا أمل"*. وقال بعده مسرحيٌّ سوريٌّ: "نحن محكومون بالأمل".
قبل ربع قرنٍ قرأ المخرج السويسريّ خافيير كولر خبراً عن عائلةٍ تركيةٍ عبرت الألب من إيطاليا إلى سويسرا وفقدت طفلها، فقرّر أن يسرد حكاية هؤلاء الناس القابعين في القسم الآخر من العالم؛ ما الذي يدفعهم إلى القدوم إلى مجتمعاتٍ لا ترحّب بهم؟! وهكذا أُنتِج الفيلم بطاقم عملٍ تركيٍّ ومخرجٍ سويسريّ.
حيدر فلاحٌ كرديٌّ من ريف مرعش. أبٌ لأطفالٍ سبعةٍ. يقرّر الهجرة إلى سويسرا بعد تلقيه بطاقةً بريديةً من قريبه المهاجر يقول فيها: "الجنة هنا، والزبدة تتدفق من ضروع الماعز". ينطلق حيدر في رحلة التهريب مع زوجته وابنه الأصغر محمد علي، بدايةً في باخرةٍ من إسطنبول إلى نابولي، ثم مع مجموعةٍ من أبناء جلدته عبر جبال الألب، تقودهم مجموعة مهرّبين معدومي الضمير. وينتهي الفيلم نهايةً مأساويةً بضياع المهاجرين ووفاة الطفل متجمّداً. اتسم الفيلم بواقعيّةٍ عاليةٍ صبغتها صبغةٌ عاطفيةٌ تعبّر عن معاناة هؤلاء المهاجرين. يبدأ الفيلم بمشهدٍ لطقسٍ احتفاليٍّ ابتهاجيٍّ للتضحية بالخراف، مع أغنيةٍ من الموروث الدينيّ لعلويّي مرعش، من خلاله يلج المخرج مباشرةً إلى المناخ الثقافيّ والاجتماعيّ للمهاجرين، حيث الفقر، والمعاناة، وسيطرة الدين والعادات، وفقدان الأمل بالتغيير. عنِي المخرج بتقديم جماليّات الطبيعة القرويّة، لكن ذلك لم يكن اقتراحاً منه ببساطة وسهولة الحياة، فاللقطات الكبيرة تأتي في الفيلم كلقطاتٍ مؤسِّسَةٍ كي تحافظ على العلاقات بين الشخصيات والمحيط الفيزيائيّ، في كلّ مراحل رحلة التهريب؛ القرية، ثم ميناء إسطنبول، فنابولي، فجبال الألب.
في بداية الفيلم تنتقل الكاميرا من صور الغروب في القرية وقطعان الماشية إلى وجه حيدر وعيناه تحدّقان في الأفق كالصقر، تعبّران عن المعاناة والأمل في التغيير. وفي كلّ تحوّلات الفيلم كانت تعابير وجه حيدر تبوح بكلّ شيء؛ الأمل، الخوف، الحيرة، اليأس، الإحباط، الخسارة...
ظهر في الفيلم نوعان من البشر على الجانب الأوربيّ: ١- طيبون تقودهم فطرتهم فيرون في حيدر وعائلته بشراً مثلهم، كالبحّار الإيطالي، وسائق الشاحنة السويسريّ، اللذين ساعداهم. ٢-بعض العنصريين المتذمّرين مثل صاحب الفندق الذي وصل إليه المهاجرون بعد أن تاهوا، وضابط الشرطة.
نجحت واقعيّة الفيلم في العمل فنياً دون أن تُظهِر أنها تقوم بلعبةٍ فنية، وطُعِّمَت بتفاصيل رمزيّة؛ العنزة التي أكلت جزءاً من بطاقة المعايدة التي بقيت في يد الطفل حتى موته، والغصن الصغير الذي كان يمصّه الصبيّ للزكام وسقط من فمه وبدأ بعدها بالتجّمد. إضافةً إلى مشهدٍ واقعيٍّ-سرياليٍّ صادمٍ حين يبلغ المهاجرون بملابسهم البالية ووجوههم المتجمدة فندقاً حدودياً يخبطون زجاجه ويطلبون المساعدة، مشهدٌ بين عالمين:عالم الرفاه، وعالم المشرّدين.
ولم يخلُ الفيلم من بعض المطبّات، فيعرض للمتدين الوصوليّ الذي يصلي ويصوم ويشتم الغرب الكافر، ورغم سخرية أغلب المهاجرين منه لكنهم يتبعونه حين يقول الله يرشدني وينسون توجيهات المهرّب. كما لم يخلُ الفيلم من متلازمةٍ كلاسيكيةٍ مبتذلةٍ لشدّة تكرارها؛ الجدّ الرافض لهجرة ابنه، والذي يقول له من يبِع أرضه يفقد جذوره، في مشهدٍ يقتلع فيه عشبةً.
في المشهد الختاميّ يهمس حيدر لسائق الشاحنة السويسريّ: أريد أن تكون صديقي.. جملةٌ تختم بصراعات حياة الاغتراب الجديدة. وتبقى المفارقة الصادمة بواقعيتها أن الطفل يصعد إلى الجنة، فلا فراديس أرضيّة. لكم أنت بائسٌ يا إنساننا، خذلتك دعاءات السماء وأولياء الأرض فرحت تبحث عن جنّةٍ وراء الألب.
* العبارة للفيلسوف الألمانيّ الأمريكيّ هربرت ماركوزه
مشاهد من الفيلم؛
الترجمة غير متوفرة