سأعود...
*جاندي خالدي
في بهو الفندق، كنتُ جالساً حين لمحتُ فنجاناً من القهوة يوضع أمامي، ويدٌ ترْبِتُ على كتفي، وبصوتٍ يجمع بين الغلظة والرخامة في آنٍ واحد قال لي: "اشرب، فأنت تحتاجها بعد كلِّ هذا العَناء..."
"تاج أوتيل" أو فندق تاج، الذي يقع في طرف المدينة الوادعة "أَدِرْنَة"، كانت الساعة الثانية من بعد منتصف الليل حين ولجنا مدخل الفندق، لأتصدّر رفقائي في الحديث مع صاحب الفندق بلغةٍ تركيةٍ جيّدة، فاجأتْه وأثارت لديه شكوكاً، فأصبح يدقِّق في صورة البطاقة الشخصية، ويستمرُّ بالحديث معي مستمتعاً، فالأتراك ليس أحبُ عندهم من أجنبيٍ يتقنُ لغتهم.
كانت الأجرة أربعين ليرةٍ تركية من كلِّ فردٍ/ نَفَر لقاء نوم ليلةٍ واحدة، زِيدَتْ لـ خمسين ليرة فيما بعد، مع وجبة فطور، كانت كفيلةً بأن توقِظ الوافدين هناك مبكِّراً، كي لا تفوتهم وجبةً مجّانية – حسب اعتقادهم – أو يضطروا للشراء من مطاعم خارجية تكلِّفهم مصاريف إضافية هم بغنىً عنها.
محاولتان فاشلتان خلال ثلاثة أيام فقط، تجعلانك تفقد الثقة بكلِّ شيء. إحساسٌ غريبٌ يشعر به "النَفَر" كما يسميهم المهرِّبون. هي مغامرة دون شكّ، حين تتخلّى عن إرادتك وترهن نفسك لشبكة مهرِّبين بالكاد تعرف الوسيط بينك وبينهم. انتهت مغامرتنا الأولى بالبقاء لـ 30 ساعة متواصلة دون طعامٍ وماء في إحدى أطراف الغابة البلغارية؛ أما الثانية فانتهت بالقبض علينا في ليلة "ما فيها ضو قمر" واستمرّت لأكثر من ثلاثين ساعةٍ أيضاً، في إحدى المراكز الأمنية التركية.
(الزيل) العسكريّة التي أقلّتنا إلى القطعة العسكرية الأقرب داخل الأرض التركية، منحتني فرصةً لأجري حواراً سريعاً مع عسكريٍّ مجنّدٍ من إسطنبول.. الحوار الذي جعله يغضّ الطرفَ عن سيجارةٍ أشعلتها داخل الحافلة بعد أن أكرمتهُ بواحدةٍ أيضاً. استغرب عندما علمَ أنّني أحمل إجازةً في الحقوق، فسألني لمَ أصرُّ على الهجرة طالما أتحدّث التركية بإتقان، وطالما الحياة في تركيا تعجبني؟ فأجبته: "هل ستمنحنونني هاهنا ضماناً اجتماعياً وصحيّاً؟ وهل ستسمحون لي أن أمارسَ مهنتي وأعمل بشهادتي الجامعية؟ قال: "القانون لا يسمح" مع طأطأة رأسٍ خفيفة تدلّ على الندم وعدم الحيلة. فأجبت: لهذا فنحن مضطرون للسفر.
بلغْنا القطعة العسكرية منتصف الليل، بيّتونا في ساحة المعسكر المكشوفة على الإسمنت العاري الذي تحيط به مقاعدُ معدنية. بعد أن سجّلوا أسماءنا وخصّصوا مهجعاً للأطفال والنساء يستترون وينامون فيه، كنّا 43 شخصاً، لم تكن معاملة العساكر الأتراك معنا سيئة، إلا أنّها اختلفتْ مع المهرِّبيَن البلغارييَن اللذين وفدا إلى الساحة عند الخامسة صباحاً بعد البحث عنهما والقبض عليهما، إذ تعرّضا لأقبح أنواع الإذلال والضرب والشتائم (من تحت الحزام)، في الوقت الذي كانا ينكران فيه أنّهما بلغاريان ويقولان باستمرار: سوريا، سوريا، أي أنّنا من سوريا؟! لكن السِّجن في اليوم التالي كان من نصيبهما.
كنتُ للتوِّ عائداً من مغامرةٍ أخرى- حين رشفتُ رشفتي الأولى من قهوة صاحب الفندق - بعد أن طارَدْتنا الشرطة البلغارية، وأطلقت على رؤوسنا النار من مسدَّساتها وسْط غابةٍ تضيع فيها حتّى الفِيَلة .. الركضُ مسافة كيلومترٍ واحد على الأرض الوعرة، مرتطماً بكافة أنواع غصون الأشجار، كانت كافيةً أن تفقدني الوعي، وأنا على أعتاب الأُفُول للأراضي التركية، مع مجموعةٍ من مشاريع مهاجرين كانوا في عمر الشباب.
خيبة أملي لم تكن أنّنا كُشفنا للبوليس البلغاري الخبيث، ولم تكن بعدم نجاحنا للمرّة الثالثة على التوالي من العبور إلى الطرف الآخر من الغابة التي تمتد لـ 30 كيلومتراً عمقاً، بل كانت خيبة الأمل بفقدان أربعةٍ منّا كانوا فريسةً للبوليس، أحدهم كان من أقربائي وشريكي في تحمّل كلّ هذه المشقّات.
كنّا على أعتاب منعطفٍ ترابي وسط أشجارٍ كثيفة من الطرفين عندما وجدنا شخصاً ماثلاً أمامنا بأمتارٍ قليلة، يرتدي ثياباً زرقاء، واضعاً حقيبةً سوداء على كتفه، ملفوفةً على خصره من الأمام – وهي طريقة المهرِّبين – ونادى علينا بلغة تركية ركيكة GELIN GELIN أي تعالوا تعالوا، حينها التفتنا إلى المهرِّب الذي صُعِق حين رآه، فكانت صرخةٌ واحدة منه بأن اهربوا كفيلةً بتسابق أرجلنا بالعدو أفولاً، بينما كان الشرطي الخبيث يلاحقنا ويطلق ما تيسّر له من طلقات مسدَّسه فوق رؤوسنا. شعرتُ لحظتها أنّ الأدرينالين الذي في جسدي تحوّل لنافورةٍ في طنجرة ضغط، تعطّل صمّامُ أمانها وتكاد تنفجر بي وبمن حولي دون هوادة.
عندما فتحت عيّنيَّ، رأيت شابين يحاولان سقايتي بالماء القليل المتبقّي، فقد تخلّص الجميع من أحمالهم كي يستطيعوا العَدْو بسرعة، إلّا أنا، فما كنتُ لأستغني عن هاتفي الجديد الذي كنت أخبِّئه بين ثنايا بنطالي في الكيس الذي كنتُ أحمله؛ لن أنكر أنّي شعرتُ بالتميّز والانتصار لحظتها وأنا مستلقٍ على الحشائش، ورأسي تأخذني ذات الشمال وذات اليمين في دوّامةٍ استمرّت حتّى المساء.
لم تنفع محاولات المهرِّبين الثلاثة في التوغّل في الغابة بحثاً عن المفقودين، رغم صفّارات البوليس البلغاري، الذي حاول دون جدوى التقاط أحد المهرِّبين، إذ أنهم كانوا بارعين في اختيار اللحظة المناسبة للعودة.
فقدتُ الاتصال بعَزيز، اللعنة على كل الشبكات التلفونية المعطّلة، ماذا أفعل، ماذا أخبر زوجته التي تنتظر وصولنا للعاصمة صوفيا؟ ماذا أفعل أنا وقد بقيتُ وحيداً وسط عشرين شخص لا أعرف حتّى أسماءهم.
عدنا إلى أدِرْنة، المدينة الجميلة بسكّانها النصف أوروبيين، إحساسٌ غريبٌ كان يراودني في هذه المدينة؛ أحببتها رغم ما رأيته من ويلات.
قالت لي صاحبة الفرن ذات يوم: "يتقطّع قلبي على السوريين كلّما شاهدت التلفاز، أدعو الله كلّ يومٍ أن ينهي الظلم عليكم، وتنتهي هذه الحرب اللعينة".
أمّا عزيز ومن معه فقضوا عدّة أيامٍ في مخيّمٍ مغلق إلى أن تمّ سَوقهم إلى العاصمة صوفيا، وانطلق من هناك لإحدى دول أوروبا الغربية.
-"كان لي ابنٌ يشبهك" قالها صاحب الفندق وأنا أرتشف القهوة بعنف، "لكنّي فقدته في حادث سير، كان في عمرك تقريباً، افتح لي قلبك لربّما أساعدك".
صَعقني كلامه، لكنني لم أقل له سوى أنني "اشتقت لبلدي، لأمي وأبي...سأعود".