info@suwar-magazine.org

قراءات في الحركة الإسلامية في الحرب السورية

قراءات في الحركة الإسلامية في الحرب السورية
Whatsapp
Facebook Share

 

 

ينشر هذا الملف بالتعاون مع مجلة صور ومركز دراسات الجمهورية الديمقراطية 

 

 

قراءةٌ في ظاهرة "أسلمة" الثورة السوريّة

 

(1)

 

*طارق عزيزة

 

 

*مدخل

 

تزامنت الذكرى الخامسة لانطلاق الثورة السورية مع "هدنةٍ" نجحت نسبيّاً في خفض منسوب العنف في البلاد، فكانت فرصةً لعودة المظاهرات السلميّة، واستعادة مشاهد الأشهر الأولى من الثورة، حين كان الحراك المدنيّ السلميّ سمتها الرئيسية، قبل تصاعد العنف، واستفحال الصراع المسلّح، وطغيان الجماعات ذات المشاريع "الإسلامية" على من عداها من الفئات التي تواجه نظام الاستبداد. وكان لافتاً، في سياق عودة التظاهرات إلى صدارة المشهد، إعادة الاعتبار إلى علم الاستقلال، علم الثورة، وشعارات الثورة الأولى، على حساب الرايات "الإسلامية" المختلفة، ووقوع مصادماتٍ بين المتظاهرين وبين سلطات الأمر الواقع الإسلامية في بعض المناطق الخاضعة لسيطرتها، وصولاً إلى قيام السكّان بإجبار "المجاهدين" على الانسحاب من مقرّاتهم، كما في معرّة النعمان (14 آذار/ مارس 2016). وهذا تعبيرٌ واضحٌ عن رفض السوريين عموماً لأجندات جماعات الجهاد وممارساتها، وقد عبّروا عنه ما أن أُتيحت لهم الفرصة.

 

 

يعيد هذا إلى الواجهة مسألة "أسلمة الثورة"، وضرورة فهمها وتحليلها، بوصفها ظاهرةً طارئة، جاءت نتيجة أسبابٍ وظروفٍ محدّدة، وهو ما تنشغل به هذا الدراسة، إذ تبحث في مسار "أسلمة الثورة"، وتناقش الظروف العامّة وحيثيات نشوء الظاهرة وانتشارها، الذي ترافق مع انزياح الثورة نحو "العسكرة"، عبر تضافر أدوار النظام والمعارضة وبعض الجهات الخارجية الداعمة لكلٍّ منهما، وصعود نجم "السلفية الجهادية" خلال سنوات الثورة. ومن خلال العرض والتحليل يجري رصد جدلية العلاقة بين المجموعات الإسلامية المقاتلة وبين "المعارضة السياسية السورية"، دون الخوض في موضوع الجماعات المرتبطة بالجهاد العالميّ، إلا ما كان منه متّصلاً بضرورات الدراسة.

 

مقدّمات ظاهرة "أسلمة الثورة"

 

من المفارقات التي سجّلَتها مجريات الثورة السوريّة وتحوّلاتها أنّ ما قدّمه إعلام نظام الأسد في محاولاته لتبرير "الحلّ الأمنيّ"، وروايته الرسمية منذ خروج أولى المظاهرات السلمية المطالبة بالتغيير، عن "الإمارات السلفيّة" و"الفتنة الطائفيّة"، وجد على أرض الواقع معطياتٍ تنسجم مع مضمونه، ولذلك أسبابه المتشعّبة الداخليّة والخارجيّة، تتعلّق ببنية النظام وممارساته، أو بتركيبة المعارضة وارتباطاتها. ذلك أنّ فئاتٍ من المعارضة، وداعميها، انجرّوا بالفعل نحو تبنّي خطابٍ دينيٍّ/ مذهبيٍّ، ألقى بظلاله باكراً على بعض أوساط الشارع المنتفض. كان لذلك أثره العميق في عزوف شرائح واسعةٍ من الرأي العام، داخل سوريا وخارجها، عن تأييد الثورة الشعبية، بل ومعارضتها، بعد أن كان التعاطف معها قد بلغ أوج مستوياته. فالمشهد الدينيّ في سوريا بالغ التعقيد، نظراً لشدّة التنوّع المذهبيّ والطائفيّ والإثنيّ، واشتغال النظام على الحساسيات والتناقضات المجتمعية بما يخدم تأبيد حكمه على حساب تذرير المجتمع، فلم يكن من الصعب إشعال فتيل الشقاق الطائفيّ.

 

 

من جهته، أدّى الضخّ السلفيّ الدعويّ الخليجيّ الكثيف ضدّ الشيعة عموماً، والذي فسّر التحالف الاستراتيجيّ العسكريّ والتقنيّ والسياسيّ، السوريّ–الإيرانيّ، حول الصراع مع إسرائيل، بمفردات التحالف الفئويّ الطائفيّ الضيّقة، إلى خلق وعيٍ زائفٍ أو مقلوب، ظهر في شكلٍ محدّد، في صورة وعيٍ مشحونٍ طائفيّاً[1]. وجد ذلك صداه في الطرف المقابل، خصوصاً وأنّ الانشطار السنّيّ–الشيعيّ جعل من الطائفيّة "عاملاً ثابتاً في التاريخ الإسلاميّ"، وإن خمدت جذوتها أو اتّقدت تبعاً لموازين القوى، وفق تعبير الراحل جورج طرابيشي[2].

 

من الحالات المبكّرة الدالّة على سعي بعضهم إلى تطييف الحراك الشعبيّ ومذهبته، والتي وقعت بعد عشرة أيامٍ فقط من خروج أوّل مظاهرةٍ في دمشق، وأسبوعٍ من انطلاق مظاهرات درعا، خطبة الجمعة (25 آذار/مارس 2011) للشيخ يوسف القرضاوي، المحسوب على "الإخوان المسلمين"، ويترأس "الاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين".

 

حملت خطبة القرضاوي تلك رموزاً طائفيّة، فانتقد الأسد والطائفة العلوية، وقال إنّه "أسير طائفته"، وإنّ "الشعب السوريّ يعامله على أنه سنّيّ"، ما أسهم في زيادة حدّة الاستقطاب الذي بدأ يظهر آنذاك، إذ أذكى خطابه نوعاً من الانحياز والتهجّم اللفظيّ على الأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد، وقد أنتج هذا الخطاب تفاعلاً ولغطاً تقسيميّاً جرى تداوله ضمن الرأي العام، خصوصاً في ظلّ الرواية الرسمية للنظام عن الفتنة الطائفية[3]. ومن الأمثلة المبكرة أحاديث الشيخ السلفيّ عدنان العرعور، الذي صدّر خطاباً شعبويّاً طائفيّاً منذ نيسان/أبريل (2011)، وتميّز بفتاويه الانفعالية، الطائفية، فلم تخلُ حلقةٌ من برنامجه على قناة "صفا" الفضائية من حديثٍ عن "العلوية" و"السنّة" و"الشيعة"، إضافةً إلى دعواته إلى الجهاد. اكتسب العرعور حينها متابعةً كبيرةً في الأوساط الشعبية المحتجّة، لاسيما في حمص ودرعا وإدلب وحماة ودير الزور، ورفعت شعارات المحتجّين في كثيرٍ من الأوقات لافتاتٍ تؤيّده وتحبّذ خطابه، وهو ما يمكّن من قياس مدى تأثيره في الرأي العامّ من جهة، والانحراف في مسار الثورة ومطالبها من شعاراتٍ جامعةٍ تحت مسمّيات الحرية والديمقراطية إلى مسمّياتٍ شعاريّةٍ لخّصت -في جزءٍ منها- نزوعاً نحو الطائفية والانتقاميّة والكراهية، من جهةٍ ثانية[4].

 

 

الأهمّ من كلّ ما سبق هو التسميات التي أُطلقت على العديد من أيّام الجمع وتحمل دلالاتٍ دينيّةً صريحة، بما لذلك من تأثيرٍ في توجيه الرأي العامّ ومساراته، إذ كان يوم الجمعة هو الموعد الرئيس للمظاهرات، وكلّ تسميةٍ تحمل رسائل سياسيةً وأيديولوجيةً للداخل والخارج. أما المسؤول عن التسميات فكان صفحة "الثورة السورية ضد بشار الأسد" على الفيسبوك، والتي يشرف عليها أحد أبناء "الإخوان المسلمين" في المنفى.

 

من أمثلة التسميات تلك، والثورة لم تكن قد أتمّت بعد عامها الأول: "أحفاد خالد" (22/7/2011)؛ "الله معنا" (5/8/2011)؛ "لن نركع إلا لله" (12/8/2011)؛ "الله أكبر" (4/11/2011)؛ "إن تنصروا الله ينصركم" (6/1/2012). وصولاً إلى الجدل الذي أثارته صفحة "الثورة السورية" بعزمها على تسمية يوم الجمعة (27/1/2012) بـ"إعلان الجهاد"، وأمام انتقادات ناشطي الحراك السلميّ اضطرّ مسؤولو الصفحة إلى التراجع. غير أنّ التسمية البديلة التي اعتمدوها لتلك الجمعة "حق الدفاع عن النفس" بدت محاولةً لتمرير مضمون الرسالة التي تحملها تسمية "إعلان الجهاد"، لا سيما وأنّها جاءت على حساب تسمية "جمعة الدولة المدنية" التي لاقت دعماً واسعاً، وتبنّاها ورفعها عددٌ كبيرٌ من المتظاهرين.

 

مجمل تلك المعطيات، إضافةً إلى تعمّد إعلام النظام وحلفائه، وإعلام المعارضة وبعض داعميها، إبراز الخطاب الدينيّ الذي أنتجها/ ونتج عنها[5]، ساهمت في تأجيج خطابٍ مذهبيٍّ وشحنٍ طائفيٍّ متبادل. أدّى ذلك، معطوفاً على القمع الوحشيّ الذي مارسه النظام، إلى تهيئة الأجواء للانزلاق نحو عنفٍ طائفيٍّ شهدته بعض المناطق، ثمّ ليكتسي الصراع لاحقاً، وبشكل أكبر، بعداً دينيّاً/ جهاديّاً، وهو ما لم يكن على الإطلاق خارج حسابات مركز صنع القرار في سلطة الأسد، إذ جرى إطلاق سراح أعدادٍ كبيرةٍ من المعتقلين الإسلاميين، ممن يحملون "الفكر الجهاديّ"، وسبق للكثيرين منهم المشاركة في "الجهاد العراقيّ" وسواه. واستطاع هؤلاء خلال زمنٍ قياسيٍّ تشكيل مجموعاتٍ جهاديةٍ متعدّدة، تتمايز عن بعضها بالدرجة لا بالنوع. وهي، وإن كانت علاقاتها البينية لا تخلو من التنافس والصراعات، لكنها كثيراً ما استطاعت تنحية خلافاتها جانباً، لتفرض نفسها بقوّةٍ على حساب "الجيش السوريّ الحرّ"، في معظم المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

 

جدلية "العسكرة" و"الأسلمة"

 

منذ الأشهر الأولى للمظاهرات، وكردّ فعلٍ على القمع الوحشيّ الذي مارسه النظام لإخمادها، ومع تصاعد الحملات الأمنية على الأحياء والمناطق المنتفضة، بدأت تظهر بعض حالات حمل السلاح، ضمن إطار الدفاع عن النفس أمام بطش الأجهزة الأمنية. فطغت سمات العفويّة والارتجال على المظاهر المسلّحة الأولى في الثورة، وكذلك على حالات الانشقاق الأولى عن الجيش، والتي شكّلت النويات الأولى لما أصبح "الجيش السوري الحرّ". فكان ذلك أقرب إلى "ردّ الفعل" على عنف النظام منه إلى المبادرة المنظّمة والفاعليّة الحقيقيّة.

 

حمل الشكل العفويّ من التسلح، في بداياته، طابعاً تقليديّاً يعكس واقع البنى الاجتماعية العشائرية والتقليدية التي انطلق منها في مناطق مختلفة، كبعض أحياء حمص، وقرىً في الغوطة الشرقية بريف دمشق. ترافق ذلك مع تزايد عمليات انشقاق الضباط والمجندين. لم تعترف المعارضة علناً بوجود حالةٍ من التسلّح واجهت العمليات الأمنية في الأشهر الأولى، لكن بعد أن أعلن عددٌ من العسكريّين تشكيل "لواء الضباط الأحرار" (9 حزيران/يونيو 2011)، ثمّ تأسيس "الجيش السوريّ الحرّ" (29 تموز/يوليو 2011)، قام نشطاء المعارضة على الإنترنت، وهيئاتها التنظيمية، بتبنّيه وتضخيمه وتشجيعه، وقدّموا خطاباً إعلاميّاً حاول أن يحاكي التجربتين الليبية واليمنية بتضخيم ظاهرة الانشقاقات، وإجمال كلّ الأعمال المسلحة التي تواجه النظام تحت لوائها. وعملت وسائل الإعلام العربية، وخاصة الجزيرة والعربية، على تضخيم قضيّة المنشقّين إعلاميّاً، وهو ما أدّى إلى بروز حالةٍ من "العسكرة"، لم تستطع هذه الوسائل إنكارها في ما بعد[6].

 

 

إنّ عمليّة عسكرةٍ إعلاميّةٍ للثورة، مقصودةٍ وممنهجة، سبقت ظهور "المعارضة المسلّحة" والمواجهات الفعليّة مع قوّات النظام. ذلك أنّه، بعيداً عن ردود الفعل ومظاهر التسلّح البسيطة والصدامات على هامش المظاهرات في بعض الأحياء والمناطق، فإنّ أوّل سلوكٍ واضحٍ تعلن "المعارضة المسلّحة" من خلاله شروعها في المواجهة العسكرية المفتوحة مع قوّات الجيش والأمن كان يوم (15 تشرين الثاني/نوفمبر 2011)، بالهجوم على مقرٍّ للمخابرات الجوّية في حرستا بريف دمشق، ما عنى البدء فعليّاً في العمل لإسقاط النظام عسكريّاً. وهو ما تلقّفته أطرافٌ عربيّةٌ وإقليميّةٌ ودوليّة، لم تخفِ دعمها لهذا النهج، خصوصاً مع تبنّيه من أوساطٍ معارضةٍ في الخارج وتوفيرها التغطية السياسيّة له، وتعليق آمالها عليه.

 

وبخلاف "الجيش الحرّ" والمجموعات المسلحة الأهلية التي ظهرت بكثرة، كان هناك مشهدٌ ثالثٌ ينمو بسرّيةٍ وكتمانٍ شديدين، بالتوازي مع المشهدين السلميّ والعسكريّ للثورة، هو مشهد الجماعات المقاتلة ذات المحتوى العقديّ الصارم والصريح، وهو ما يمكن التعبير عنه بمشهد "الثورة الجهادية". مشهد ثورةٍ لا يخفى عليها ذاك الرصيد التاريخيّ، فكراً وعقيدةً وعملاً وأهدافاً، ولا خبراته أو خبرات وقائع تيارات "الجهاد العالميّ" التي تجوب اليوم ساحات العالم الإسلاميّ[7].

 

مع تصاعد عمليات "المعارضة المسلّحة" وانتشار أخبارها في الإعلام، المنتمية منها إلى "الجيش السوريّ الحرّ" أو غيرها، بدأت تظهر الملامح "الجهادية". إذ حملت معظم الكتائب والألوية أسماء إسلامية، وامتلأت بياناتها وتسجيلاتها المصوّرة، المنتشرة بكثرةٍ على الإنترنت، بالعبارات الدينيّة والجهاديّة. كما ظهرت مجموعاتٌ جهاديةٌ صريحة، تقاتل بهدف إقامة "دولةٍ إسلاميّة" بالفعل وليس وفقاً لاتّهامات النظام وآلته الدعائية. فتنظيم "القاعدة"، ممثلاً بـ"جبهة النصرة لأهل الشام"، ظهر في سوريا رسميّاً في (24 كانون الثاني/يناير 2012)، قبل إتمام الثورة عامها الأوّل. وبعد أشهرٍ أعلنت "جبهة النصرة" ومجموعاتٌ إسلاميةٌ منتشرةٌ شماليّ البلاد، أبرزها "حركة أحرار الشام"، التوافق على "تأسيس دولةٍ إسلاميةٍ عادلة" (19 تشرين الثاني/نوفمبر 2012)[8]، ردّاً على تشكيل "الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة".

 

 

استقطبت التنظيمات الجهادية أعداداً متزايدةً من المقاتلين الأجانب، من جنسياتٍ عربيّةٍ وغيرها، "للجهاد" في سوريا. ولم تقتصر مشاركة "المجاهدين" غير السوريين على القتال إلى جانب المعارضة، فقد أرسل "حزب الله" اللبنانيّ، الحليف للنظام، "مجاهديه" إلى سوريا للقتال ضدّ المعارضة (تبعته ميليشياتٌ شيعيةٌ إيرانيةٌ وعراقيةٌ وأفغانية). وبرز دور "حزب الله" بشكلٍ أكبر بعد استعادته السيطرة على مدينة القصير الحدوديّة بريف حمص من مقاتلي المعارضة (أيار/مايو 2013)، ليتبعَ ذلك إعلان عددٍ من رجال الدين الإسلاميّ الداعمين للمعارضة، في بيانٍ رسميٍّ، "وجوب الجهاد" واعتبار ما يجري في سوريا "حرباً على الإسلام"، في مؤتمرٍ عُقد لهذه الغاية في القاهرة (13 حزيران/يونيو 2013) تحت عنوان "موقف علماء الأمة من القضية السورية". وحينها قدّم الداعية الإسلاميّ الشهير محمد حسّان للبيان بالقول: "إنّ المعادلة تغيّرت بنزول الروافض إلى أرض الشام"[9].

 

المعارضة السورية و"أسلمة الثورة"

 

اتّسم موقف المعارضة السوريّة، وتحديداً الممثلة في "المجلس الوطنيّ"، ثم "الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة"، اللذين اعتمدتهما تباعاً بعض القوى الإقليميّة والدولية بصفة "الممثل الشرعيّ للشعب السوريّ"، حيال ظاهرة "أسلمة الثورة" بالالتباس والتذبذب. يتأكد ذلك في موقفها من أكثف رموز الظاهرة، أي الفرع السوريّ للقاعدة: "جبهة النصرة لأهل الشام"، بزعامة أبي محمد الجولاني.

 

تراوح الموقف الرسميّ من "النصرة/ القاعدة" بين حالة إنكارٍ وانفصالٍ عن الواقع في البداية، مروراً باعتبارها "جزءاً من الثورة"، وأخيراً دعوة زعيمها إلى التخلي عن ارتباطه بتنظيم القاعدة، بغية تلميع صورة الجبهة وتسويقها دولياً. ففي تصريحاتٍ موثّقةٍ لبرهان غليون، وجورج صبرا، وكلٌّ منهما تولّى رئاسة "المجلس الوطنيّ"، رأى غليون أنّ "ما يروّجه تنظيم القاعدة عن دورٍ له في ثورة الشعب السوريّ كلامٌ غير صحيحٍ وغير دقيق"، وأنه "مسيءٌ بحقّ شهداء الثورة"، وأن الحديث عن القاعدة ودورها في الثورة "هو من نسيج النظام لتحويل الأنظار عما يحصل، ونرفض أن يلوّث هذا التنظيم السيّئ الذكر ثورتنا". أمّا صبرا فقال إن "الشعب السوريّ يخوض منذ سبعة عشر شهراً معركةً في كلّ القرى، ولسنا بحاجةٍ لهذا التنظيم الإرهابيّ وادعاءاته التي ليس لها أيّ مرتكزاتٍ حقيقية". وأضاف: "التيارات الإسلامية السورية المتواجدة في قلب الثورة هي تياراتٌ معتدلة ووسطية، وبعيدة كلّ البعد عن التطرّف ورؤية القاعدة وأفكارها، لذا ننفي أن يكون لهذا التنظيم أيّ وجودٍ داخل سوريا"، مؤكّداً أن "الشعب السوريّ ليس بحاجةٍ لأيّ دعمٍ من أيّ جهة، وبخاصّةٍ من القاعدة، هذا التنظيم الذي يملك سجلاً سيّئاً بحق العالم. فالشعب ناهض، ويخرج بالتظاهرات. والشعب ليس بحاجةٍ إلى هذا الموضوع، وإلى هذا التنظيم الذي يشوّه صورة الثورة وإنجازات الشعب السوريّ البطل". أمّا عضو المكتب التنفيذي للمجلس، سمير نشّار، فوصف القاعدة بأنّها "ظاهرةٌ إرهابيةٌ تمزّق المجتمع، في حين أن المجتمع السوريّ هو مجتمعٌ متنوع. والسنّة في سوريا هم وسطيون ومحافظون، وليسوا من أنصار القاعدة"[10].

 

 

المفارقة أنّ مجلس هؤلاء نفسه (بضغوطٍ إخوانيةٍ ربّما) عبّر، بعد أشهرٍ قليلةٍ، عن "استنكاره" قرار الولايات المتّحدة بإدراج "جبهة النصرة" على قائمة الإرهاب، معتبراً أنّ "كلّ من يقاتل النظام هو جزءٌ من الثورة". حتّى أنّ صفحة "الثورة السورية" خصّصت الجمعة التي تلت القرار الأمريكيّ للتضامن مع "النصرة" ورفض وسمها بالإرهاب.

 

الأخطر كان قيام المعارضة بإدراج الانتهاكات التي ترتكبها الجماعات الإسلامية ضمن خانة "انتصارات الجيش الحرّ"، كما حصل عند الهجوم على عددٍ من قرى ريف اللاذقية، وحينها أصدر الائتلاف المعارض بياناً يؤيّد ما جرى[11]. المفارقة أنّ "الجيش الحرّ" لم يكن من نفّذ الهجوم وإنما الكتائب الجهادية، وفي مقدّمتها "جبهة النصرة" و"أحرار الشام"، وأن ما وصفه بيان المعارضة بـ"انتصارات الجيش الحرّ على ضفاف الساحل السوريّ" لم يكن سوى مجازر وانتهاكاتٍ في حقّ المدنيين العزّل، وثّقها تقريرٌ رسميٌّ صادرٌ عن منظمة Human Rights Watch[12].

 

وعلى الرغم من كلّ تلك "الإيجابية" التي طبعت، في النهاية، موقف المعارضة من "النصرة" وسواها من الكتائب الإسلامية، استمرّت غالبية هذه الكتائب في إعلان وقوفها صراحةً ضدّ أيّ حلٍّ سياسيّ، ورفضها كلّ تشكيلات المعارضة السياسيّة، واتهامها بالعمالة للغرب، على نحو ما مرّ بيانه[13].

 

"مجاهدون" وسياسيون

 

ضمن سيرورة التحوّلات في المشهد السوريّ، بدأت بعض المجموعات المقاتلة التي تتبنى "الفكر السلفيّ" تتخفّف نسبيّاً من حمولاتها الأيديولوجية، فشرعت في فتح قنوات اتصالٍ وتشاورٍ مع المعارضة السياسية. ولعلّ تصاعد المخاوف الغربية من "الإرهاب" وتكثيف الحملات العسكرية ضد الجماعات المتطرّفة، إلى جانب شروع الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع السوريّ بإطلاق مساراتٍ للتسوية السياسية، كانا في خلفية مشهد تحوّلات مواقف بعض "المجاهدين"، وانخراطهم في السياسة.

 

من جهتهم، حاول "الإخوان المسلمون" تلميع صورة "النصرة"، وترويجها سوريّاً وإقليمياً، خصوصاً بعد التقدّم الميدانيّ لـ"جيش الفتح"، التحالف المكوَّن من مجموعاتٍ جهادية، بعضها مقرَّبٌ من الإخوان، وتشكّل "النصرة" عموده الفقريّ. فدعوا الجولاني مراراً إلى فكّ ارتباطه مع "القاعدة"، وإحدى الدعوات أطلقها محمد حكمت وليد، المراقب العام للجماعة في سوريا. في الإطار نفسه يمكن إدراج موقف قناة "الجزيرة" القطرية، المتناغمة مع التوجّهات الإخوانية، حين قام مذيعها أحمد منصور (ذو الميول الإخوانية) باستضافة زعيم الجبهة على شاشة الجزيرة. فمنصور، الشهير بأسلوبه الاستفزازيّ مع ضيوفه، ظهر بأسلوبٍ مختلفٍ في حضرة الجولانيّ، لدرجة أن اللقاء بدا نوعاً من "إعلانٍ ترويجيٍّ" للجبهة وزعيمها، و"دردشةً بين صديقين حميمين"، وليس حواراً صحافيّاً[14].

 

جديرٌ بالذكر أنّ محاولة استمالة "جبهة النصرة" وحثّها على الانفصال عن "القاعدة" لم تقتصر على الإخوان، ذلك أنّ خالد خوجة، الرئيس السابق للائتلاف، عبّر عن هذا في أوّل تصريحٍ له عقب انتخابه. غير أنّ ذلك كلّه لم ينفع، وتمسّكت "النصرة" بهويّتها القاعدية.

 

أمّا التحوّل اللافت والأهم فتمثّل في مشاركة "حركة أحرار الشام الإسلامية" و"جيش الإسلام" في "الهيئة العليا للمفاوضات" التي شكّلتها المعارضة عقب مؤتمرها في الرياض (9 كانون الأول/ديسمبر 2015)، وتسمية المسؤول السياسيّ في "جيش الإسلام" كبيراً للمفاوضين. يدفع هذا التحوّل إلى التساؤل عن دور هذه التشكيلات في المرحلة المقبلة، وكيف ستتعامل مع السياسة واستحقاقاتها، وهي التي تتبنّى أيديولوجياتٍ دينيةً مترعةً بالقداسة.

 

خلاصة

 

على امتداد خمس سنواتٍ مضت منذ انطلاقتها، أنتجت التحوّلات التي شهدتها الثورة السورية معطياتٍ مركّبةً ومتداخلة، زادت من تعقيدات المشهد السوريّ، وفتحت مستقبل البلاد على احتمالاتٍ شتّى، لا تنسجم مع مقاصد الثورة وغاياتها، كان أبرزها طغيان "الخطاب الإسلاميّ" على المشهد العامّ، نتيجة ظهور الجماعات المنتمية إلى "السلفية الجهادية"، وبعضها مرتبطٌ بـ"الجهاد العالميّ" ومنظماته المصنّفة على قوائم الإرهاب، مروراً بـ"جهاديين معتدلين" لبعضهم صلاتٌ وثيقةٌ مع "الإسلام السياسيّ" التقليديّ. تعلن هذه الجماعات عداءها للديمقراطية، وتحمل أجنداتٍ تناقض المشروع الوطنيّ السوريّ، ممّا أضرّ بالثورة السورية، وبصورتها داخلياً وخارجياً، وانعكس سلباً على موجة التعاطف معها.

 

 

أسهم ذلك في تعزيز فرص النظام لاحتواء الثورة، ومحاولته إعادة تقديم نفسه للعالم بوصفه شريكاً في "الحرب على الإرهاب". وإذ يبدو "منطقيّاً" سعي نظام الاستبداد لدفع الثورة نحو "الأسلمة" وإثارته النعرات الطائفية، واستفزاز المنتفضين لدفعهم نحو التطرّف بشتّى السبل، ضمن استراتيجياتٍ توسّلت كلّ ما من شأنه إنهاء الثورة، ووسمها بالتطرّف والإرهاب؛ فإنّ من الأخطاء المدمّرة التي ارتكبتها "المعارضة"، أو بعضها الأهمّ ممن يُفترض بهم تمثيل الثورة سياسيّاً ودبلوماسيّاً، هو تبني سلوكٍ وخطابٍ يصبّان في اتّجاهٍ أضرّ بالثورة، وحرفها عن خطّها الوطنيّ وشعاراتها وأهدافها الأولى الجامعة.

 

 


[1] محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سوريا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الطبعة الأولى، آذار 2012. ص 194.

[2] للمزيد عن تاريخ "الانقسام السني-الشيعي" راجع: جورج طرابيشي، هرطقات2، دار الساقي، الطبعة الأولى، 2008.

[3] حمزة مصطفى المصطفى، المجال العام الافتراضي في الثورة السورية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الطبعة الأولى، نيسان 2012، ص 93.

[4] المصدر نفسه، ص 100 - 102. وقد لبّت شرائح واسعةٌ من المحتجّين دعوات العرعور بالتكبير (الله أكبر) ليلاً من على أسطح وشرفات المنازل. وهذا، حتى وإن كان نوعاً من "النكاية" بالنظام من خلال "التظاهر في المنازل"، وبالتالي لا يعني بالضرورة تبنّي هؤلاء الخطاب الدينيّ؛ لكنّه يعدّ مؤشّراً على اتساع نطاق متابعي العرعور في ذلك الحين.

[5] كان لافتاً، بعد انقضاء "جمعة الصمود" 8/4/2011، وسقوط قتلى فيها، أنّ الشعارات بدأت تأخذ طابعاً مصبوغاً بشعاراتٍ وخطبٍ دينيّة، تبارك التضحيات وتستعدّ للشهادة، ويلبس فيها بعض المتظاهرين الأكفان، بما يشكّل –تحليليّاً– ملامح رمزيّةً لتكوّن بيئةٍ أوليّةٍ قابلةٍ –في ظلّ شروطٍ معيّنة– للتجييش والتعبئة "جهاديّاً". العقد الأخير في تاريخ سوريا، ص 228.

[6] المصطفى، مصدر سبق ذكره، ص 137- 141.

[7] أكرم حجازي، "الجيش الحر جبهة النصرة كتائب أحرار الشام خريطة القوى المسلحة"، شبكة فلسطين للحوار.

[8] تمكن مشاهدة تسجيل مصوّرٍ للإعلان على الرابط: http://www.youtube.com/watch?v=v151Fh6q_qM

[9] تمكن مشاهدة البيان على الرابط:http://www.youtube.com/watch?v=vh1YxmJ7CFw

[10] انظر: "معارضون سوريون يقللون من أهمية دور القاعدة في الثورة"، على الرابط: http://www.arabsea.com.sa/news-action-s-id-2812.htm

[11] انظر: بيان الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة "انتصارات الجيش الحر على ضفاف الساحل السوري"، صادر بتاريخ 4 آب/ أغسطس 2013.

[12] انظر: "دمهم ما زال هنا"، على الرابط: https://www.hrw.org/ar/report/2013/10/11/256480

[13] راجع الهامش رقم 8.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard