مآسي حلب وحكايا المقهورين ..
سامر القطريب
صدر مؤخراً عن دار المتوسط للطباعة والنشر، كتاب بعنوان: "مآسي حلب.. الثورة المغدورة ورسائل المحاصرين"، من إعداد الكاتب والصحفي السوري صبر درويش، والروائي والصحفي اللبناني محمد أبي سمرا، وبمشاركة العديد من الكتاب وشهود العيان، الذي مثّلت شهاداتهم القاعدة التي أنبنت عليها مادة الكتاب، مثل محمد يوسف، أحمد الحاج، جيفارا نبي، بيشنيك علو، عماد القاسم، معن محمد، عارف حج يوسف، وعزيز تبسي، وغيرهم.
يوثّق الكتاب بفصوله الستة، السياق الاجتماعي والاقتصادي والأمني، الذي مرت به مدينة حلب منذ بداية الحراك الشعبي في آذار 2011، وصولاً إلى دخول الصراع في حلب مرحلة استنزاف للقوى المتصارعة، كما يقول الكاتب في الفصل الأخير من الكتاب.
الفصل الأول، جاء بعنوان "ظهور الشبيحة "،ويوضح أساليب النظام السوري الأمنية لإطباق قبضته على مدينة حلب، التي بدأ مزاجها العام بالتحول نحو الثورة، ونطالع في مقتطفات من فصل "ظهور الشبيحة" عن امتلاء أرصفة شوارع حلب العامة وأسواقها التجارية الرئيسية ببسطات لبيع الخضرة والفاكهة والألبسة والأحذية والتبغ، وما هبّ ودَبّ من السلع الرخيصة. مصابيح إنارة جديدة نُصبت على نواصي الشوارع، وظهرت وجوه جديدة لرجال وشبان بأذرع موشومة وجفون منتفخة. على وجوههم ندوب من أثر جروح مندملة أخطتها ضربات سكاكين وأمواس وشفرات. شبان وفتيان يرطنون بأنماط نطق ثقيل للهجّة المحلية، أسيرة ذكورتيها وبلاهة عزلتها وعدوانيتها. وسرعان ما بدأت ترتفع ارتفاعاً ملحوظاً أعداد الجنايات والجنح والسرقات والسلب والخطف في المدينة بغرض الفدية.
كان ذلك من النتائج الأولية لسلسلة من مراسيم العفو عن السجناء الجنائيين التي بدأت بمرسوم عفو رئاسي في آذار2011، تبعته مراسيم عفو أخرى.
الخوف البيولوجي
تسلّط "الشبيحة" على رقاب أهالي حلب، وانتشار تجار الحرب مع دخول السنة الثانية من الحراك الشعبي، كان له اتجاهان التقيا في رغبة قوية على البقاء؛ الحياة في حلب باتت تفرض على الفقراء والمتضررين من الطبقة المتوسطة مواجهة لا بدّ منها مع الشبيحة وعناصر الأجهزة الأمنية، وهو ما يتحدّث عنه الفصل الثاني من الكتاب تحت عنوان " الخوف البيولوجي".
ويشير الكاتب في تصوير لحال أهالي المدينة إلى أن "الوساوس والهذيان شملا المؤونة والطعام. بعضهم أفرغ غرفة من البيت للمؤونة من المواد الجافة، كالبرغل والأرز والسكر والعدس والفاصولياء؛ والسائلة كالزيت والسمن والمنظفات. وكانت حركة الناس في الأسواق الكبيرة الخاصة بالألبسة والأحذية، قد خفتت، فيما أخذ التجار يتحدثون عن الكساد، مع ظهور ميول جديدة بدأت تغيّر نظام الأولويات، بعد اندفاع الناس إلى توفير أكبر كمية من الأغذية. وهذا شكل من أشكال استبدال العملة التي تتهاوى قيمتها الشرائية، بالسلع التي ترتفع قيمتها وتختفي من الأسواق. فصرت ترى الزبائن في المتاجر الكبيرة وفي أيديهم قائمة بالمطلوب شراؤه، ومن بعيد يأتيهم صوت البائع ليحذرهم شكلاً، ويحفزهم حقيقة على مزيد من الشراء: هذه - مشيراً بيده إلى سلعة - كان سعرها (كذا) وصار سعرها (كذا)، فيأتيه من الزبائن هدير بصوت واحد كجوقة: أوووف!!
رغم تأخّر حلب بالانخراط في حركة الاحتجاجات الشعبية، إلا أنها تخطت مراحل عاشتها غيرها من المدن السورية بدخولها في مواجهة عسكرية مع النظام وشبيحته بعد منتصف تموز 2012، فكانت أم المعارك كما أُطلق عليها. وهنا يجيب الكاتب عن سؤال طرح كثيراً حول دخول حلب ساحة الصراع العسكري بطريقة فاجأت الكثيرين.
ويرى الكاتب أن " ثوار" الريف الحلبي- الشمالي والغربي- تمكنوا من تشكيل بؤر ثورية لامركزية ظلت معزولة نسبياً عن عمق حلب المديني الذي روّضته مختبرات القمع وحصّنته طوال نصف قرن، دون أن يغفل عن ذكر الاصطفافات الطبقية المتجددة وتحالفاتها التي شكّلت بنية النظام السوري.
ويركّز الفصل الرابع من الكتاب على السياق التاريخي الممتد من أواخر السبعينات حتى بداية الحراك الشعبي سنة 2011. هذه المرحلة التاريخية شكّلت لبَّ الصراع مع النظام السوري وأكدت طبيعته الاجتماعية والاقتصادية، حيث يمثل رغيف الخبز دور الأب الشرعي للثورة والتي قد تستمر مستقبلاً تبعاً لما أنتجته الحرب من مآسٍ.
الفصلان الأخيران (الخامس والسادس) من الكتاب يضيئان على تسرّب الفصائل المقاتلة إلى داخل مدينة حلب - بعد تحرير الطرق الريفية المؤدية إليها - وبالتحديد إلى الأحياء الحاضنة للحراك الشعبي الذي تسلح رداً على عنف النظام.
أن يأكل السوري أخاه ونفسه "بلا ملح" حين يهيج.. هذا من دون أن يتجرّأ على الاقتراب من السلطة التي أخذت في مخيلته شكل حيوان وحشي أسطوري لا يرحم، -كما يقول الكاتب- كان حاجزاً لابد أن ينكسر.