info@suwar-magazine.org

عن الظلام .. ربيباً للنور !

عن الظلام .. ربيباً للنور !
Whatsapp
Facebook Share

 

شيرين صالح 

 

عتمة تتوهّج في صورة ثابتة، تغضّ عيني الناظر بوضوح مرصوص قاتم، حيثما يحلُّ البصر. شكلٌ مغلقٌ يُضرم ما يفيض من خفايا موجعة، يستحضر أصحابها إرغاماً وقسرا. حين تنقطع الكهرباء، تبدو البيوت كصناديق مختومة، مصفوفة على جانبي الشوارع، كانسياب ماء حافٍ بين شقوق صخرة عظيمة؛ صرير الأبواب يتبادل إشارات دالة على حركة ساكنيها اللامرئية.

 

الطُرقُ نثارُ بقعٍ مقصوصة، تمتد بالعتمة إلى ما وراء الرؤية، والناس أجسام باهتة،  تُديرهم ظلمة لا تقيس أو تستشعر خطاهم المشوشة. رداء يجمعُ الكلّ بذات العباءة، ويحاول أحدهم انتزاعها عن الآخر ببقعة ضوء لا يقدّر ثمنها.

 

مواء القطط يثبُ من الظلام، ليهزّ أطياف السكون، كارتعاش الندى في زهرة ربيعية، ووقع أحذية المارة تتحرّك وتحيا في غمرة الفراغ والجمود. وشوشة الناس تزن مقدار الهدوء المفاجئ الذي طرأ لتوّه، ليبقى الكلّ هامساً للآخر، قد يخرج عن شرائع القوافي المألوفة لترسم لغات جديدة غير مبتكرة خارج النطاق المعتاد، أو سرداً نرجسياً يدور حول ذاته كزوبعة، يعكسُ مرايا قلقة في ذوات مُطبقة كتماناً، وغيرها من الأحاديث الملوّنة، تتكثّف في ذلك الغور المبطّن.

 

شدّة الظلام وهجيجه المبحوح، يمتصُّ ثرثرة الملأ وهمساتهم المثقلة بكلّ ما هو حي، كما يمتصّ الإسفنج الماء؛ عالمٌ خالٍ يتعلّق بشماعة الصمت لتهفو بعيداً وعالياً، بخفة غيمة صيفية. في هذه اللحظة تتكور تحت الجفون حفنتان من الظلام، تأسر الجميع في بقعة من الكحل والقطران، تسيقهم لتنقع خواطرا ألتفَّ بعضها على بعض في إناء صغير شفاف، يغصّ آفاق ذاكرة برمّتها، وهواجس تسلّط سوط الوحدة، كلٌّ منهم يتأمل على حدة، بين طيات ذاته، أضواء تُداهم قوة الظلام عنوة، كفكرة الموت، مثلاً، وحقيقته الجامدة والمحنّطة على جدار القدر والخلود، أو كفيف خانه البصر، أو سجين منسيّ، في متناول ظلّ عار عن كافة أشكال الحياة، بمشهد تضيئه خطوط القمر المنطفأ، والذي يبدو وكأنّه في حالة مقارعة ما.

 

الخوف من الظلام أشدّ حضوراً ويقيناً من الظلام ذاته، ينحت بحبره القاتم أذهان الآخرين نقطة تلو الأخرى، لحظات ضبابية متحجّرة لا يقدّره قياس أو مدة زمنية وفيزيائية ساذجة، ينسلّ الصمت من كل اتجاه، ليغدو المكان أضيق من حقيقته. كلمح البصر، يعود كل شيء إلى حالته المعتادة، بعد إصلاح عطل ما كان قد حصل. ظلام معدود الدقائق أحصى آلاماً تقدر بآلاف السنين، تلاشى ذلك العالم الإيحائي بستائره الباهتة، ليتحوّل إلى جنازة عابرة، بقصص غير مشبعة تفوقها عتمة.

 

الناس والأزمنة والأمكنة، يستعيدون مواطنهم الأصلية بين تضاريس الضوضاء اليومية ومنعطفاتها المزدحمة. اختفى مواء القطط في غيابِ صمتٍ أساءَ إلى مذاق الهدوء؛ توارى خيالُ سجين لم ينتهِ بعد من تحضير بريق النور، سواد يسمّر حيّزاً من وقت ممتلئ بآثام جلاده المحفورة في ثنايا جسده الهزيل ..

 

 

 ــــــ " قد يكون الظلام بعثاً لما مضى" !

.. لا ترويه حكاياتُ الموت، فيا ليته كان مادة، كيما تتآكل مع الزمن.

 

إنه طقسٌ يحكم بما يخلق، ينفضُ عن أوانه ملامح أطياف وإيقاع صدى، يتردد في فضاء الذكريات المخمّرة بالأمس المتعب.

 

 إنه ولادةٌ لكيانٍ حَبِلَ بالتفاصيل، بلا محطات زمنية، ذات بداية ونهاية عالقة. 

 

 

 

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard