info@suwar-magazine.org

القضيّة الكُرديّة وصراعات الشرق الأوسط

القضيّة الكُرديّة وصراعات الشرق الأوسط
Whatsapp
Facebook Share

 

 

*طارق عزيزة

 

كثيرةٌ هي القضايا السياسة المزمنة التي وسمت، ولا تزال، تاريخ الشرق الأوسط طيلة قرنٍ من الزمن. تعود البذور الأولى لبعضها الأكثر تعقيداً إلى نيسان/أبريل (1916)، واللحظة التي وقّع فيها مارك سايكس وجورج بيكو على الاتفاقية الشهيرة باسميهما، والتي تُصادف ذكراها المئوية هذا العام. حينها وضع الرجلان، من حيث لا يدريان ربّما، حجر الأساس لمشكلاتٍ لم تجد لها حلّاً إلى الآن، وكثيراً ما تفرّعت عنها فيما بعد مشكلاتٌ مركّبةٌ ومتعدّدة الأوجه، تهيّأت الظروف لنموّها في أجواء "الحرب الباردة".

 

غنيٌّ عن البيان أنّ جانباً كبيراً من "الفضل" في استدامة تلك المشكلات يعود أيضاً إلى هيمنة نظم الاستبداد، بمختلف أشكالها، على هذا الجزء من العالم. ولا يحمل ما شهدته وتشهده بلدان المنطقة من تحوّلاتٍ، بعد انطلاق "الربيع العربيّ"، في طيّاته حلولاً للقضايا العالقة، في ما يبدو حتى الآن، بقدر ما يضفي عليها مزيداً من التعقيد. "القضية الكردية" واحدةٌ من أبرز تلك القضايا.

 

منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبالتزامن مع تزايد الاختراق الأوروبيّ للدولة العثمانية وتسلّل الأفكار السياسيّة الحديثة، بدأت تخبو فكرة "الجامعة الاسلامية" التي سعى سلاطين بني عثمان للترويج لها، لا سيّما في المراحل الأخيرة من عمر دولتهم، بهدف تعزيز سلطتهم على الشعوب المختلفة الخاضعة لسيطرتهم وتدين بالإسلام، من خلال الرابطة الدينية. وبدأ يظهر في أوساط الكُرد، كغيرهم من الجماعات، خطابٌ قوميٌّ يسعى نحو الاستقلال أو الحكم الذاتيّ. وبات العديد من حركات التمرّد التي يقودها زعماء محلّيون في المناطق الكُردية ضدّ "الباب العالي" يتّخذ بعداً قوميّاً، بعد أن كانت تأتي ضمن سياق محاولات الولاة والقادة المحليين تعزيز مكاسبهم وتقوية نفوذهم على حساب السلطة المركزية. وتأسّست، في بدايات القرن العشرين، جمعياتٌ ونوادٍ عدّةٌ على أيدي المثقفين الكُرد في اسطنبول، تطالب بالحكم الذاتيّ.

 

انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة الدولة العثمانية، وتقاسَم الحليفان الأوروبيان بريطانيا وفرنسا تركتها وفق اتفاقية سايكس-بيكو، ثم تعديلاتها النهائية في المجلس الأعلى للحلفاء، المنعقد في سان ريمو بإيطاليا (1920). ومثلما خدَع الحلفاءُ، لا سيّما بريطانيا، العربَ وتخلّوا عن وعودهم للشريف حسين بالاستقلال وإقامة دولة عربية، كذلك فعلوا مع الكُرد، فلم تُطبَّق البنود المتعلّقة بهم من معاهدة سيفر (1920)، التي تتحدّث موادها (62، 63، 64) عن حكمٍ ذاتيٍّ لكُردستان يشمل مناطق شرقيّ الفرات، وجنوبيّ أرمينيا، وشماليّ سوريا والعراق، إضافةً إلى الموصل -على أن تكون هذه رغبة أغلبية سكان المدينة- مع ترك المجال مفتوحاً أمام الحكم الذاتيّ المفترض ذاك للمطالبة بالاستقلال عن تركيا خلال عامٍ من تصديق الاتفاقية. ثمّ لتتبخّر كلّ هذه الوعود ويتقرّر تقسيم كُردستان بعد اكتشاف النفط في الموصل، ونجاح أتاتورك في حربه ضد قوّات الحلفاء الموجودة في تركيا (1922)، وصولاً إلى معاهدة لوزان (1923)، ليجد الكُرد أنفسهم موزّعين بين أربع دول: إيران، وتركيا، والعراق، وسوريا، فولدت "القضية الكردية".

 

 

شكّلت هذه القضية مادّةً خصبةً للتدخّلات الدولية، وكثيراً ما جرى التلاعب بها في سياق الحرب الباردة. تناوبت الأدوار في هذا بين عملاقي هذه الحرب، الاتّحاد السوفياتيّ والولايات المتحدة الأمريكيّة، سواء من خلال دعم الكُرد للضغط على الأنظمة القائمة في الدول التي توزّعت عليها أجزاء كردستان الأربعة، أو عبر الترويج لفريقٍ كرديٍّ على حساب آخر، بما يخدم مصالح المتدخّلين.

 

من جهتها، عملت أنظمة المنطقة على استخدام الكُرد كإحدى أوراق الضغط في صراعاتها البينية. من أمثلة ذلك قضية "كردستان تركيا"، إذ قدّمت أحد أهمّ النماذج، وهو حزب العمال الكردستاني (PKK). فمنذ ظهور الحزب في تركيا أواخر السبعينيات، ثم إعلانه عن الكفاح المسلح والشروع بحرب عصاباتٍ في تركيا (1984)، انتقل زعيمه عبد الله أوجلان إلى سوريا، وقاد منها عمليات حزبه ضدّ الأتراك، الذين باتت المشكلة الكردية عندهم إحدى أهم محدّدات السياسات التركية الداخلية والخارجية على الإطلاق. وقد دأب نظام الأسد على الاستفادة من (PKK) إلى أقصى درجةٍ ممكنةٍ في صراعه مع أنقرة. وكان لافتاً أنّ سياسات النظام السوريّ التعريبية والقمعية تجاه الكُرد في سوريا لم تمنع أوجلان من "التحالف مع النظام التقدميّ في سوريا"، وفق تعبير وثائق الحزب. ولكن "النظام التقدّميّ" ذاته عاد وخضع للضغوط التركية، فتمّ إبعاد أوجلان عن سوريا (1998)، لينتهي به المطاف، بعد أشهرٍ قليلةٍ، في قبضة المخابرات التركية التي اختطفته في كينيا (1999).

 

 

على صعيدٍ آخر، كانت الامتدادات والارتباطات الإقليمية للأحزاب الكردية في مقدّمة العوامل المؤثّرة في خلافاتها وانشقاقاتها. وبدورهم، سعى قادة القوى الكُردية الرئيسية إلى الاستفادة من التناقضات المُشار إليها، بشقّيها الدوليّ والإقليميّ، في التنافس الكرديّ–الكرديّ، سواء أكانت دوافعهم أيديولوجيةً وسياسيةً أم حتّى في إطار الصراع على السلطة، وصولاً إلى تسوية حساباتهم اعتماداً على الأنظمة المستبدّة عينها التي تقمع الكُرد. ولعلّ أبلغ شاهدٍ هو الحرب الأهلية في كردستان العراق أواسط تسعينيات القرن الماضي، حين بلغ الصراع ذروته بين حزب الاتحاد الوطنيّ الكردستانيّ بزعامة جلال طالباني، والحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ بزعامة مسعود برزاني، فاستعان الأوّل بالحرس الثوريّ الإيرانيّ، والثاني بقوّات نظام صدّام حسين. وقد احتاج الفريقان الكرديان المتقاتلان إلى وساطةٍ أمريكيةٍ لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أيلول/سبتمبر (1998).

 

 

يبيّن ما تقدّم كيف أنّ الكُرد يشكّلون عنصراً هامّاً وحيويّاً في السياسة الشرق أوسطية، أقلّه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. وذلك على الرغم من الطابع المركّب للقضيّة الكردية، الناجم عن اختلاف ظروف الكُرد وأوضاعهم بين دولةٍ وأخرى، إضافةً إلى ثقل التباينات الاجتماعية والثقافية المتراكبة على الانقسامات القبَلية بينهم، وهو مما أضعف مشروعهم القوميّ بلا شك.

 

 

وإذا كانت الولايات المتّحدة قد انفردت إلى حدٍّ كبيرٍ، بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار خصمها الأحمر، في ضبط إيقاع سياسات دول المنطقة وإدارة ملفّاتها وفق مصالحها، ومن ضمنها بالطبع القضية الكردية، فإنّه يظهر جليّاً كيف يسعى الروس اليوم إلى الاستفادة من العنصر الكرديّ في سوريا خصوصاً، في إطار محاولتهم استعادة شيءٍ من الدور الفاعل عالمياً، لا سيّما في ساحات المواجهة الرئيسية السابقة بين السوفيات والأميركيين كالشرق الأوسط. ومعلومٌ أنّ الروس لديهم ما يكفي من خبرات التدخّل في شؤون الآخرين ليمارسوا ضغوطهم على تركيا عبر حلفائهم الكُرد. وإنّه على الرغم من الحرص الأمريكيّ على العلاقات الطيبة مع الكُرد لتوظيف جهودهم في مواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابيّ في سوريا والعراق، فهم مضطرّون إلى التعامل مع الحساسية التركية العالية تجاه هذه العلاقة، لأن تركيا، التي تنظر إلى الصراع الدائر في سوريا من زاوية مشكلتها الكُردية المستعصية بالدرجة الأولى، هي شريكٌ أساسيٌّ في حلف الناتو.

 

 

إنّ تطوّر القضية الكُردية، على امتداد سنوات التأثير والتأثّر بالصراعات الشرق أوسطية، يدفع إلى الاستنتاج أنّ مختلف اللاعبين الإقليميين والدوليين، على تباين سياساتهم تجاه الكُرد واعتماد كلّ طرفٍ هذا الفريق الكرديّ أو ذاك كحليفٍ له، فإنّ الثابت في توجّهاتهم جميعاً كان إدامة المشكلة الكُردية والاستثمار فيها عوضاً عن إيجاد حلٍّ لها. ولأن الأولوية لاعتباراتٍ تتعلق بتوازناتهم ومصالحهم المتغيّرة، غالباً ما كان "الحليف" الكُرديّ ضحيّةً على مذبح معالجة خلافاتهم وتسوياتها، التي كانت دوماً على حساب المصلحة القومية الكُردية.

.

.

.

اقرأ المزيد للكاتب ..

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard