لا ذاكرة لمهزوم. اصمت
*نبيل الملحم
في موسكو كان السؤال:
ما الذي تعرفه عن الحرب العالمية الثانية؟ وكانت ناديجدا غروبسكايا، تلك البجعة التي راقصت العاصفة في بحيرة البجع، قد أسندت ظهرها إلى التاريخ، ولم تكن لتكتفي بالكلام عن انتصارات الجيش الأحمر فيها، بل دخلت غرف العمليات الحربية، أكثر من ذلك استطردت في الكلام الشغوف عن الجنرال غيوركي جوكوف، لا.. ربما وصلت أبعد، إلى القديس جوارجيوس رمز النصر الروسيّ، وبعده كانت قد استلقت على مقعد المارشال فاسيليفسكي وسجله الخالي من الهزائم، وفكّكت بندقية كلاشينكوف لتحكي اسم مبتكرها.
في برلين، لا يعرف أستاذ الفلسفة هيرمان بريخت شيئاً من حياة إيروين رومل، ثعلب الصحراء، ولا يعرف ما يرفّ له القلب من حياة إيفا براون زوجة هتلر وقد غرقت مع برلين في بحر الخراب والدمار.
على أستاذ الفلسفة الألمانيّ أن يوضح الأمر على نحوٍ مبسّطٍ جداً بعد أن نسأله إن كانت والدته قد حكت له شيئاً عن الحرب العالمية الثانية، وكان إيضاحه بكلمتين:
المهزومون لا يحبّذون التذكّر.
هو الأمر كذلك، فالله ليس مع الكاثوليك بمواجهة البروتستانت حسب نابليون بونابرت.. الله مع المدفع الأطول على الدوام. وما دام الله كذلك، ما الذي سيحكيه أبناؤنا لأبنائهم، بعد نصف قرنٍ، بعد عقدٍ، مئة عقدٍ من الزمن، بعد أن يحمل التاريخ ترحاله إلى حيث يكون التذكّر؟
عن القيصر الروسيّ، أم عن جورج بوش ذاك النسخة الشقراء عن باراك أوباما وإن بدا الثاني حيواناً أعزل؟
عن أبو بكر البغدادي، أم عن أبو بكر الصديق، وقد بات التاريخ مشكوكاً فيه، بمن فيه من صحابةٍ وأنصارٍ ومهاجرين، وبمن فيه من سكاكين وراقصي خناجر على وقع البارود؟
عن ياسر عرفات وقد مات مسموماً، أم عن جثث أيتامٍ تطفو فوق مياه المتوسّط في الطريق إلى هجرةٍ منه نجاةً من بحر الدماء السوريّ إلى الجانب اليونانيّ من البحر المتوسّط كي تعاد إماتة الميت غرقاً إمعاناً في يقين موته؟
ما الذي ستحكيه عن شاعرٍ لم ينتحر، وقاتلٍ لم يعتذر، وأمةٍ تزحف من جنون اللحظة إلى جنون التاريخ، والكلّ فيها بلا مدفعٍ طويلٍ ليقف الله إلى جانبه، منتصراً له، أو مصفّقاً؟
ما الذي ستحكيه لأولادك وأحفادك؟ عن أيّ ماريشال حرب؟ عن أيّ نوعٍ من الآلهة؟ عن اسم القضية.. صفاتها.. لونها، مذاقها؟
عن أمريكانيٍّ وروسيٍّ وإيرانيٍّ وصينيٍّ وأفغانيٍّ وشيشانيٍّ وفرنسيٍّ وقطريّ، وكلّ الأيادي والأقدام السوداء التي تلعب ببياضك وقد بتّ بلا لونٍ سوى خرقةٍ زرقاء فوق مساحةٍ زرقاء اسمها "الفيس بوك"، تلك اللعنة وقد باتت سجل تاريخك وتاريخنا.
عن الخيانات الكبرى؟
حسناً.
لن تسند ظهرك إلى الحائط وتحكي.. سوف تخرس، وحين تبلغ بك الوقاحة أن تحكي، ثمة وحلٌ جديدٌ سيضاف إلى ذاكرة ابنك.
- لا تحكي كي لا تغرقه في وحولك.
- هذا إذا كان لك ابن.
أنت ابن السلالات المنقرضة.
ليتك ابن عاهرة.