حصار المدن السورية سلاحُ حربٍ وجريمةٌ ضدّ الإنسانية
*عاصم الزعبي
لم تكد الثورة السورية تنطلق من محافظة درعا، في 18 آذار 2011، حتى واجهتها الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوريّ بالرصاص. ولكن ذلك زاد من وتيرة المظاهرات الشعبية والاحتجاجات التي طالبت بالحرّية والتغيير السلميّ لنظام الحكم، بعد أن طالبت في أيامها الأولى بالإصلاح وتغيير بعض المسؤولين، ولكن ازدياد القتل في صفوف المدنيين رفع مطالب الشارع إلى إسقاط نظام الحكم بالكامل.
وبتاريخ 25 نيسان 2011 فجراً قامت قوّات الجيش التابعة للنظام باقتحام مدينة درعا بالدبابات، وفرضت حصاراً خانقاً على المدينة من جميع مداخلها استمرّ حوالي شهرٍ كامل. كان ذلك أوّل حصارٍ تتعرّض له مدينةٌ سوريةٌ خلال الثورة، وتسبّب في نقصٍ شديدٍ في المواد الغذائية والطبية وشبه انعدامٍ لها، وخصوصاً حليب الأطفال. مما استثار بقية المحافظات والمدن السورية لتخرج في مظاهراتٍ تطالب بفكّ الحصار عن مدينة درعا، وصدر أوّل بيانٍ خلال الثورة السورية من مجموعةٍ من المثقفين والفنانين يطالب بدخول حليب الأطفال إليها، عُرف حينها باسم بيان الحليب، وواجهه النظام بتخوين من أصدروه وشنّ حملةٍ إعلاميةٍ كبيرةٍ عليهم.
لم يكن حصار مدينة درعا هو الأخير خلال الثورة، فقد شهدت السنوات الخمس الماضية حصار العديد من المدن والمناطق السورية من قبل النظام، بدءاً بحصار مدينة القصير بريف حمص وقطع كافة سبل العيش عنها لفترةٍ طويلةٍ حتى استطاع النظام ومن معه دخولها والسيطرة عليها.
بعد ذلك اتخذ النظام من حصار وتجويع المدن سلاح حربٍ ممنهجاً يتّبعه ضد المدن والبلدات التي تستعصي عليه من الناحية العسكرية، متخذاً شعار (الجوع أو الركوع). وكان هذا السلاح مجدياً في عدّة حالاتٍ نظراً لعدم وجود موقفٍ دوليٍّ -إنسانيٍّ على الأقلّ- يضع حدّاً لهذه السياسة الإجرامية الواضحة. فقد تمّ تطبيق ذات الأسلوب على حيّ الوعر في حمص ومدينة الزبداني، وكانت اتفاقيات إنهاء حصار تلك المناطق تنتهي بإخراج سكانها في سبيل إحداث تغييرٍ ديموغرافيٍّ في مناطق محدّدةٍ يسعى إليها النظام وحلفاؤه الإيرانيون وحزب الله.
ولكن جاء حصار بلدة مضايا في ريف دمشق ليكون أسوأ حصارٍ تعرّضت له مدينةٌ سوريةٌ من قبل النظام مدعوماً بميليشيا حزب الله اللبنانيّ.
بدأ هذا الحصار منذ شهر تموز 2015، بتطويق قوّات حزب الله البلدة، وزرع ما يزيد على 6 آلاف لغمٍ أرضيٍّ أحاطت بها من كلّ الجهات. يبلغ عدد سكان البلدة حوالي 40 ألف شخصٍ من المدنيين، حوالي نصفهم من الأطفال. تسبّب الحصار في ارتفاع معدلات الوفيات بين سكان البلدة ليصل إلى وفاة 3 أشخاص تقريباً بشكلٍ يوميٍّ خلال الأيام الخمسة الأولى من عام 2016. وحتى تاريخ 26 كانون الثاني 2016 سجّلت منظمة أطباء بلا حدود وفاة 23 شخصاً في البلدة. وحسب المنظمات الحقوقية والإنسانية كان هذا الحصار السبب في واحدةٍ من أسوأ وأقسى الأزمات الإنسانية التي نتجت عن سياسة التجويع التي ينفذها النظام السوريّ والميليشيات التي تقاتل إلى جانبه.
رافق الحصار ارتفاعٌ في أسعار المواد الغذائية بشكلٍ كبيرٍ جداً، فتجاوز سعر الكيلو الواحد من حليب الأطفال حاجز 150 دولاراً، وكيلو الأرز حوالي 100 دولار، مما اضطرّ الناس إلى أكل الأعشاب وورق الشجر، في حالةٍ سبق حدوثها في مخيم اليرموك بدمشق حين تعرّض لحصارٍ مماثلٍ من قبل قوّات النظام السوريّ.
كلّ ذلك كان يجري على مرأىً ومسمعٍ من دول العالم والأمم المتحدة والمنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان وغيرها، وسط عجزٍ غير مسبوقٍ، خصوصّاً في الأمم المتحدة التي جاء موقفها دون المستوى المطلوب مع حالةٍ ممنهجةٍ ترقى إلى مستوى جريمةٍ ضدّ الإنسانية. وتمّ إدخال مساعداتٍ بعد موافقة النظام الذي هو أساساً من يرتكب هذه الجريمة بشكلٍ يوميٍّ في حقّ مختلف المدن والبلدات السورية المعارضة له.
من الناحية القانونية الدولية يندرج ما يجري اليوم في مضايا تحت بندٍ من المادة السابعة من ميثاق روما الأساسيّ الناظم لمحكمة الجنايات الدولية، وهي جريمة الإبادة التي تشكّل جريمةً ضدّ الإنسانية، والتي تتكوّن من أربعة أركانٍ هي:
1: أن يقتل مرتكب الجريمة شخصاً أو أكثر، بما في ذلك إجبار الضحايا على العيش في ظروفٍ ستؤدّي حتماً إلى هلاك جزءٍ من مجموعةٍ من السكان.
2: أن يشكّل السلوك عملية قتلٍ جماعيٍّ لأفراد مجموعةٍ من السكان المدنيين أو يكون جزءاً من تلك العملية.
3: أن يُرتكب السلوك كجزءٍ من هجومٍ واسع النطاق أو منهجيٍّ موجّهٍ ضدّ سكانٍ مدنيين.
4: أن يعلم مرتكب الجريمة أن السلوك جزءٌ من هجومٍ واسع النطاق أو منهجيٍّ موجّهٍ ضدّ سكانٍ مدنيين، أو أن ينوي أن يكون هذا السلوك جزءاً من ذلك الهجوم.
تنطبق هذه الأركان على الحصار الذي فرضه النظام على بلدة مضايا وغيرها من المناطق السورية، مع النيّة المسبقة لهذه الأفعال ومعرفة ما ستؤول إليه من نتائج، لتشكّل ملفاً كبيراً من الجرائم ضدّ الإنسانية ارتكبها النظام والميليشيات التي تدعمه، تستدعي تحويل الملفّ إلى محكمة الجنايات الدولية لمحاسبة كلّ المتورّطين بهذه الجرائم. ولكن عدم وجود إجماعٍ دوليٍّ في مجلس الأمن يحول دون هذه الخطوة المهمة، في ظلّ صمتٍ دوليٍّ من الدول الكبرى التي باتت تبني مصالحها بشكلٍ صريحٍ دون النظر إلى الانتهاكات التي تحصل في سوريا وغيرها.
.
.
.