شجرة واحدة لأسمائنا الكثيرة
عباس علي موسى
الأشجار سيدات الريح الشامخات التي ترقص كالدراويش تنقّي الهواء من الشرور، من عدمية الموت والنائبات، وتصدّ ذكورة الريح العاتية، وتحضنه ليؤول هادئاً، فيقلّ غضبه على أبنائه في المدينة.
في قامشلي حين تنزل سريعاً من السوق تقود دراجة هوائية جديدة. تنزل وكأنما تؤول أيضاً إلى ريح، تترك يديك وتحلم بامتلاك الشارع والمدينة.
تتدحرج وكأنّما إطار مطاطيٌّ بيد طفل يجري من السوق صوب حيّ هلالية، تجري وكأنّك تحمل في يديكَ زينة الميلاد التي لم يمنحك إياها بابا نويل في زحمة الأطفال وهم يجرون وراءه في حيّ الوسطى، لقد تشابه بابا نويل علينا! (يقولها الأطفال وهم يرون في كلّ شارع بابا نويلا).
يقرّر الجميع الفرح في زحمة الحزن السوريّ، يحاولون أن يدخلوا ساقية تودي بهم إلى ابتسامة، فيلبسون الأحمر تشبيها للبابانويل حامل الهدايا، يبتسمون فيقوم الأصدقاء من الصحفيين بتوثيق فرحهم وزرع الابتسامة في العدسة، عدسة مبتسمة.
الأجراس ترنّ في قامشلي وكأنّها هدية الكنائس للجوّالين في الشوارع، لقد تحوّل عيد رأس السنة إلى جرس في كلّ بيت، ولم يعد الاحتفال مقتصراً على المسيحيين فقط، بل بات الكثير من الكرد والعرب أيضاً يحفلون به، فترى الشوارع منارة بالأحمر والأزرق وكلّ ألوان الكهرباء.
في الطريق النازلة من مركز المدينة صوب طريق عامودا ثمة شجرة الأمنيات (أطول شجرة سرو في قامشلي، وربّما الأطول عمراً، حيثُ واكبت حقباً كثيرة)، علّقنا عليها أسماءنا وأسماء مدننا، طوائفنا، أدياننا، قومياتنا، وصلباننا، وأهلتنا، وطواويسنا تنازلن عن غرورهنّ لصالح العيش إلى جانب الأخوة الآخرين.
وأضواء كثيرة، أضواء زرقاء وحمراء، وكأنما شجرة قزح ليلية. الأشجار هي الكائنات الحيادية في الصراع، تحمي المدينة من كلّ الشرور دون النظر في عينيّ القاتل، أو النظر إلى انكسار الضحية.
حين كنّا نزيّن الشجرة، تساءل أحدهم - ممن تطوّعو لمساعدتنا - عن كلّ الأسماء التي علّقناها نجوماً في سماء شجرتنا (إنّها شجرة واحدة لأسمائنا الكثيرة) أخبرته.
في الليلة التي سبقت رأس السنة حيثُ المشاة يمرّون ويلتفتون برؤوسهم إلى الشجرة المضاءة، ثمّ كان ما هزّ المدينة، فكانت تفجيرات قتلت الكثيرين وأسمَتهم شهداء، لكنّها هزت الأجراس على الشرفات المزيّنة في المدينة فرنّت بأغاني الميلاد.
ليلتها هطل مطر كثير، فتهادت قطرات المطر فوانيس من أشجار السرو، تلتمع فيها الأمنيات.
المدن التي تنبض بالحياة تحمل أبناءها وتدفنهم في عينيها، وتنظر من خلالهم إلى الغد، الغد الجريح، المجروح، القاتل، المقتول، الغد القفل، الذي ترك آلاف المفاتيح موزّعة في أرجاء المعمورة، كلّ يبحثُ عن مفتاحه ليلوّح به إلينا (ها مفتاحي أيها الغد)، ويدلّي بمفتاحه على غصن السرو سيدة الريح الشامخة.