info@suwar-magazine.org

نحو اللامركزية مرّةً أخرى

نحو اللامركزية مرّةً أخرى
Whatsapp
Facebook Share

 

 

 *جاد الكريم الجباعي

 

يبدو لنا، في ضوء ما يحدث في سوريا وغيرها من البلدان التي لم تشهد تحوّلاً ديمقراطياً في بناها الاجتماعية والمعرفية والثقافية والأخلاقية، ولم تعش تجربة الدولة الحديثة التي ينتجها المجتمع شكلاً لوجوده السياسيّ، ولم تزل السلطة فيها ذات طابع بطركيٍّ عميق؛ أن المركزية قرينة الاستبداد السياسيّ والدينيّ والذكوريّ، لا تنفكّ عنه ولا ينفكّ عنها. وأن الدولة الديمقراطية، بالمقابل، هي المجتمع الديمقراطيّ، أي مجتمع المواطنات الحرائر والمواطنين الأحرار، وأن حرّية الأفراد والجماعات وحقوقهم المدنية والسياسية المتساوية هي معنى إنسانيتهم ووطنيتهم، أو لا تكون الوطنية سوى رعويةٍ بائسةٍ وقطيعيةٍ بدائيةٍ وهمجية.

 

ولما كان المجتمع المدنيّ فضاءً من الحرّية فإن علاقته بالدولة، التي هي مملكة القوانين، كما يُفترض، علاقةٌ تناقضية، أي ديالكتيكية، متغيّرة، وفقاً لنموّ المجتمع وتطوّره. فلا يجوز النظر اليوم إلى الدولة، التي لا بدّ منها، في سوريا وغيرها، إلا من زاوية المجتمع المدنيّ، وما ينطوي عليه من تعدّدٍ واختلافٍ يحدّدان طبيعة النظام السياسيّ المنشود، أو لا يكون النظام السياسيّ نظاماً للمجتمع، بل سلطةً عاريةً متسيِّدةً عليه بالعسف والإكراه. فلا يكون تسلطٌ واستبدادٌ إلا في حال غياب الفاعلية الاجتماعية، المعرفية والثقافية والسياسية، أو تغييبها.

 

 لذلك ننظر إلى اللامركزية من زوايا عدّة:

 

1 - من زاوية استقلال الانتظامات والتنظيمات المجتمعية عن السلطة السياسية استقلالاً مؤسَّساً على استقلال الأفراد إناثاً وذكوراً وحرّيتهم؛ فالتنظيمات الاجتماعية الحديثة، كالنوادي والمنتديات والجمعيات والنقابات والأحزاب السياسية.. هي الهيكل الأساسيّ للمجتمع، والأطر التي يمارس فيها الأفراد حياتهم النوعية، الاجتماعية والإنسانية، وفقاً لاتجاهاتهم ومصالحهم ومطالبهم وتطلعاتهم، على اعتبار كلٍّ منهنّ أو منهم مشروعَ تحققٍ ذاتيٍّ أو تمكّنٍ كيانيٍّ لا يمكن إنجازه إلا في أطرٍ اجتماعيةٍ ومجتمعية. والعلاقات المتبادلة التي تنشأ منها هذه الانتظامات والتنظيمات هي التي تؤسّس السلطة، في جميع مستوياتها وحقول ممارستها، ومنها تنبثق السلطة السياسية، التي يُفترض أنها تعبيرٌ عن سيادة الشعب على نفسه، انطلاقاً من سيادة كلّ مواطِنةٍ على نفسها وكلّ مواطنٍ على نفسه، وإلا فإن المساواة والحرية وتكافؤ الفرص لا تعدو كونها شعاراتٍ فارغة.

 

2 – من زاوية التوزيع العادل للسلطة، إذ نعتقد أن العدالة في توزيع الثروة وعوامل الإنتاج وعوائد العمل الاجتماعيّ، وكذلك توزيع الموارد الثقافية والتدفق الحرّ للمعارف والمعلومات.. غير ممكنةٍ إلا بتوزيعٍ عادلٍ للسلطة، وليس من ضمانةٍ لذلك سوى اللامركزية، في إطار دولةٍ وطنيةٍ حديثةٍ مستقلةٍ وذات سيادة.

 

3 – من زاوية تكافؤ المنظومات الثقافية واللغوية التي تعدّها الجماعات الإثنية والدينية والمذهبية قوام هوّيتها وعمادها؛ لا يجوز أن تضفي أكثريةٌ إثنيةٌ أو دينيةٌ أو مذهبيةٌ على ثقافتها ولغتها قيمةً معيارية، وتفرضها على الجماعات المختلفة عنها، على اعتبارها "أقلياتٍ" أو "كسوراً" لا ترقى أيٌّ منها إلى مصافّ "الكلية العينية"، التي تتمتع بها هذه الأكثرية أو تلك. فإن تكافؤ الثقافات واللغات شرطٌ ضروريٌّ لتطوّرها جميعاً تطوّراً سليماً يجنّب أهلها إما الشعور بالنقص والدونية وإما الشعور بالتفوّق والكمال، وينقّيها مما يلابسها من أوهامٍ ذاتيةٍ وأساطير لم تنتج، على مرّ التاريخ، سوى رؤى ومواقف وسياساتٍ عنصرية. كما أن تكافؤ الثقافات واللغات شرطٌ لازمٌ لكي يصير رهان الحقيقة ونصاب الحقّ اجتماعيين وإنسانيين، فلطالما كان الاستبداد، ولا يزال، يتأسّس على احتكار الحقيقة وامتياز التفرّد في تعيين مبادئ الحقّ والأخلاق.

 

 

4 – من زاوية العدالة التي تبدأ بالاعتراف المتبادل بين الأفراد والجماعات بالجدارة والاستحقاق، وتكتسب أهميتها النظرية والعملية من تأثيرها العميق في بنية المجتمع الأساسية، أي في المؤسّسات، وفي سلوك الأفراد وتشكيل ذواتهم وعلاقاتهم المتبادلة، وارتباطها الوثيق بمبادئ المواطنة، وتتجلى نظرياً وعملياً في كتابة الدستور ومناقشته والاستفتاء عليه في مناخٍ من الحرّية يتمكّن فيه المعترضون عليه من إبداء اعتراضهم والتعبير عن آرائهم ومطالبهم، دون أن يتعرّضوا للقمع أو الاستبعاد والإقصاء أو التجاهل. فاللامركزية التي تفتح آفاق تقدّم المجتمع وازدهار الحياة الإنسانية هي التي يقرّها الدستور العامّ للبلاد، ويُنظر إليها على أنها قوام الوحدة الوطنية والإرادة السياسية الحرة. ولا يتأتى ذلك إلا بقدرة كلّ فئةٍ من فئات المجتمع على أن تضع نفسها في موقع كلٍّ من الفئات الأخرى، لكي تتفهم مطالبها وتوقعاتها، فتكفّ المطالب والتوقعات المتنافسة عن كونها عقبةً في طريق الوحدة الوطنية والاندماج الاجتماعيّ. ولا تستطيع أيّ فئةٍ أن تفعل ذلك إلا إذا كانت تتمتع بحرّيتها النسبية واستقلالها النسبيّ، وتعترف بجدارة الفئات الأخرى واستحقاقها، وتطمئنّ إلى اعتراف الفئات الأخرى بجدارتها واستحقاقها. نشير هنا، على سبيل المثال، إلى موقف كثرةٍ من المثقفين والسياسيين العرب السوريين من مطالب الكورد السوريين، إذ يزن هؤلاء المثقفون والسياسيون المطالب الكوردية بميزان المصالح القومية العربية، بل بميزان الأيديولوجية القومية العربية. ويجاريهم في ذلك، من الجهة المقابلة، مثقفون وسياسيون من الكورد السوريين لا يرون العالم إلا من منظار الأيديولوجية القومية الكوردية. منطق الأيديولوجيات واحد، على الرغم من اختلافها وتخالفها.

 

العدالة هي جوهر الديمقراطية، لأنها الصيغة الوحيدة التي تؤلف بين الحرية والمساواة، على ما بينهما من تناقض، في تركيبٍ فريدٍ يشبه تركيب الماء من الهيدروجين والأوكسجين، إذا انفصل أيٌّ منهما عن الآخر يصبح الهيدروجين ساماً والأوكسجين حارقاً.

 

العدالة قاعدةٌ ضروريةٌ ومبدأٌ أخلاقيّ. وهي، حسب جون رولز، "الفضيلة الأولى للمؤسّسات الاجتماعية، كما الحقيقة للأنظمة الفكرية؛.. ولكن هذه الفضيلة لا تقوم إلا على اعتبار أن "لكلّ شخصٍ (ذكراً وأنثى) حرمةً غير قابلةٍ للانتهاك ولا يمكن تجاهلها أو تجاوزها ولو لمصلحة رفاهية المجتمع، أو مقابل مجموعٍ أكبر من المنافع تتمتع بها الأكثرية"[1]. المجتمع العادل هو الذي تكون فيه حرّيات المواطنين المتساوين وحقوقهم راسخة؛ لا تخضع للمقايضات السياسية أو للحسابات التفاضلية للمصالح الاجتماعية. و"الشيء الوحيد الذي يبيح لنا الخضوع لنظريةٍ خاطئةٍ هو عدم وجود نظريةٍ أفضل؛ وكذلك يمكن احتمال اللاعدالة فقط إذا كان هذا ضرورياً لتجنّب لاعدالةٍ أكبر. الحقيقة والعدالة غير قابلتين للمساومة، لأنهما من أهمّ فضائل النشاط البشريّ".

 

والعدالة الإجرائية تقوم على عدّة أركانٍ أهمّها: 1 - تفهُّم نوعية تَمثُّل أو تصوُّر الأخرى والآخر والأخريات والآخرين للموضوع المحدّد. 2 - النقاش التواصليّ الحرّ، من موقع الاختلاف، الذي لا يزوّدنا بأسبابٍ مختلفةٍ لحالة اللاعدالة في الموضوع المعنيّ فقط، بل يزوّدنا بطرقٍ وأساليب مختلفةٍ لمعالجتها ورفعها، قد لا تكفي أيٌّ منها من دون بقيتها. فليس من المنطقيّ افتراض أن نوعية تمثل الجماعة أو الفئة (س) صحيحةٌ كلياً، ونوعية تمثل الفئة (ص أو ع..) خاطئةٌ كلياً. تلكم هي ميزة الحلول والبدائل المؤسّسة على التعدّد والاختلاف (تعدّد التصوّرات والمنظورات والمواقع والتخصصات، واختلافها). 3 – توافر المعطيات والمعلومات اللازمة وإمكان التحقق من صحّتها.

 

يحتاج العقد الاجتماعيّ، إذاً، إلى أن يضع كلّ فردٍ نفسه في موقع الأخرى أو الآخر، وأن تضع كلّ جماعةٍ نفسها في موقع الأخرى، في أثناء النقاش، لكي يتمكّن وتتمكّن من معرفة نوعية تمثله أو تمثلها لموضوع النقاش، أي أن يعترف وتعترف بحرّية التفكير والتعبير، وأثر الموقع والمنظور أو زاوية النظر في عملية التمثل، فيحتكم الجميع إلى الحسّ المشترك، الذي يعود، في نهاية المطاف، إلى العقل البشريّ برمته، أو إلى ملكات النفس البشرية، التي هي قسمةٌ مشتركةٌ بين الناس، بل لعلها أعدل الأشياء قسمة.

 

فإن مسلمات الحسّ العام أو التفكير السليم هي أن نفكّر بأنفسنا، لا أن نعيد إنتاج الأفكار الموروثة ونماذج التفكير الموروثة، فلا ندع أسلافنا يفكرون نيابةً عنا ويحكمون في قضايا واقعنا وعصرنا، وألا ندع غيرنا يفعل ذلك أيضاً، مهما اعتقدنا أنه متقدّمٌ علينا، أولاً، وأن نضع أنفسنا في أثناء عملية التفكير مكان أيّ إنسانٍ آخر (أو أيّ جماعةٍ أخرى)، ثانياً، وأن نفكر دوماً بانسجامٍ مع أنفسنا ثالثاً، وهذا يعني التفكير الخالي من الأحكام المسبقة والمنفتح والمنسجم مع نفسه منطقياً وأخلاقياً. وأن نفكر أخيراً بمقتضى الظواهر والوقائع الماثلة والمعطيات والمعلومات المتاحة، ما يمكِّن من النظر إلى الموضوع من جوانبه المختلفة.

 

التعدّد والاختلاف يوجبان أن يكون النظام السياسيّ فدرالياً أو نوعاً من فدراليةٍ جديدة، تعينها الحياة الأخلاقية للشعب وحاضنتها الثقافية، وهذه وتلك مغروزتان في الاختلاف والتعدّد والتنوّع. وللمنافحين عن الدولة نقول: مفهوم النظام السياسيّ غير مفهوم الدولة، لذلك يقال: دولةٌ نظامها السياسيّ ديمقراطيٌّ برلمانيّ، أو ديمقراطيٌّ رئاسيّ، ويمكن أن نقول فدراليّ. الدولة شخصٌ اعتباريٌّ ومفهومٌ مجرّد، لكن النظام السياسيّ تعبيرٌ مباشرٌ وعيانيٌّ عن حياة الشعب، فلا تناقض بين النظام الفدراليّ ووحدة الدولة وقوّتها ومنعتها وسيادتها على إقليمها. النظام الفدراليّ يتعلق بالمؤسّسات والعلاقات المتبادلة فيما بينها، والمؤسّسات هي التي تتعيّن فيها علاقة المواطنات والمواطنين بالدولة. ولا تكون هذه العلاقة صحيحةً ومنتجةً وبيئةً تمكينيةً إلا إذا كانت موسَّطةً بمؤسسات المجتمع المدنيّ وانتظاماته الحرّة وتنظيماته المستقلة، القديمة منها والحديثة. (الذين يتحدثون عن دولةٍ مدنيةٍ تعدّديةٍ إما جهلةٌ وإما ماكرون، وإما جهلةٌ وماكرون معاً وهو الأرجح، بحكم ماضيهم المدرسيّ ووعيهم الأيديولوجيّ، لأن الثقافة التي تولتها سلطة البعث وعمّمتها في المدارس والمعاهد والجامعات و"المنظمات الشعبية" هي ثقافة تجهيل).

 

الحياة الأخلاقية وحاضنتها الثقافية، التي تتأسّس عليها الرؤية التعددية أو الفدرالية، ولا فرق، تقوم على اعتبار الفرد الإنسانيّ ذكراً أو أنثى هو النموذج الكامل للإنسان، والنموذج الكامل للمواطِنة أو المواطن، وأنه يتوافر على إرادةٍ حرّةٍ ومستقلة، أو يمكن أن تكون كذلك، تمكّنه من التشريع لنفسه، بصفته عضواً في المجتمع والدولة، فيكون تشريعه لنفسه قابلاً لأن يكون تشريعاً عاماً أو مبدأً عاماً، وإلا كيف نركن لمن ننتخبهم لكي يشرّعوا لنا؟ ومن ثمّ فإن عضوية الفرد في المجتمع والدولة لا تكون إلا موسَّطةً بعضويته في جماعةٍ إثنيةٍ أو دينيةٍ أو مذهبية، أو في نقابةٍ أو حزبٍ سياسيٍّ أو جماعة ضغطٍ أو تنظيمٍ مدنيٍّ لا يحقّ لأحدٍ أن ينتزعه منها. هذه التوسّطات مرجعياتٌ ثقافيةٌ وأخلاقيةٌ مختلفة، ليس لأيٍّ منها أن تفرض أفكارها وتصوّراتها ومبادئها وقيمها على غيرها إلا بالعسف والإكراه، اللذين يحملان جرثومة العنف والنزاعات. ما يعني حقّ كلّ جماعةٍ أن تشرِّع لنفسها، وتمتثل، في الوقت ذاته، للتشريع العام. والتشريع العامّ هو ما يشترك فيه جميع الأفراد والجماعات، على اختلافهم واختلافها، ويعبّر عنه الدستور. وكلما كان هذا التشريع العام أدنى إلى القيم الإنسانية العامة كان أكثر تعبيراً عن الأفراد المختلفين والجماعات المختلفة، لذلك اعتبرنا الإنسية أو الإنسانية أساس الوطنية ورافعتها. فمن لا يستطيع الاعتراف بتساوي الأفراد إناثاً وذكوراً في الكرامة الإنسانية، بحكم ثقافته وتنشئته، لا يمكنه الاعتراف بتساويهم في الحقوق المدنية والسياسية. نحن نتفهّم ذلك، ولا نرفض الأفراد بسبب ثقافتهم العنصرية، بل نرفض هذه الثقافة. لذلك نرى في التعدّدية وسيلةً لحلّ المشكلات بالطرق السلمية، واثقين بأنها تفضي إلى وحدةٍ هي وحدة الاختلاف وهوية الاختلاف.

 


[1] - جون رولز، نظرية في العدالة، ترجمة ليلى الطويل، الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2011، ص 29.

 

 

*مواد مشابهة

 

ــ عن الديمقراطية واحتمالاتها في سوريا

ــ اللامركزية خيارٌ ديمقراطيّ

ــ المجتمع المدني من منظور مختلف

 

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard