info@suwar-magazine.org

التحوّل نحو اقتصاد السوق والاستقرار السياسيّ

التحوّل نحو اقتصاد السوق والاستقرار السياسيّ
Whatsapp
Facebook Share

 

 

أحمد إلياس 

 

إن أيّ تحوّلٍ اقتصاديٍّ حادٍّ وعميقٍ نحو اقتصاد السوق الحرّ دون وجود توافقٍ مجتمعيٍّ وعدم توافر الإمكانيات الضرورية وفي ضوء النتائج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتمخّضة، قد يؤدّي إلى خلق صراعاتٍ من شأنها زعزعة الثقة بسياسات الدولة وإبراز تناقضٍ جذريٍّ بين الطبقات الاجتماعية. لا سيّما وأن عملية التحوّل حسب البرامج الاقتصادية الجاهزة المفروضة من قبل المنظمات الاقتصادية الدولية -صندوق النقد والبنك الدوليين- قد تؤدّي إلى فقدان الدولة أدواتها الاقتصادية في إجراء التوازن الاجتماعيّ وقدرتها على التدخل في عملية توزيع الدخل القوميّ.

 

في ظلّ هذا الواقع نجد أن البلدان النامية تعاني صراعاً حاداً على مستوى القمة حول أولويات قضية التنمية وأدوات الإصلاح الاقتصاديّ، بين أطرافٍ تتمسّك بمكتسباتها وأخرى تسوِّق لنموذج اقتصاد السوق الحرّ. بحيث لم تعد الدولة في البلدان النامية، بما تملكه من سلطاتٍ سياديةٍ وصلاحياتٍ شرعيةٍ، تعبِّر عن رأي المجتمع كمؤسّسةٍ يتمّ التوافق من خلالها على الأهداف الجماعية، وإنما على النقيض من ذلك باتت أداةً للنخبة المسيطرة وتعبيراً عن تحالف القوّة مع رأس المال، بعد أن تآكلت الطبقة الوسطى التي بنت عليها المؤسّسات السياسية في البلدان النامية شرعيّتها في مرحلة ما بعد الاستقلال، وهو ما يؤدّي إلى تآكل الدولة تدريجياً من الداخل والحدِّ من قدرتها على ممارسة دورها السياسيّ.

 

ولعلّ من أهمّ ظواهر هذا التآكل القوّة المتزايدة للطبقات الاجتماعية الغنية واستخدامها سلطات الدولة لتحقيق أهدافها. ومن مؤشرات ذلك ارتفاع نسبة عضوية رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال في مؤسّسات الدولة والهيئات التشريعية في العديد من البلدان النامية، بما يضفي على الدولة تصوّراً جدّياً يكون أقرب إلى الشركة التي يديرها أصحاب رؤوس الأموال وفق ما يتلاءم مع مصالحهم على حساب الترابط الاجتماعيّ والانتماء الوطنيّ، مع ما ينجم عن ذلك من توتراتٍ اجتماعيةٍ وعدم استقرارٍ سياسيٍّ واضطراباتٍ أهلية، وصولاً إلى احتمالات تفجُّر الوضع الداخليّ إلى درجةٍ تنهي أسس قيام الدولة وتفككها.

 

الاستقرار السياسيّ

 

ينصرف مفهوم الاستقرار السياسيّ إلى قدرة النظام الحاكم على إدارة خياراته الاجتماعية دون اللجوء إلى العنف، أو قصر اللجوء إليه على الحدود الدنيا التي لا تنال من شرعيته. فشرعية أيّ نظامٍ ترتبط برضى المواطنين عن السياسات التي يتبناها، وفي حال انعدام هذه الشرعية يغدو العنف وسيلة السلطة أو الأفراد لتحقيق أهدافهم.

 

 

وقد يؤدّي عدم الاستقرار السياسيّ في حال تغيُّر النظام الحاكم إلى تغيير الإستراتيجية العامة للدولة وعدم إمكان استخدام المساعدات الخارجية بفعالية، وبالمقابل قد تُستخدم هذه المعونات للإنفاق على تقوية النظام وحفظ الأمن والاستقرار على حساب عوامل أكثر أهمية، وهو ما يؤثر عموماً في تحقيق التنمية.

 

فقد شهد الأردن، خلال عقد التسعينات الماضي، تطبيق برنامجٍ للإصلاح الاقتصاديّ بإشراف صندوق النقد الدوليّ، أدّى إلى زعزعة الاستقرار السياسيّ الداخليّ. وهو ما يمكن استنتاجه بالمقارنة بين الاستقرار الحكوميّ خلال فترة تطبيق برنامج الإصلاح بين أعوام 19921999–، وبين الفترة السابقة الممتدّة بين أعوام 1989–1980 كفترةٍ ضابطة.

 

 

ويبدو ذلك واضحاً على صعيد التغييرات الوزارية التي جاءت نتيجةً لتدهور حالة الاقتصاد والاعتراضات الشعبية ضد سياسات الحكومة الاقتصادية، فقد شهدت فترة تطبيق برنامج الإصلاح سبعة تغييراتٍ وزاريةٍ شاملة، بمعدّل واحدٍ كلّ 14,36 شهراً، مقابل تغييرين وزاريين في الفترة الضابطة. وعلى صعيد التعديل الوزاريّ -الذي يمسُّ أعضاءً دون رئيس الوزارة -شهدت فترة تطبيق برنامج الإصلاح عشرة تعديلاتٍ وزاريةٍ مقابل ثمانية تعديلاتٍ في الفترة الضابطة. وعلى صعيد التعديلات الوزارية الجوهرية شهدت فترة تطبيق برنامج الإصلاح تعديلين وزاريين، بينما لم تحصل تعديلاتٌ وزاريةٌ جوهريةٌ في الفترة الضابطة. مع ملاحظة أن العديد من هذه التعديلات طالت وزارات المالية والتخطيط والصناعة والتجارة، وهو ما يشكِّل مؤشراً على عدم استقرارٍ سياسيّ.

 

حكومةٌ قويةٌ أم حكومةٌ ديمقراطيةٌ

 

تدلّ الشواهد أنّ عملية التحوّل نحو اقتصاد السوق الحرّ، المفروضة من الخارج، تترافق غالباً مع ممارساتٍ حكوميةٍ ترسّخ الاستبداد وتضعف حقّ مشاركة المواطنين في وضع سياسات التنمية الداخلية. فالبلد المعنيّ يعلم أن نكوله عن تنفيذ البرنامج المفروض سيؤدّي إلى خسارته مصادر التمويل الدوليّ، بينما تركّز المنظمات الاقتصادية الدولية على وجوب تطبيق البرنامج بحذافيره، في ظلّ حكومةٍ قويةٍ قادرةٍ على الالتزام تجاه مقرضيها أو حماية مصالح الاستثمارات الأجنبية، وقادرةٍ على فرض القرارات على مواطنيها، الخاسرين الأكبر من الآثار الاقتصادية للبرنامج.

 

ويعبِّر عن ذلك لويز سيرفينم وأندريه سوليمانو، الخبيران في شعبة التصحيح والنموّ بالبنك الدوليّ: "ما لم ينظر المستثمرون إلى برنامج التصحيح على أنه متسقٌ داخلياً، وما لم يكونوا مقتنعين أن الحكومة ستنفذه على الرغم مما ينطوي عليه من تكاليف اجتماعية، فإنَّ إمكان العدول عن السياسة المتبعة سيصبح عاملاً محدّداً حاسماً في استجابة الاستثمار، فبوسع الحكومات أن تقلب سياسات التصحيح رأساً على عقب، لكن المستثمرين لا يستطيعون إلغاء القرارات المتعلقة برأس المال الثابت".

 

وتشير العديد من الدراسات والإحصاءات إلى أن احتمالات ممارسة السلطة القمع في البلدان النامية قد تزداد في حال إنفاذ برنامج الإصلاح. فخلال عملية التحوّل التي شهدتها روسيا بُعيد انهيار الاتحاد السوفيتي، تحت عنوان العلاج بالصدمة، عبِّر الرئيس الروسيّ الأسبق بوريس يلتسين عن صعوبات إرساء الديمقراطية في تجربة بلاده بموازاة تطبيق برنامج الإصلاح بالتأكيد على أن "القيام بحملاتٍ انتخابيةٍ قوية، وإجراء تحولاتٍ اقتصاديةٍ عميقةٍ في الوقت ذاته أمرٌ مستحيل،.. إن الإقدام على ذلك يعني تدمير كلّ شيء". والحقيقة أن نظام اقتصاد السوق الحرّ لم يترسّخ في روسيا إلا بعد حلّ البرلمان وتوحيد السلطات في يد الرئيس، دون وجود أيّ قاعدةٍ دستوريةٍ أو سياسيةٍ لفرض الإصلاحات، وفي ظلّ غياب الانتخابات أو الأحزاب المعبِّرة عن رأي الشعب.

 

شواهد متعدّدةٌ حول العالم

 

تتعدّد الشواهد عن حالات عدم الاستقرار السياسيّ، بمختلف صوره وأشكاله، الناجمة عن عمليات التحوّل وبرامج الإصلاح المفروضة من قبل المنظمات الاقتصادية، وفي مقدّمتها صندوق النقد الدوليّ، خلال العقود الماضية. ففي فنزويلا عام 1989 أدان الرئيس كارلوس أندريس بيريز صندوق النقد ذاهباً إلى أنه يفرض سياساتٍ اقتصاديةً مطلقةً تميت ليس بالرصاص وإنما بالجوع. وقد اضطرّت الحكومة، في ضوء الاضطرابات الشعبية ضدّ برنامج الإصلاح، إلى إعلان حالة الطوارئ وإرسال وحدات الجيش لمهاجمة أكواخ الفقر على أطراف العاصمة. وذهب ضحيةً لهذه الاضطرابات حوالي 600 قتيلٍ وأكثر من 1000 جريح.

 

وفي نيجيريا شهدت البلاد، في أيار 1986، احتجاجاتٍ طلابيةً ضد اتفاق الحكومة مع صندوق النقد على تطبيق برنامجٍ للإصلاح، وقُتل ما يزيد على 20 طالباً في هذه الاحتجاجات. وتكرّر ذلك في عام 1999، عندما اجتاحت البلاد مظاهراتٌ طلابيةٌ حاشدةٌ ضدَّ سياسات الحكومة التعليمية وتوجّهها إلى إغلاق العديد من الإدارات الجامعية لخفض نفقات التعليم.

 

وفي بوليفيا شهدت البلاد، في عام 1985، إضراباً شاملاً دعت إليه النقابات العمالية بدعمٍ من العمال الزراعيين ضدّ زيادة الحكومة أسعار المواد الغذائية والطاقة بعد تطبيق برنامج الإصلاح، إلى درجةٍ استدعت تدخل الجيش، وقيام الحكومة بزيادة الحدّ الأدنى للأجور الأساسية لأكثر من أربعة أضعاف.

 

وفي الإكوادور شهدت البلاد، في آذار عام 1987، إضراباً عاماً ضد السياسات الاقتصادية الحكومية شلَّ اقتصاد البلاد، وحصلت اشتباكاتٌ بين الطلاب ورجال الشرطة. وتكرّر الأمر في حزيران من عام 1999 للمطالبة بالحدّ من تدابير التقشف المتخذة بموجب برنامج الإصلاح، فلجأت الحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ العامة. وفي عام 2000 تكرّرت الاحتجاجات إلى درجةٍ وصلت بالمتظاهرين إلى الاستيلاء على البرلمان ودفع رئيس الجمهورية إلى الاستقالة.

 

وهو أمرٌ تكرّر في العديد من البلدان الأخرى؛ كجامايكا عام 1985، وروسيا عام1993 ، والسودان عام 1987، وبنين عام 1989، وزامبيا عام 1987، والكونغو الديمقراطية عام 1985 ، والبيرو عام 1991، وإندونيسيا عام 1998، وتكرّر ذلك عام 2000، وفي اليمن عام 1998، وفي ساحل العاج عام 1999، وفي زيمبابوي عام 2000، وفي المكسيك والمغرب والأوروغواي والباراغواي.

 

.

.

.

اقرأ المزيد للكاتب .. 

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard