حملة زجّ الشباب في الجيش مستمرّة، والتعرّض لدورياتٍ عسكريّةٍ وأمنيّة

850 ألف مطلوبٍ من المتخلّفين عن الخدمة العسكريّة
شوارع المدن والجامعات شبه خالية، وسوق الهال بدمشق بلا عتّالين
نضال يوسف
فاجأت حكومة النظام مواليها، وأسقطت كلّ الاعتبارات، واتجهت نحو تطبيق توجيهاتٍ عليا بالتأكيد، وبلا إنذارٍ مبكّرٍ لمناصريها، مطلقةً حملةً لإلقاء القبض على الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و42 سنة، وزجّهم فوراً في الجيش. هكذا، بلا مقدماتٍ، وجدت دمشق نفسها بلا شباب، وخلت الجامعة الأولى في البلاد من طلابها. فيما لم تقترب الحملة، التي استهدفت كلّ مناطق سيطرة النظام، من قرى وريف جبلة، وبالذات القرى التي تصنّف بأنها فوق كلّ اعتبار، مثل بستان الباشا معقل آل مخلوف. كما لم تصل الحملة إلى القرى المحسوبة على كلٍّ من وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش. في وقتٍ طلب فيه عددٌ من أعضاء مجلس الشعب -وفقاً لمصدرٍ برلمانيٍّ تحدث لـ(صوَر)- عقد جلسة استجوابٍ لوزير الدفاع، فهد جاسم الفريج، تتعلق بممارساتٍ غير إنسانيةٍ لعناصر حواجز الجيش والقوى الأمنية في ملاحقة المطلوبين.
نقصٌ في المقاتلين
اعترف بشار الأسد بنقصٍ في القوّة البشرية للجيش في مقابلاته الصحفية أكثر من مرّة. وتحدث، خلال لقائه رؤساء وأعضاء المنظّمات الشعبية والنقابات المهنية وغرف الصناعة والتجارة والزراعة والسياحة في تموز 2015، حول هذا الموضوع بالتفصيل، إذ قال: "إن عدد الملتحقين بالقوات المسلحة ازداد.. وأنا أتحدث عن ما بين نيسان وأيار في تلك المرحلة تحديداً". وأضاف: لكن هناك نقصاً بالطاقة البشرية. إلا أن أحداً من الموالين للنظام لم يكُ يتوقع شنّ حملةٍ شاملةٍ لزجّ المتهرّبين من الخدمة العسكرية، البالغ عددهم -وفق تقديرات وزارة الدفاع- 850 ألف شاب، يمكن أن يشكّلوا اليد الضاربة والمساندة للجيش. واللافت أنه مع إعلان رئيس أركان الجيش، علي أيوب، مطلع تشرين الأول الماضي، عن بدء العمليات العسكرية الروسية في سورية، وتشكيل الفيلق الرابع اقتحام؛ أثيرت أسئلةٌ جوهريةٌ في أروقة مراكز صنع القرار الحكوميّ عن جدوى هذا الإعلان دون تحديد من أين سيتمّ رفد هذا الفيلق بالكوادر المقاتلة؟ لكن الحكومة التزمت الصمت المطبق كعادتها، وتركت الأمور تسير كما هو مرغوب فيها، دون معرفة إلى أين يتجه هذا الإعلان، وهل سيبقى مجرّد إعلانٍ للاستهلاك الإعلاميّ أم سيرتقي إلى مصافّ التنفيذ؟
خسارة كوادر
بدأت الحملة، وفقاً للشاب رامي خلف، بشكلٍ مفاجىء. يقول رامي: كنت عائداً من كلية الاقتصاد بمنطقة البرامكة وسط دمشق، وإذ بدوريات الشرطة العسكرية والأمن تقطع الطرق الرئيسية، كون الفرعية مقطوعة سلفاً، وأصبح التفتيش على الشكل التالي: جمع البطاقات الشخصية لكلّ الناس، كبيرهم وصغيرهم، ولمجرّد قراءة مواليد الشخص يقوم عناصر الدوريات بسوق كلّ الشباب من مواليد 1973 ولغاية 1995 مباشرةً. وأضاف: السيارات العسكرية التي تحمل لوحاتٍ مدنيةً كانت مركونةً جانباً، وفوراً يُزجّ المذكورون في الجندية، ولا يعرف أهاليهم مصيرهم، أو إلى أين أُخذوا، إلا بعد أيام.
وعلى الطرق العامة ومداخل المدن والمحافظات بدأت الحواجز الأمنية والعسكرية بتنفيذ الحملة، ولم ينجُ منها إلا كلّ طويل عمر، حسب ما ذكر لـ(صوَر) المدرّس وفائي إبراهيم (50 عاماً): كنا نلاحظ الخوف والرعب على وجوه من تذاع أسماؤهم، "فلان وفلان.. مطلوبين"، هكذا كان العسكريّ يصيح بقسوةٍ في وجه من يُعدّون من المطلوبين للجيش. ويضيف إبراهيم: خسرنا مدرّسين أكفاء، وكوادر تقوم بتعليم التلاميذ. هناك من تمّ سوقه مباشرةً، فيما هرب غالبية المطلوبين إلى الخارج. وخسر قطاع التعليم ما تبقى من كوادره الشابة التي يقوم على أكتافها هذا المرفق الحيويّ.
فسادٌ آخر
لم تشفع كلّ كتب التأجيل عن الجيش التي كان يحملها عددٌ كبيرٌ من الشباب هؤلاء. وبعد جهدٍ جهيدٍ، ومرور أكثر من أسبوعٍ على الحملة، أيقنوا أن موافقات التأجيل التي يحملونها لا قيمة لها، رغم أن عدداً كبيراً منهم دفع ثمنها، حسب ما يروي مطيع النبهان، وهو أبٌ لثلاثة شبان، الذي أشار إلى أن شعب التجنيد كانت تزوّر الكثير من المعطيات والحقائق. وبإمكان شخصٍ ما، مقابل ألف دولارٍ، أن يحصل على تأجيلٍ شكليٍّ مدوّنٍ على دفتر الخدمة، بتسجيله وحيداً أو طالباً أو معيلاً، إلا أن هذه المعلومات لا تدوّن في السجلات النظامية. ما دفع القوى الأمنية مؤخراً إلى عدم الاكتفاء بمشاهدة كتب التأجيل، بل إلى "تفييش" كلّ الأسماء عبر البطاقات الشخصية، فانكشف فسادٌ آخر هذه المرّة يمارسه المسؤولون عن الحواجز المكلفة بسوق الشباب إلى الجندية، ودفع كثيرون مبالغ طائلةً لتخليص أبنائهم من هذه الورطة.
حواجز طيّارة
بالمقابل سجّلت بعض المحافظات ردود فعلٍ قاسيةً تجاه الحملة، ففي السويداء تعرّضت دوريات الأمن والدفاع الوطنيّ للضرب في مدينتي السويداء وشهبا، عند نصبها الحواجز. واضطرّت القوى الأمنية، من خلال شبكات الأخبار الموالية على الفيسبوك، أن تنبّه الناس وتحذّرهم بطريقةٍ غير مباشرة، معلنةً أنها تقوم بواجبها، وأن على المطلوبين تسليم أنفسهم، وأن يحمل غير المطلوبين الوثائق التي تثبت ذلك. لكن هذه الحملات استمرّت بمزيدٍ من التشدّد، فوقع في الفخّ طلبة الجامعات والمعاهد، الذين تمّ سوق عددٍ منهم من أمام مؤسّساتهم التعليمية ومن على مقاعد الدراسة، وسُجّل الأمر على أنه حملةٌ لإلقاء القبض على عددٍ من المطلوبين جنائياً، أو من متعاطي المخدرات، كما حدث في المدرسة الصناعية بمدينة السويداء. وبالمسطرة ذاتها حدث الأمر في الغاب وحمص وريفي طرطوس واللاذقية، ولكن بأشكالٍ مختلفة وردود أفعالٍ متباينة. إذ علّق أحد أهالي جبلة الموالين للنظام بقوله: لم نرَ أحداً من أبناء بعض العائلات المعروفة عندنا ذهب إلى الجيش أو استشهد، إلا الضباط الذين يستحوذون على الجيش. كما امتدّت يد القوى الأمنية إلى المقاهي العامة، فضلاً عن الحواجز "الطيارة المفاجئة"، ما جعل هذه المقاهي بلا روّادٍ في دمشق، ولا سيما في حيّ ساروجة حيث تنتشر مقاهٍ شبابيةٌ، وبالقرب من الكليات الجامعية. ومن التندّرات التي سجّلها البعض على صفحات التواصل الاجتماعيّ أن شاباً رفض حضور مباراةٍ بين فريقي ريال مدريد وبرشلونة في المقهى بقوله: "القعدة بالبيت ولا مباراة يعقبها حمل بندقية".
سوق الهال بلا عمّال
توقفت الحركة التجارية في سوق الهال بدمشق. سياراتٌ محمّلةٌ بالخضار والفواكه انتظرت أياماً لتفريغها دون جدوى، وفق ما كشف لـ(صوَر) أحد كبار تجار السوق المذكور، والذي لفت إلى أن سبب تعطّل حركة السوق هو هروب عمال العتالة، الذين على أكتافهم يتمّ تنزيل وشحن المنتجات، ما أدّى إلى ارتفاعٍ الأسعار نظراً لعدم توافر المواد، وابتعاد السائقين عن ممارسة مهنتهم في نقل الخضار والمواد الغذائية من مراكز الإنتاج إلى أسواق الهال، وبعدها إلى الأسواق الفرعية. وأوضح التاجر أن السائقين كانوا يرشون عناصر الحواجز، ويضيفون هذه الرشوة إلى التكلفة النهائية للسلع والتي يسدّدها الناس. إلا أن الجدية التي ظهرت خلال الأيام الأولى من الحملة دفعت هؤلاء إلى الجلوس في منازلهم، وظلت مدينةٌ مثل دمشق بلا خضارٍ لمدّة أسبوع، وتوقف العمل في السوق.
وتعطّلت الحياة في مراكز المدن، ولا سيّما في دمشق التي يقطنها سبعة ملايين مواطن، نتيجة الخوف والهلع الكبيرين اللذين أصابا الغالبية الساحقة من سائقي وسائط النقل العامة، ما زاد من طين أزمة النقل بلةً.
جلسة استجواب
كشف مصدرٌ برلمانيٌّ أن عدداً من أعضاء مجلس الشعب طلبوا رسمياً عقد جلسةٍ سرّيةٍ للمجلس، يحضرها وزير الدفاع، لشرح أسباب هذه الحملة، وطرائق تطبيقها، والمخاطر الكبيرة التي تقف خلفها. ولم يتجرّأ النواب الذين طالبوا بعقد الجلسة على ذكر كلمة استجواب، خوفاً من ردّ فعل النظام. وحتى الآن لم تعقد الجلسة، ولم يُحدّد لها موعد، دون أن يحرّك النواب ساكناً أكثر من رفع الكتاب إلى رئيس المجلس، مبرّرين طلبهم بوجود رشىً تُدفع، وتمزيق كتب التأجيل التي يحملها البعض، وبأنهم يريدون إيضاح ما يجري للناخبين في مجتمعاتهم المحلية.
الهجرة من جديد
في تعليقه على مخاطر هذه الحملة بيّن الخبير الاقتصاديّ عيسى الأحمد أنها دفعت شرائح جديدةً من المجتمع السوريّ الموالي للنظام إلى الهرب والهجرة، وشكّلت طعنةً في ظهر الكوادر المتبقية. لافتاً إلى أن الأمور لا يمكن أن تسير بهذه الشاكلة، وإلى ضرورة التنبّه إلى خطرٍ كبيرٍ يتعلق بموقف من أُرغم على الذهاب إلى الجيش دون رغبةٍ أو إرادة، بأيّ جهةٍ سيطلق النار؟ ويرى الأحمد أن الحملة أتت تحت ضغط الحليف الروسيّ، الذي أزعجه وجود الكثير من الشبان في المقاهي بينما البلاد تحت رحى الحرب الطاحنة، فضلاً عن الرغبة العارمة في رفد الجيش بكوادر نظراً للنقص الهائل في صفوفه.
لغة العيون
من مركز الدريج بدمشق، الذي خُصّص لجمع المطلوبين، سعت وسائل الإعلام المحلية إلى بثّ تقارير تشحذ الهمم، وتؤكد أن الذين تمّ سوقهم -رغماً عنهم- جادّون ومندفعون للدفاع عن الوطن، فيما كانت عيونهم تحكي قصةً أخرى أكثر مرارةً، وترفض توجيه فوّهة بندقيةٍ إلى صدر مواطنٍ سوريّ، أو إطلاق رصاصةٍ على مواطنٍ بريء.
.
.
.