احتماليّةُ أنْ نكونَ أقفالاً
“وجه الوقوف على شرف الكلام أن تتأمَّله”
وائل الناصر
“من غصنٍ إلى آخر يتنقَّل القصف” مجموعة للشاعر السوري ريبر يوسف،صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،2015،وهي بيانٌ عالٍ من نوع “على قلقٍ كأنِّ الرِّيح تحتي”، عشتُ في قراءة هذا الكتاب،مدارج السالكين في المتع كلها، و رحتُ أُردِّدُ معانيه المبحرة في زوارق ألفاظه كتأشيرات دخول اجتازت حدود ما استشكل بي، لأُدركَ أنّه كتاب بيانٍ لا تستطيع أن تكتب عنه كتابة مجملة دون تفصيل،فما إن تفتح الكتاب حتى يثبُ عليك بابه الأول: في القفل يدير القصف أنفاسه: تصفعكَ “في” بحِرفيَّة الواثق بطبيعة القصف،القصف الفاعل العائد من قصفه،ليْدير بأنفاسه قفل الباب،”في” منحت “القفل” ذات القصف،ثم جاء الفعل “يُدير” ليستغرق القفل كله و كأنِّ أنفاس القصف المتعبة،المنهارة، تجد في فتح القفل نشاطها و حيويتها،و لكي يزيد الشاعر ريبر يوسف من ألمنا، جعل “القفل” معرّفاً بأل التعريف و سرق منه المعرفة،و ما عرَّفه به،هذه المعرفة /النكرة جعلت من كلِّ شيء،حتى نحن، احتماليّة أن نكون أقفالاً.
يبدأ الباب الأول بـــــ :
“الخطوات في الشارع، تختلطُ متكاثرةً”. يلعب بنا الشاعر لعبة القفل، فالناس كلهم في حالة قصف، الخطوات ترسم الشارع، و مرةً أخرى هجمتْ “في” على المعنى، لكنها هنا “في” قلقة، مرتبكة، مختلطة، على عكسها هناك ” في القفل” فهي هنا شرعية لفظٍ أسر ملفوظه، و استنطقه من جميعه،هل الخطوات هي متكاثرةٌ لأنها تختلط؟
حين يصبح الإنسان قفلاً، يكثر بكل انفعالٍ فيه و يستقلُّ،أُصبحُ أنا الخوف،أنا القلق،أنا الحيرة،أنا الموت.
من قسوة الشاعر بنا، أنّه وضع نقطةً في آخر جملة “تختلط متكاثرةً” ليقصفنا بجملةٍ غاية في القسوة،”يسرد الخرز المعتاد في الأذن،بينما، وعبر كلمةٍ محيِّرة، يسحب القصف خيطها” الخرز فصوصٌ من الحجارة، يُتزيَّن بها، مشدودة بخيط،هذا الخرز يسرد المعتاد،”المعتاد”هنا، جعلتني أحقد على الشاعر،هذا التعريف و التنكير،المعرفة و الجهل،الإبهام و الوضوح، هو عينه “الخطوات” التي “تختلط متكاثرة”.
“المعتاد”هل هو اعتياد الناس لسماع أصوات القصف؟هذا قول مستبعد،لأن الشاعر يوغل في تعذيبنا بقوله:”بينما، و عبر كلمةٍ محيِّرة” حين فصل الشاعر “بينما” عن “و عبر كلمة محيرة” عرفت أن “بينما” تحمل في بينميَّتها حدثاً رهيباً “و عبر كلمة محيرة”يسردها الخرز في الأذن،ليسحب القصف خيطها،هذه الكلمة المحيرة،قالها القصف،و بها سحب الخيط و فتح قفل الخرز،و الذي لا يكون خرزاً بدون خيطه،إذن الكلمة المحيرة هي من كلام القصف التي قطعت “المعتاد” الذي يسرده الخرز في الأذن.
القصف حين يفتح قفلاً يُجرِّده من كينونته،فتسقط ماهيته التي يمتاز بها،الخيط كينونة الخرز و حين سحبه القصف،سقط الخرز،و فقد ماهيته،اذن،الخطوات خيوط الشارع،هذه الخيوط خلّطها القصف،فتكاثرت كتكاثر فصوص الحجارة حين سحب القصف خيطها.
“التفاتاتٌ مبطَّنةٌ الغاية” حالات التوجس هذه متضمنة في الشارع،تختلط متكاثرةً،و متضمنة لما يسرده الخرز المعتاد في الأذن “تدفع بالخشية نحو النشاط” الشاعر يكلمنا عن المعتاد و يكسر المعتاد فينا،المعتاد فينا،هو أن الخشية هي التي تدفع،و كأن الخطوات التي تختلط متكاثرةً،و ما يسرده الخرز المعتاد في الأذن،قد أصبحا هما الخشية،و الالتفاتات المبطنة الغاية،هي التي تدفع ما صار خشيةً،نحو النشاط،لكن مهلاً،قفْ قليلاً،تدبّر معي قول الشاعر:”بينما،و عبر كلمةٍ محيّرة،يسحب القصف خيطها” “خيطها” الهاء هنا،هل هي ضمير عائد على الكلمة أم الخرز؟ إذا كان الضمير عائداً على الكلمة،و إذا كانت هذه الكلمة المحيرة هي ما يسرده الخرز المعتاد في الأذن،فإنِّ الخيط هو أنت أيها القارئ،هو أنا،هو الإنسان الخيط للخطوات التي تختلط متكاثرة في مشهد الشارع، و الشارع هو الأرضيّة السوداء،المطفأة،للخطوات التي تختلط متكاثرة،و الكلمة المحيرة التي يسردها الخرز المعتاد في الأذن، و الالتفاتات المبطّنة الغاية،هي حالات التوجس،حال سحب القصف لخيط المشهد،القصف قال كلمته المحيّرة، إذن، و تلك الالتفاتات المبطّنة الغاية،”تدفع بالخشية نحو النشاط” ،الخشية بما تتضمنه من انفعالات والتي جعلت الخطوات تختلط متكاثرةً،هي ذاتها تدفع الخطوات نحو النشاط،قفْ معي صديقي، “في القفل يدير القصف أنفاسه” الشاعر يريد هنا النشاط و الحيوية حتماً،لأن أنفاس القصف هي:الخراب،القتل،الخوف،القلق،الرعب،الموت،هذه الأنفاس هي الخشية التي تدفعها الالتفاتات المبطنة الغاية نحو النشاط،و حين يحصل هذا ف”لا رأفة بالعدميّ” و العدمي هو المفقود،فالعدم هو الوجه الآخر للوجود،و جاءت لفظة العدمي هنا بعد الخشية،لأن الخشية تكشف العدم حسب هايدجر،و الأديب العدمي هو الذي ينفذ من خلال الموت و البشاعة و العنف و القبح إلى معنى الحياة العدمية.
الموت حلقة النشاط الدائرية،و التي يدور العدمي في فلكها، قابضاً خيطه، وحين”و عبر كلمة محيرة”يسحب القصف خيط الوجود و الذي هو الوجه الآخر للعدم،لهذا خلت المجموعة من أفعال الماضي و المستقبل فالقصف يقفل قفل الزمن،يمنحكَ آنيّة المشهد وكأنّ الشاعر أراد أن يقول لنا:لا ماضيَ للقصف،ولا ماضيَ في القصف ولا مستقبل كذلك،وحتى الحاضر مستبعدٌ إذ لا حاضر في القصف إلا آنيّة القصف.
آن القصف تنتحر الذاكرة وتموت سين وسوف وتكثر الأفعال الناقصة العاجزة عن سرد المعتاد في الأذن،إذ وعبر كلمةٍ محيّرة يسحب القصف خيطها،فلا أفعال كاملة وصحيحةً في القصف،تصف القصف،وبالرغم من ذلك خلت المجموعة أيضاً من كان وأخواتها أيضاً،لأن الزمن يفقد معناه في غصن القصف فلا يملك أصحاب الانفعالات المبطّنة الغاية قدرة القصف في التنقّل من آنيّة مشهدٍ إلى آنيّة مشهدٍ آخر،أو في أنيّاتٍ لحظيّة ممثّلةً الحضور الجمعي للقصف الذي يتنقّل جملةً وتفصيلاً من غصنٍ/أغصانٍ إلى آخر،إلى أخرى،إلى شجرة،إلى قرية شجرة،مدينة شجرة،إلى شجرة الوطن.
————————-
ريبر يوسف :
شاعر وكاتب سوري مواليد مدينة الحسكة 1981
درس التصوير السينمائي.
صدر له:
. مجموعة شعرية مشتركة (قصائد بحجم ابتساماتنا) مع الشعراء (أمير الحسين، أوميد) عن دار الزمان دمشق 2006
. مجموعة شعرية باللغة الكردية (حجلاً أعبر الحقل) عن دار الطليعة الجديدة دمشق 2009
ـ مجموعة شعرية باللغة العربية (من غصن إلى آخر يتنقل القصف) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2015