مالكو السفن السورية استبدلوا أعلامها قبل الثورة

سامر كعكرلي
يبدو أن العلم السوريّ الذي يُرفع على السفن لم يعد سوى مجرّد قطعة قماشٍ لا تفضي إلى حمايةٍ ولا إلى عزّة، بل أصبح مصدر قلقٍ وتعقيدات جهازٍ بيروقراطيٍّ تجذّر عبر خمسين عاماً من الفساد الذي أصاب كافة مرافق الحياة في دولةٍ يحكمها حزب البعث.
هذا بالضبط ما دفع العديد من أصحاب السفن السورية إلى إنزال علم النظام السوريّ عن صواري سفنهم، ليستبدلوا به رايات دولٍ أخرى. والمحزن أن لا تمتلك تلك البلاد حضارةً عريقةً كما يمتلكها السوريون، مثل دولة بنما أو ليبيريا.
فقد ذكرت التقارير الواردة على لسان وزارة النقل التابعة للنظام أن عدد السفن المسجّلة تحت العلم السوريّ انخفض ليصبح عشر سفنٍ، بعد أن كان يناهز ثلاثمائة وخمسين سفينةً قبل عام 2009 الذي يعدّ عاماً مفصلياً في استبدال العلم، ففي هذا العام فقط تمّ إنزال أكثر من 39 سفينةً للعلم السوريّ واستبدال علم دولةٍ أخرى به.
والمحزن في الموضوع أيضاً أن استبدال العلم لم يترافق مع تغيّر مالك السفينة، إذ أكّد متابعون أن عدد السفن التي يملكها سوريون وترفع أعلاماً أجنبية بلغ حوالي 550 سفينةً، معظمها تعمل على خطوط الشحن التي تربط سوريا بالدول الأجنبية.
وقبل الخوض في الأسباب التي دعت أصحاب السفن السورية إلى تغيير راية سفنهم، التي تعبّر عن جنسيتها، لا بدّ من شرح بعض المفاهيم المتعلقة بجنسية السفينة وعلمها الذي يسمّى (علم الملاءمة Flags of Convenience). فكما ورد في المادة رقم 91 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار:
تحدّد كلّ دولةٍ شروط منح جنسيّتها للسفن ولتسجيل السفن في إقليمها والحقّ في رفع علمها، وتكون للسفن جنسية الدولة التي يحقّ لها رفع علمها، ويجب أن تقوم رابطةٌ حقيقيةٌ بين الدولة والسفينة.
تصدر كلّ دولةٍ للسفن التي منحتها حقّ رفع علمها الوثائق الدالة على ذلك.
أما المادة رقم 92 من الاتفاقية المذكورة، والتي خصّصت للوضع القانونيّ للسفن، فقد نصّت على ما يلي:
- تبحر السفن تحت علم دولةٍ واحدةٍ فقط، وتكون خاضعةً لولايتها الخالصة في أعالي البحار إلا في حالاتٍ استثنائيةٍ منصوصٍ عليها صراحةً في معاهداتٍ دوليةٍ أو في هذه الاتفاقية، ولا يجوز للسفينة أن تغيّر علمها أثناء رحلةٍ ما أو أثناء وجودها في ميناء زيارةٍ إلا في حالة نقلٍ حقيقيٍّ للملكية أو تغييرٍ في التسجيل.
لا يجوز للسفينة التي تبحر بعلمي دولتين أن تدّعي جنسية أيٍّ منهما، ويجوز اعتبارها في حكم السفينة عديمة الجنسية. ولكن طبعاً للدولة صاحبة العلم حقوقٌ وعليها واجباتٌ لقاء رفع علمها على السفينة. وهذا ما حدّدته المادة رقم 94 من الاتفاقية الأممية، والتي نصّت على ما يلي:
تمارس كلّ دولةٍ ممارسةً فعليةً ولايتها ورقابتها في الشؤون الإدارية والتقنية والاجتماعية على السفن التي ترفع علمها.
وعلى كلّ دولة بوجهٍ خاصٍّ:
أن تمسك سجلاتٍ للسفن تتضمّن أسماء السفن التي ترفع علمها، وصفاتها الخاصّة، عدا السفن التي لا تنطبق عليها -بسبب صغر حجمها- الأنظمة الدولية المقبولة عموماً.
وأن تضطلع بالولاية بموجب قانونها الداخليّ على كلّ سفينةٍ ترفع علمها، وعلى ربّانها وضباطها وأفراد طاقمها في حدود المسائل الإدارية والتقنية والاجتماعية المتعلقة بالسفينة.
تتخذ كلّ دولةٍ، بالنسبة إلى السفن التي ترفع علمها، ما يلزم من التدابير لتأمين السلامة في البحار، وذلك فيما يتعلق بعدّة أمورٍ منها:
بناء السفن ومعدّاتها وصلاحيتها للإبحار.
تكوين طواقم السفن وشروط العمل الخاصّة بهم وتدريبهم، آخذةً في الاعتبار الصكوك الدولية المطبّقة.
استخدام الإشارات والمحافظة على الاتصالات ومنع التصادمات.
تتضمّن هذه التدابير ما يكون ضرورياً لتأمين:
أن تخضع كلّ سفينةٍ، قبل التسجيل وعلى فتراتٍ مناسبةٍ بعد ذلك، للتفتيش من قبل مفتش سفنٍ مؤهل، وأن تحمل الخرائط والمنشورات الملاحية ومن أدوات الملاحة ما يكون ملائماً لسلامة ملاحتها.
أن تكون كلّ سفينةٍ في عهدة ربّانٍ وضباطٍ تتوافر فيهم المؤهلات المناسبة وبوجهٍ خاصٍّ في مجالات قيادة السفن والملاحة والاتصالات والهندسة البحرية، وأن يكون طاقمها مناسباً من حيث المؤهلات والعدد لنوع السفينة وحجمها وآلاتها ومعدّاتها.
أن يكون الربّان والضباط، وإلى مدىً مناسبٍ أفراد الطاقم، على درايةٍ تامةٍ بالأنظمة الدولية المطبّقة فيما يتعلق بسلامة الأرواح في البحار ومنع المصادمات ومنع التلوّث البحريّ وخفضه والسيطرة عليه، والمحافظة على الاتصالات بواسطة الراديو، وأن يكونوا مطالبين بمراعاة تلك الأنظمة.
تكون كلّ دولةٍ، عند اتخاذ التدابير التي تدعو إليها الفقرتان 3 و4، مطالبةً بأن تمتثل للأنظمة والإجراءات والممارسات الدولية المقبولة عموماً وأن تتخذ أيّ خطواتٍ قد تكون لازمةً لضمان مراعاتها.
يجوز لأيّ دولةٍ لديها أسبابٌ واضحةٌ للاعتقاد بأن الولاية والرقابة الصحيحتين لم تمارَسا فيما يتعلق بسفينةٍ ما أن تقدّم تقريراً بهذه الوقائع إلى دولة العلم، وتتولى دولة العلم عند استلام هذه التقارير التحقيق في المسألة وتتخذ، إذا رأت ذلك مناسباً، أيّ إجراءٍ لمعالجة الحالة.
لم يدرك المجتمع الدوليّ، عندما وضع تلك الواجبات على دولة العلم، أن بعض الأنظمة (ومنها النظام السوريّ) ستقوم باستغلالها لصالح أفراد الفئة المُتنفذة فيها. فقد عمد النظام السوريّ إلى استغلال هذه الاتفاقية من عدّة نواحٍ، بدءاً من رفع رسوم التسجيل لرفد خزينته بالقطع الأجنبيّ، ودون أن يقدّم أيّ خدماتٍ لقاء تلك الرسوم. فلم يقم بإنشاء أحواض إصلاحٍ للسفن، ولا يمتلك خبراتٍ فنيةً عالية المستوى لمنح شهادات التأهيل المطلوبة للإبحار، وذلك بسبب اعتماد أسلوب عسكرة قطاع النقل البحريّ في كافة المفاصل الإدارية المشرفة عليه، وأهمّها المديرية العامة للموانئ التي تتبع اسمياً لوزارة النقل ولكن كوادرها (ولا سيما في الصفوف الأولى) ضباطٌ في الجيش يجاملهم النظام بتلك المناصب على حساب أصحاب الكفاءة، مما أدّى إلى تدني مستوى الخدمات الواجب تقديمها للسفن التي ترفع العلم السوريّ، الأمر الذي انعكس على موضوع اقتصاد النقل البحريّ في سوريا بشكلٍ كامل.
وكان موضوع الولاية على طاقم السفن، والوارد في الفقرة /ب/ من البند الثاني من المادة 94 المذكورة أعلاه، موضع نفاذٍ للنظام لفرض رجالاته من ضباط الكلية البحرية كطواقم للسفن الراغبة في رفع العلم السوريّ. وفي حال رفض مالك السفينة ذلك فإن عقباتٍ كبيرةً توضع في وجه رفع علم بلده على سفينته.
قد يقول قائلٌ إنه لا مشكلة في تعيين رجالات النظام على السفن كضباطٍ ما داموا يتمتعون بالخبرة التي تؤهلهم لقيادة السفن في أعالي البحار.
ولكن، في حقيقة الأمر، فإن النظام الأمنيّ وبعض أصحاب النفوذ لهم غاياتٌ أخرى من فرض ضباط السفن من رجالهم، فالفرع الأمنيّ يريد أن تكون له أعينٌ على ظهر السفن التي ترفع العلم السوريّ لتزويده بتقارير عن ما يجري على سطح السفن عندما تكون ضمن المياه الدولية، أو في أحد المرافئ التي لا تطالها أياديه، وذلك ليتخذ إجراءاته القمعية بحقّ من تسوّل له نفسه أن ينتقد النظام وهو يعتقد أنه حرٌّ في المياه الدولية، وذلك عند عودة السفينة إلى حضن الوطن.
أما أصحاب النفوذ المرتبطون بالنظام -والذين ينسجمون بشكلٍ مطلقٍ مع الفرع الأمنيّ بكلّ الأحوال- فهم يريدون من رجاله أن يستغلوا السفن التي تمّ فرضهم عليها للقيام بعمليات التهريب، وبالأخصّ تهريب المواد الثقيلة التي تكلّف أجور نقلٍ مرتفعة، مثل الحديد المبروم أو الإسمنت. وطبعاً يتمّ هذا التهريب لصالح أصحاب النفوذ لا لصالح مالك السفينة. والخطير في الموضوع هو تهريب المخدرات أو الأسلحة الذي كان يتمّ عبر تلك السفن التي ترفع علم سوريا، بأمرٍ من أصحاب النفوذ في النظام. وطبعاً عندما تُكشف إحدى السفن من قبل السلطات الدولية أو من قبل السلطات السورية -وهنا يكون الأمر تصفيات حسابٍ بين أصحاب النفوذ غالباً- تقع الملاحقة القانونية على مالك السفينة بسبب استخدامها في عملياتٍ غير شرعية.
كلّ تلك الأمور جعلت مالكي السفن يتخذون قراراً قد يكون أليماً عند البعض عندما يضطرّون إلى إنزال علم بلادهم ورمز انتمائهم من على صواري سفنهم ليستبدلوا به أعلام دولٍ لا يمتّون إليها بصلةٍ، مثل ليبيريا أو بنما أو جزر مارشال، ليتجنبوا أيّ إجراءٍ قد يتخذ بحقّ سفنهم من قبل الإدارة الأمنية والعسكرية للموانئ السورية.