أولئك الآلهة.. فـلندفنهم
نبيل الملحم
الحذاء الصينيّ كان يوماً ما من الفولاذ، فليس على قدم البنت أن تنمو أكثر مما يحدّده قانون "الحذاء"، وكلّ ما عدا الفولاذ ليس من (الحقّ).
ولا بأس إذا ما أطلق عليه الصينيون "حذاء الحقّ".
ولا بدّ أن يعترينا الرعب حين تكون الزنزانة هي "الدين الحقّ"، كما الحذاء الحقّ.
- ونعرف كيف نملأ رؤوسنا بـ"الحقّ".
ماذا تفعل إذا كان الإسلام هو (الدين الحقّ)؟ وإذا كان رسوله قد أغلق البوابة على المستقبل ليكون (آخر الأنبياء)؟ وليكون قوله هو (القول الفصل-الحقّ)؟ ماذا تقول إذا كانت اليهودية هي المختارة من الله (شخصياً) لتكون المنزّهة، المقدّسة، المالكة الحصرية للجنّة غداً وللمصرف اليوم ووفق مسطرة (الحقّ)؟ كيف ستأخذ على محمل الجدّ ذاك التكاثر المدهش لابن الربّ، وقد وصل توّاً بعد نفخ الروح في امرأةٍ (وهي، ولا سواها، الحقّ)؟
بعدها، ما الذي تقوله بما آل إليه التاريخ وقد سجّل المُقدَس ليلغي الخطيئة من دفاتره؟
هو الأمر كذلك، ولكنها الخطيئة تتجوّل وحدها في هذه الكرة المقتطعة من درب اللبان الشهير وكرتنا هي (البحصة) العالقة في حلقه؟
- الخطيئة..
نعم هو الأمر كذلك، ولولاها ما كان لهذا الكائن الذي هو نحن أن ينتج الدولة، والعائلة، ومنهما أو (قبلهما) المُلكية التي نقتتل حتى الموت في خنادقها، لنكون (الكمال)، الكمال بعينه.
الكل مُكتمِل، مشاريع الأمم الصاعدة وتلك النازحة، مشاريع الأقوام والقوميات والدولة، ومشاريع السيرك الكبير الذي يعني عالماً جائعوه ينسجون قمصان متخميه، وبلهاؤه يمكثون في العيب، وعباقرته صُنّاع أوهامه.
وها نحن نتجوّل في حقيبة جون كيري، ذاك القادم من ضباب الأفيون، نتجوّل كما تماثيل الشمع، لنختار من بعده في من اختار الربّ الأمريكيّ.. آخر الآلهة الأمريكيين وقد يختار الخليفة العثمانيّ، أو الدكتاتور السوريّ، وبينهما يلعب الملالي رقصة (الشطرنج) الكبيرة، فقد مات الشاه وورثه آية الله وحده، ليضيف إلى صفاته ما يسمّى روح الله، وكأن لله روحاً يُمكن أن تُزهَق.
وكلهم من أجل تحديد ملامح: "الفوضى العبقرية الجديدة".
- و.. نُقدّس الخليفة المرتقب، ونحبو للدكتاتور (المذهل)، ونطأطئ عمائمنا لروح الله الذي قد يخلو من (الرجل).
هي لعبة التاريخ وقد يعيد نفسه، يدور ويؤرجحنا. وحين نصاب بالضجر نصرخ في وجه الخطيئة أن (ابتعدي)، لنبعدها ونكون على ضفاف الكاملين، المعصومين من الخطأ، لأن نبينا معصومٌ، وكذلك الله، وما علينا سوى أن نُستَنسخ منهما.
- نريده بكماله: الدكتاتور، الخليفة، النبيّ.
بشرٌ نبحث عن الموت.. هو الحال كذلك، ولا بدّ أن يكون المُقدّس هو ذلك الحذاء الفولاذيّ الصينيّ.
مرّةً قالها السينمائيّ الفرنسيّ جان لوك جودار: "الكمال هو الموت". وللعلم فهو صاحب كرّاسات السينما الفرنسية، وصاحب فيلم "حتى انقطاع النفس"، وهو من أسّس لما يتجاوز الشريط السينمائيّ نحو الرؤيا التي تعني المطرقة في وجه عالمٍ بالغ القباحة.. في "حتى انقطاع النفس" خطأ مونتاجيّ، ربما يلتقطه صبيّ تنظيم مقاعد السينما، وحين سألناه:
- كيف لك أن تقع في هكذا خطأ؟ أجابنا:
- لأن الاكتمال هو الموت.
ما يعني أننا نبحث عن الله الميت، وأننا مكرّسون للموت، أو بشر حافته.
نطلب المُقدَس، ونرهننا إليه، ونغرق في الوحل مع مقدساتنا، وكي ننجو من الوحل نغمر من تبقى منّا في الوحل، وهكذا تُعيد ثوراتنا سلطاتنا (ما هي المسافة بين عبد الحكيم بلحاج ومعمر القذافي سوى في نمرة الحذاء الفولاذيّ؟) ولا تكلّ أيادينا عن التصفيق لإعادة إنتاج عبوديتنا، فنتوزّع بين رصيفين أولهما العبودية وثانيهما العبودية. ومع كلّ عبوديةٍ جديدةٍ آلهةٌ جديدة، لنكون صندوق الفرجة، فرحين بما نؤول إليه، وتعالوا نراجع تاريخ عبوديتنا:
- عبوديةٌ للرسل، ومن بعدها عبوديةٌ لمديري أعمالهم وموزّعي فضائلهم، مرّةً يسمَّون بالصحابة وثانيةً يُنعَتون بالحواريين، وفي كلّ مرّةٍ سيكونون مجلس إدارة شركة سجننا، وها نحن نقتتل، ومنذ 1400 سنة، انتصاراً لقيدٍ ضد قيدٍ تحت مسمّى سنّيٍّ-شيعيٍّ.
- عبوديةٌ للآباء المقدّسين (أبٌ قائدٌ هنا) وآخر أبٌ قائدٌ هناك.
- وعبوديةٌ للبلاهة التي لم تملّ منا.
ومع كلّ عبوديةٍ نجثو على ركبتينا، في ناتجٍ قوميٍّ لا يتجاوز توسيع السجون، وفي لعبةٍ ها هي تنتهي اليوم بشعار:
- الله أكبر.
ومع كلّ ركبةٍ من ركاكيبنا تأكلنا الحصى، فنَقتل ونُقتَلْ.
نعم نُقتَلْ ونَقتُلْ وسط صيحات الله أكبر، مع تمجيدٍ لرجال صدفةٍ آتين من وراء ظهر التاريخ، حوافر حميرهم تدكّ رؤوسنا.
على الدوام كان الله حاضراً، ليس الله بالمعنى الخياليّ.. ولا بما تعنيه نزوات النجاة.. لا.. الله بأسمائه الحسنى وقد تكرّس كما يحلو للقاتل أن يُكرّسه، وحين نكفر بالله (إياه) نخلق آلهتنا الجديدة (ما بالكم إذا كان عيدي أمين إلهاً ذات يوم؟).
ذات يومٍ كانت آلهتنا من البلح والرطَبْ، وكانت آلهةً شهيةً متنوّعةً نأكلها حين نضيق ذرعاً بها.
ذات آخر، آلهةً من الطين فيها أصابع نحّاتٍ إزميله شروق مخيلته.
وحين كان لا بدّ من الإله (الفولاذيّ) بات الإله واحداً، والساطور هو المقدّس.
ساطورٌ ليس من مدّخرات "داعش"، ساطورٌ يتقاسمه العلمانيّ الذي يحلو له اليوم أن ينشد (الآب والابن وروح القدس)، أو ذاك الذي يُنشد (طلع البدر علينا)، وكلتاهما إلهين حفّاري مقبرتنا.
- كان علينا أن نحفر مقابرنا لنا.
- نحفرها لندفن في وحدتنا دون آلهةٍ تُقاسمنا غبارنا.
كان علينا أن نخلع الفولاذ من أقدامنا كي نعرف كيف نركض دون أغلالٍ ولا قيود.
القدم هي مكتشف التاريخ، هي هكذا، وسيبقى التاريخ مغلولاً كلما أمعنّا في الحذاء.
.
.
.