التشاركيّة.. استيلاد جيلٍ ثالثٍ للاقتصاد السوريّ قيصرياً
أكاديميون: خصخصةٌ ومخاطرةٌ كبيرةٌ وهيمنة رأس المال
خبراء: ترّهاتٌ لا يمكن الردّ عليها، وجاء متأخراًً
10 مسؤولين بيدهم منح العطاءات
إحياء التشاركية عقب 65 عاماً على تطبيقها
خفض عجز الموازنة، والكهرباء قد تكون أوّل الغيث
فتح الاستثمار في البنى التحتية أمام الخاصّ
نضال يوسف
تحوّل القانون رقم ٥ للعام ٢٠١٦، المتعلّق بالتشاركية، من مجرّد قانونٍ سينظم العلاقة مع القطاع الخاصّ إلى "الجيل الثالث" للاقتصاد السوريّ. إذ أعلن رئيس حكومة النظام، وائل الحلقي، في كلمةٍ له بمجلس الشعب مطلع شباط الماضي، عن ولادة الجيل الثالث من الاقتصاد السوريّ، عقب جيلَي القطاع العامّ واقتصاد السوق الاجتماعيّ. وبلا مقدماتٍ، أو إجماعٍ وطنيٍّ، أو -في الحدّ الأدنى- توافقٍ في أضيق الحدود، بات المسؤولون يهللون لهذا النهج العتيد، دون أن يتبرّع أحدٌ منهم ويحدّد جوهره، ومفهومه، والأهداف التي يرغبون في تحقيقها من جرّاء تطبيقه.
مخاضات
هكذا ولد الجيل الثالث من اقتصادنا، قيصرياً، وبلا مخاضاتٍ تمهّد لمولودٍ مكتمل النموّ، وبكامل أعضائه وقواه. اقتصادٌ خرج من رحم قانونٍ، مكوّنٍ من ٨٣ مادة، يشكّل إطاراً لتنظيم العلاقة العقدية بين القطاعين العامّ والخاصّ، فاعتبره الحلقي "عقداً اقتصادياً جديداً".
وليس مستغرباً على حكومة الحلقي القفز فوق الحواجز، والتمهيد لنقاط التحوّل الكبرى بشكلٍ فردانيّ. فبعد أن أطلقت على نفسها وصف حكومة الحرب، ها هي تختار النهج الاقتصاديّ الجديد، التشاركية، وتطوي صفحاتٍ غير مكتملةٍ من النقاشات الحادّة حول دورها؟ وما تقوم به؟ وما أنجزته؟ وقد أجمع عددٌ من الكتاب والأكاديميين، وحتى المسؤولين، أن هذا النهج الاقتصاديّ يهدف إلى تخفيف العبء الكبير عن موازنة الدولة، وأنه محاولةٌ -لن يكتب لها النجاح بالضرورة- للاستفادة من إمكانات القطاع الخاصّ. إن اقتصاد سوريا المدمّر والمتهالك يعيش حالة سباتٍ حقيقيّ، وهو في حاجةٍ الى إنقاذٍ من الجروح التي أصيب بها، ومبالغ تزيد عن ٢٥٥ مليار دولارٍ لإعادته كما كان قبل الحرب التي اندلعت في ٢٠١١؛ فهل هذا النهج قادرٌ أن يخلق المعجزة السورية؟
ثلاثة أجيال
اعتبر الحلقي أن "ولادة الجيل الثالث من أجيال الاقتصاد السوريّ، جيل التشاركية الوطنية الفعالة، ضرورةٌ تاريخيةٌ فرضتها أطر التطوّر من الجيل الأوّل؛ جيل القطاع العامّ وما رافقه من مزايا وصعوبات، إلى الجيل الثاني؛ جيل اقتصاد السوق الاجتماعيّ، إلى استيراد الجيل الثالث كامتدادٍ طبيعيٍّ للأجيال السابقة وكحاجةٍ إراديةٍ واعيةٍ لإدارة المعادلة الأزلية بين الموارد المحدودة والحاجات اللا محدودة، مع المحافظة على القطاع العامّ كقطاع رائدٍ وإستراتيجيٍّ في المسيرة التنموية".
كعادة الحكومات، لم يستطع الحلقي قطع العلاقة مع أجيال الاقتصاد السوريّ السابقة، رغم الاختلاف الجوهريّ بين هذه الأنماط الاقتصادية بالنسبة إلى دولةٍ ناميةٍ واقتصادٍ متخلف، ومؤشراتٍ كليةٍ لا تبعث على التفاؤل، وتحتاج إلى جهودٍ كبرى لتصبح مؤشراتٍ إيجابية، وتنعكس على المواطن إيجاباً. وأشار الحلقي إلى أنه انطلاقاً من دور الحكومة في إدارة الثروة الوطنية بمكوّنيها من القطاعين العامّ والخاصّ، فقد كان من الضروريّ "إعادة النظر" بمقاربة العلاقة التعاقدية بينهما في "عقدٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ جديدٍ" يوحّد جهودهما في سعيهما إلى تحقيق الهدف المشترك وهو "رفاهية المواطن السوريّ". هذه المعطيات، وغيرها، دفعت بالحلقي إلى القول: فكان صدور قانون التشاركية رقم /5/ لعام 2016، حيث تنظر الحكومة إلى الشراكة على أنها نظامٌ سياسيٌّ اجتماعيٌّ اقتصاديٌّ متكاملٌ يهدف إلى إشراك جميع المواطنين السوريين داخل القطر وخارجه في عملية البناء والتنمية. هذه هي الرؤية التي رسمها رئيس الحكومة للجيل الثالث، ومن خلالها اختزل جوهر اقتصاد المرحلة القادمة مبشّراً بعقدٍ جديد.
إلا أن ما ذكره وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، همام الجزائري، تبريراً لقانون التشاركية أثناء مناقشته في مجلس الشعب، يحدّد أهدافاً مغايرة: إن القانون يضع الإطار القانونيّ الناظم لترميم وتطوير القطاع العامّ والمشاريع الإنتاجية والمرافق العامة، وضبط عملية التشاركية ضمن قانونٍ وتعليماتٍ كفيلةٍ بتحقيق مصلحة الدولة والتقليل من المديونية والاقتراض العامّ الخارجيّ، وخاصّةً فى المشاريع ذات التكلفة الكبيرة والبعد الاجتماعيّ الخدميّ وبما يلبّي متطلبات إعادة الإعمار. إضافةً إلى تحسين الخدمات المقدّمة للمواطنين، والاستفادة من قدرات القطاع الخاصّ ومرونته في مجالات التشغيل والصيانة والتسويق، وتحسين الكفاءة، وتخفيض الكلفة، وزيادة سرعة إنجاز المشاريع، وتخفيض المخاطر أمام القطاع العامّ، وتوفير فرص عملٍ جديدة. بمعنى أكثر وضوحاً نقل التحديات الماثلة أمام القطاع العامّ إلى الشريك الآخر، أي القطاع الخاصّ. لكن تجربة القطاع الخاصّ التنموية في الفترة من ٢٠٠٥-٢٠١٠، لم تكن كما يشتهي مسؤولو ومخطّطو الاقتصاد السوريّ. والخطة الخمسية العاشرة التي حدّدت الإنفاق المطلوب على التنمية (الإنفاق الاستثماريّ) مناصفةً بين القطاعين العامّ والخاصّ منيت بفشلٍ ذريع، ولم تحقق الغايات المطلوبة منها آنذاك، رغم أن المبلغ المقترح كان ١٨٠٠ مليار ليرة، وشملت مشاريع بأكثر من هذا المبلغ، إلا أن المؤشرات الكلية لنتائج الخمسية العاشرة خيبت الآمال، رغم أنها حققت معدل نموٍّ سنويٍّ بلغ خمسة في المئة وسطياً، تراوح بين أدنى معدّلٍ ٣.٥٪ وأعلاه ٧٪.
صدر قانون التشاركية لتنظيم العلاقة مع القطاع الخاصّ، وفقاً لما أشار وزير الاتصالات والتقانة محمد جلالي: إن القانون سيحدّد عملية التعاقد مع القطاع الخاصّ وتنظيم إجراءات التعاقد، متضمناً الإطار القانونيّ والتنظيميّ والمؤسّسيّ الناظم لعقود التشاركية التي سيقرّها مجلس التشاركية، مع مراعاة متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وذلك استجابةً لتنفيذ مشروعاتٍ ومتطلباتٍ تمويليةٍ وإداريةٍ وإنتاجيةٍ وتكنولوجية، إضافةً إلى تطوير المرافق العامة من خلال توزيع الأعباء بين القطاعين العامّ والخاصّ، وبما يحقق أهداف الدولة في تقديم الخدمة العامة بالكفاءة المثلى والسعر المناسب، وبما يتوافق مع سياسة الدولة الاجتماعية. لافتاً إلى أهمية مشروع التشاركية لجهة تحقيق متطلبات التنمية، كإنشاء البنى التحتية والمشاريع الحيوية وتطويرها، مع ترشيد الاستثمارات الحكومية من الموازنة العامة وزيادة التمويل المقدّم من القطاع الخاصّ.
هذا الكلام الواضح من وزيري الاقتصاد والاتصالات يحدّد الهدف من التشاركية التي تحوّلت من مجرّد قانونٍ إلى نهجٍ اقتصاديٍّ متكامل.
مجرّد ترّهات
يرى عددٌ من الخبراء الاقتصاديين أن استمرار الحل الأمنيّ الذي يتّبعه النظام لن يسمح بأيٍّ نوعٍ من الاقتصاد، ولن يسمح بإقرار نهجٍ اقتصاديٍّ يناسب وضع الاقتصاد الوطنيّ المتهالك، الذي دمّرته الحرب المستمرّة منذ خمس سنوات.
ويشير الباحث أمين عبد الرحمن إلى أن إعلان ولادة الجيل الثالث من الاقتصاد أتى في الوقت غير المناسب، لسببٍ بسيطٍ جداً هو استمرار الحرب الطاحنة التي لا اقتصاد يحكمها. ولا يمكن للحرب أن تؤسّس لعلاقاتٍ اقتصاديةٍ جديدةٍ قبل أن تضع أوزارها ويصمت صوت الرصاص، وعندئذ سيُفرَز نهجٌ اقتصاديٌّ جديدٌ تقرّره القوى المنتصرة، أو الفائزة بموجب انتخاباتٍ برلمانيةٍ حقيقية.
ويؤكد خبيرٌ اقتصاديٌّ لمجلة (صوَر)، فضّل عدم ذكر اسمه، أن النظام أعاد الاقتصاد السوريّ اليوم إلى "العصر الحجريّ"، منتقداً بشدّةٍ ما أُعلن عن ولادة الجيل الجديد من الاقتصاد، واصفاً ذلك بـ"الترّهات" التي لا يمكن الردّ عليها أو مناقشتها على الإطلاق. ويرى عضو مجلس إدارة غرفة صناعة دمشق وريفها، مصطفى خليل، في تصريحٍ لـ(صوَر)، أن الجيل الثالث جاء متأخراً، فيما دعم وتطوير الصناعة حاجةٌ ماسّةٌ للنهوض بالاقتصاد، وﻻ يمكن للصناعة أن تنهض إﻻ بتحمّل كلٍّ من العامل وصاحب العمل مسؤولياتهما ومحاسبة الفاسدين من الجهاز الإداريّ وتفعيل عقود العمل، وبالتالي تطوير تسويق المنتج وعدم إرهاق المواطن.
صلاحيات الحكومة
اختار الحلقي اللحظة التي لم يتوقعها أحد، وربما تجاوز صلاحيات رئيس الوزراء الاعتيادية، إذ لم تجر العادة أن يعلن رئيس وزراءٍ سوريٌّ عن النهج الاقتصاديّ القادم، الذي هو عادةً من صلاحيات القيادة القطرية لحزب البعث، في حين تقدّم الحكومة في بيانها الوزاريّ الدوريّ التزاماً بتنفيذ النهج الاقتصاديّ المحدّد. بمعنى أنها جهةٌ تنفيذية، وليست جهةً تحدّد هكذا نهجٍ أو تقرّره. لكن الموضوع مرّ ببساطةٍ شديدة، وفقاً للباحث عبد الرحمن، الذي اعتبر أن الحلقي لم يتجاوز صلاحياته وحسب، بل قرّر نيابةً عن عدّة جهاتٍ وصائيةٍ تمتلك هذا الحقّ تاريخياً. مبيّناً أن الظروف القاسية التي تمرّ بها سوريا حيّدت الشأن الاقتصاديّ، أمام الحضور الطاغي للشأن العسكريّ والحرب التي دمّرت مقدرات البلاد.
دعايةٌ رسمية
توجّهت (صوَر) بسؤالٍ مباشرٍ لعددٍ من أساتذة الجامعات السورية والخبراء والأكاديميين المشهود لهم بالكفاءة: هل تحتاج سوريا إلى هذا النوع من الاقتصاد؟ وحصلت على إجاباتٍ مختلفةٍ ومواقف متعدّدة، لكن ثمة توافقاً أجمع عليه المستطلعة آراؤهم بأن الإعلان عن الجيل الثالث للاقتصاد السوريّ هو (بروباغندا) حكوميةٌ بالدرجة الأولى، وموقفٌ حكوميٌّ لتشجيع القطاع الخاصّ على الانخراط أكثر فأكثر في العمل، وذلك لانعدام الموارد الحكومية من جهة، وللاستفادة من مقدرات الشركات الخاصّة في هذه المرحلة العصيبة التي يمرّ بها اقتصاد سوريا، من جهةٍ ثانية.
وسجّل الدكتور أيمن حسون موقفاً يمكن البناء عليه، متسائلاً: لمن ستباع البلاد هذه المرّة؟ ألا يمهّد هذا القانون الطريق أمام كارتلات العائلات المستحوذة على الاقتصاد لتقاسم الكعكة بشكلٍ مشرعن؟ ومع إلحاحنا على الدكتور حسون بأننا نريد منه إجاباتٍ وليس تساؤلات، رأى أن الحرب في سورية -مهما طال زمنها- ستتوقف في لحظةٍ معينة، وهناك ما يلوح في الأفق حول بوادر أو نوايا ورغبةٍ في حلٍّ سياسيٍّ للأزمة، وهذا دفع إلى البدء بالتحضير لمرحلةٍ قادمة، ليس بالضرورة أن تكون مرحلة إعادة الإعمار والبناء، كما تسمّيها حكومة الحلقي، لكنها مرحلةٌ تتعلّق معالمها الأساسية بشكلٍ مباشرٍ باقتصاد سوريا القادم، ومن سيستحوذ على عقود مرحلة ما بعد الحرب. ويضيف حسون: التشاركية هي (مارشال) سوريّ بامتياز، سيقوده مسؤولون سابقون، وفاسدون كبار، ومسؤولون حاليون، بأسماء وهميةٍ وشركاء متعدّدين.
محاولاتٌ فاشلة
يصف الباحث عبد الرحمن خطوة الإعلان عن جيلٍ ثالثٍ للاقتصاد السوريّ بأنها جرعة أملٍ جديدةٌ، تهدف الحكومة من خلالها إلى تجاوز الخيبات الكبيرة التي مني بها الاقتصاد خلال الفترة الماضية، وتضييقها الخناق على العمل الاقتصاديّ، وارتفاع فاتورة الفساد نتيجة شرَه عددٍ من المسؤولين الزائد بالاستناد إلى ظروف الفوضى والحرب التي تعيشها البلاد، وهذا كله كان يحتاج إلى طيّ صفحةٍ وفتح أخرى جديدة. ويؤكد أن الانتقال إلى الجيل الثالث بلا تقييمٍ لجيلين سابقين، ووضع نقاط القوّة والضعف تحت المجهر، هو محاولةٌ مستميتةٌ لتبرئة القائمين على تطبيق النهجين الاقتصاديين السابقين. مشيراً إلى أنه ليس مهماً تغيير النهج الاقتصاديّ بقدر محاكمة منفذي النهج السابق على نجاحهم أو فشلهم في تطبيقه، ومدى قدرتهم على عكس نتائج هذا النهج على حياة الناس. ففي الاقتصاد لا يمكن البناء إلا وفقاً للمراحل السابقة واحتياجات المرحلة القادمة، فهل كانت التشاركية غائبةً عن الاقتصاد السوريّ في المرحلة السابقة؟
لا توجد قطيعةٌ في دور القطاع الخاصّ في الاقتصاد السوريّ، فقد كان حاضراً حتى في مرحلة التأميم، زمن الوحدة السورية المصرية ١٩٥٨-١٩٦١، وفي عام ١٩٦٣، فظلّ شريكاً في العمل الاقتصاديّ بنِسَبٍ مختلفة، وضمن شروطٍ معينة. وفي السبعينيات والثمانينيات جرت محاولاتٌ حثيثةٌ لزجّه في العمل، وجاءت الانفراجة عقب صدور القانون ١٠ عام ١٩٩١، الذي دشن مرحلةً جديدةً لهذا القطاع في الاقتصاد، ليأخذ دوراً كبيراً منذ العام ٢٠٠٠، وتبلور، بشكلٍ أكثر نضجاً وفاعليةً، عقب تأسيس أكبر شركتين قابضتين (سورية وشام) في النصف الثاني من العقد الماضي.
خصخصةٌ موصوفة
انتقاداتٌ حادّةٌ وجّهها أعضاء في مجلس الشعب أثناء مناقشتهم مشروع قانون التشاركية، وتهمٌ واضحةٌ أطلقها بعضهم في حقّ التشاركية المزعومة، دون أن يمنع هذا من الموافقة على مشروع القانون وإقراره، ليغدو في ما بعد نهجاً اقتصادياً للمرحلة القادمة. فأمين عام الحزب الشيوعيّ السوريّ، عمار بكداش، طلب وضع حدودٍ زمنيةٍ للمشروعات المتعاقد عليها، واستثناء بعض المشاريع الاستراتيجية من التشاركية "بما يصون ويحفظ ملكية الدولة".
وقال النائب البعثيّ جمال القادري، رئيس الاتحاد العامّ لنقابات العمال: إن مشروع القانون هو خصخصةٌ موصوفةٌ بكلّ معنى الكلمة. عندما يجيز للشريك العامّ التنازل عن أصول المشروع للشريك الخاصّ فهذا يعني نقل ملكية المشروع إلى الشريك الخاصّ، ولا تحتمل العملية أية تسميةٍ سوى الخصخصة. مشيراً إلى أن الأخطر من ذلك أن الشريك الخاصّ سُمح له بالاستدانة من المصارف بضمان المال المتشارك عليه، يعني بضمانة المال العامّ. وتساءل: في حال أفلس الشريك الخاصّ، ما هو مصير المال العامّ المتفق عليه؟
وانتقد النائب ماهر الجاجة المشروع لأنه سيلحق ضرراً بمصلحة البلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، داعياً إلى ضرورة التوجّه نحو الاستثمارات الآمنة بحيث يكون القرار السياديّ مستقلاً بما يلبّي مصلحة الشعب السوريّ، وخاصة الشرائح المتوسّطة والفقيرة منه، والحفاظ على مؤسّسات القطاع العامّ والمرافق الأساسية والبنى التحتية كونها ملكاً للشعب وحده، ويجب أن تكون إدارتها كاملة بيد الدولة. معتبراً أن القطاع العامّ كان سبب صمود الدولة، ولا يجوز لعقود التشاركية تهميش هذا القطاع أو التسلل إليه تحت أية ذريعة، كما لا يجوز التفريط بالملكية العامة أو التنازل عن إدارتها تحت ذريعة القطاع الخاصّ، ومن ثمّ الانتقال إلى الخصخصة تحت شعار الشراكة.
الخطّ الأحمر
نقاشاتٌ متعدّدةٌ طالت التشاركية، جمعت بين فريقين اقتصاديين مختلفين قدّما مواقف متناقضةً حول النهج العتيد.
يبيّن الباحث الاقتصاديّ الدكتور نبيل سكر أن التشاركية موجودةٌ في البلد منذ 30 عاماً، من خلال مشاريع نُفّذت ضمن قطاعات السياحة والنفط والنقل والمرافئ، وأن الحديث الآن يدور عن التشاركية في مشاريع البنى التحتية، وهي غير هادفةٍ إلى الربح وإنما إلى تقديم خدمات، وتتطلب رأس مالٍ كبيراً ومدداً زمنيةً طويلةً للتنفيذ. لافتاً، في ورقة عملٍ قدّمها في جمعية العلوم الاقتصادية، إلى أن التشاركية "ضرورةٌ أكثر منها خيار.
ويرى سكر أن الدولة أمام خيارين؛ إما الاقتراض من الخارج أو التشارك مع القطاع الخاصّ المحليّ، وإلا فلن تكون هذه المشاريع قابلةً للتنفيذ، وسيكون البديل عدم تنفيذها وزيادة العجز والمديونية. ولذلك لا يمكن اعتبار تشاركية مشاريع البنى التحتية خطّاً أحمر، ومن يرَها خطّاً أحمر فليقدّم البديل. كما أنه لا يمكن اعتبار التشاركية خصخصةً لأن أموال القطاع العامّ في هذه المشاريع ستعود في النهاية إلى الدولة مع نهاية عقد كلّ مشروع، وإن كانت بعض المشاريع يمكن أن تتحوّل إلى خصخصةٍ فيجب أن يكون ذلك بشكلٍ مدروسٍ وشفاف. ومن الضروريّ إيجاد آليةٍ قضائيةٍ مستقلةٍ تكون قراراتها حاسمةً ومستقلةً لحلّ النزاعات في التشاركية، وقضاؤنا الحاليّ غير كافٍ. إضافةً إلى أهمية حماية المال العامّ من دخول الحيتان على الخطّ، ولذلك تجب تقوية مؤسّسات الدولة وتعريفها على طرح العطاءات بشفافية، لمنع حيتان القطاع الخاصّ من احتكار هذه المشاريع. وألا يكون القطاع الخاصّ المحليّ واجهةً لشريكٍ أجنبيٍّ معه.
ويرفض الخبير الاقتصاديّ الدكتور منير الحمش اعتبار التشاركية ضرورةً أو خياراً، وإنما هي وسيلةٌ للتغيير وإحدى حزم التحوّل إلى اقتصاد السوق الاجتماعيّ وهيمنة رأس المال، ولذلك يجب التشديد على أن تكون مشاريع البنى التحتية خطّاً أحمر يُمنع المساس بها. معتبراً أن القصد من قانون التشاركية هو استهداف البنية التحتية لأنها العنوان الرئيسيّ للاستقلال الاقتصاديّ، ولأنها بقيت آخر القطاعات التي لم يدخل القطاع الخاصّ إليها، وهي التي تقدّم الخدمات للمواطنين دون مقابلٍ أو بمقابلٍ بسيط، وإذا تحوّلت إلى التشاركية فستستوفي من محصّلي الخدمات مبالغ كبيرةً لتغطية التكاليف وتحقيق الأرباح. وبيّن أن الأزمة كشفت عن قطاعٍ خاصٍّ جديدٍ "غير وطنيٍّ ومستغلٍّ وتاجر بالأزمة"، في حين كان الجيل القديم من القطاع الخاصّ وطنياً وملتزماً بهموم ومشاكل الوطن، ولذلك فهناك مخاوف حقيقية من دخول تجار الأزمة ضمن عقود مشاريع التشاركية.
واستغرب عمار بكداش أن تطرح الدولة قطاع البنى التحتية للتشاركية مع القطاع الخاصّ ونحن في ظلّ أزمةٍ كبيرة، في حين لدينا تجارب دولٍ كبرى، مثل بريطانيا وفرنسا الرأسماليتين، عندما خرجت من الحرب العالمية الثانية قامت بتأميم سكك الحديد والمصارف والبنى التحتية ومصانع السيارات الكبيرة والطيران من أجل حماية موارد الدولة. مؤكداً أن قانون التشاركية سيسمح للمال الأجنبيّ بالدخول في مشاريع الدولة وهذه مخاطرة كبيرة، وقد يكون المال أجنبياً بواجهة المال المحليّ. لافتاً إلى أن قانون التشاركية يعكس نيةً للخصخصة، وسيفتح الباب واسعاً لنهب المال العام، والحلّ البديلّ هو تقوية القطاع العامّ وإعادة دعمه.
مجلس التشاركية
صدر قانون التشاركية في ١٠ كانون الثاني الماضي. وحدّد مفهوم التشاركية بأنها علاقةٌ تعاقديةٌ لمدّةٍ زمنيةٍ متفقٍ عليها بين جهةٍ عامةٍ وشريكٍ من القطاع الخاصّ، يقوم بموجبها الشريك الخاصّ بالاستثمار في واحدٍ أو أكثر من الأعمال الآتية: تصميم أو إنشاء أو بناء أو تنفيذ أو صيانة أو إعادة تأهيل أو تطوير أو إدارة أو تشغيل مرفقٍ عامٍّ أو مشروعٍ لدى الجهة العامة، وذلك بهدف المساهمة في تقديم خدمةٍ عامةٍ، أو أيّ خدمةٍ تتوخّى المصلحة العامة، مباشرةً إلى الجهة العامة المتعاقدة أو نيابةً عنها إلى المستفيد النهائيّ.
وتهدف التشاركية، من خلال هذا القانون، إلى تحقيق الأغراض الآتية: تمكين القطاع الخاصّ من المشاركة في واحدٍ أو أكثر من الأعمال التالية: تصميم أو إنشاء أو بناء أو تنفيذ أو صيانة أو إعادة تأهيل أو تطوير أو إدارة أو تشغيل المرافق العامة أو البنى التحتية أو المشاريع العائدة ملكيتها للقطاع العامّ وتشجيعه على الاستثمار في ذلك؛ ضمان أن تكون الخدمات المقدّمة عن طريق هذه التشاركية قائمةً على أسسٍ اقتصاديةٍ سليمةٍ وكفاءةٍ عاليةٍ في الأداء، وأن تقدّم بالأسلوب الأنسب وتحقّق قيمةً مضافةً إلى الموارد المحلية؛ ضمان الشفافية وعدم التمييز وتكافؤ الفرص والتنافسية وسلامة ومشروعية جميع الإجراءات الخاصّة بعقود التشاركية، وذلك لضمان تأدية الخدمات على نحوٍ يتوخّى المصلحة العامة مع ضمان حقوق جميع الأطراف، ومنهم المستفيدون النهائيون من الخدمات والمستثمرون من القطاع الخاصّ.
فيما تستثنى من تطبيق أحكام هذا القانون: العقود التي يبرمها القطاع العامّ وفقاً لأحكام القانون رقم (51) لعام 2004 وتعديلاته، وعقود استكشاف واستثمار الثروات الطبيعية مثل النفط.
الكهرباء أولاً
بدأت بعض بوادر تطبيق التشاركية تلوح في أفق الاقتصاد السوريّ، في دفعٍ أوليٍّ للنهج الجديد، إذ اختارت الحكومة قطاع الكهرباء المصاب بالعجز، ورمت حجراً في المياه الراكدة. ويشير مدير المدن الصناعية في وزارة الإدارة المحلية، أكرم الحسن، في تصريحٍ صحفيٍّ، إلى أن اللجنة المشكّلة مع وزارة الكهرباء لوضع نظام استثمار الطاقة الكهربائية للمدن الصناعية توصّلت إلى تقديم ثلاثة مستوياتٍ للعمل؛ يتمثل الأول في تقديم الدعم الكامل لأقسام الكهرباء العاملة ضمن المدن الصناعية الثلاثة في حسياء وعدرا والشيخ نجار، وتأهيل هذه الأقسام بالتجهيزات الكاملة لتكون قادرةً على تنفيذ جميع الأعمال الموكلة إليها في الوقت المناسب؛ وفي المستوى الثاني الذي درسته اللجنة سيتمّ العمل على إنشاء شركةٍ للكهرباء تابعةٍ لوزارة الكهرباء في كلّ مدينةٍ صناعية؛ وفي المستوى الثالث سيصار إلى تأسيس شركاتٍ للكهرباء وفق قانون التشاركية مع القطاع الخاصّ، تعمل على تزويد المدن الصناعية بحاجتها من الطاقة الكهربائية وتقوم بأعمال النقل والتزويد وتوليد الكهرباء.
بحوثٌ في التشاركية
يترقب باحثون أن يصطدم الجيل الثالث للاقتصاد السوريّ بجملةٍ من التحديات، أبرزها الثقة بين القطاعين الحكوميّ والخاصّ، ومدى رغبة رجال الأعمال في خوض غمار مجازفاتٍ من هذا النوع، أثبتت بعض التجارب السابقة فشلها، كما حصل مع رجل الأعمال نبيل الكزبري، الذي استثمر معمل دير الزور للورق قبل الأزمة الراهنة، وعانى الأمرّين من التدخلات الحكومية والروتين. الدكتور سليم الحسنية، في بحثٍ له بعنوان: نحو بناء نظام تشاركيةٍ إبداعيةٍ بين الجامعة وقطاع الأعمال- تجارب ونموذجٌ لدورة حياةٍ مستدامة، نشر في مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية/ المجلد ٢٨/ العدد الأول/ ٢٠١٢؛ حدّد العقبات التي تواجه نظام التشاركية وعلى رأسها فجوة نقل المعرفة. وأوصى الحسنية بتهيئة الظروف للمباشرة بالتشاركية، والبدء فوراً بنشر ثقافة التشاركية الإبداعية المؤسّساتية والفردية، والوعي بأهميتها، بهدف بيان الفرص الاستثمارية المتاحة للتشارك عند كلّ طرف.
وثمة معوقاتٌ أخرى تتعلق بواقع الاقتصاد الوطنيّ، أبرزها الترتيب المتأخر لسوريا في مؤشر التشاركية، وفقاً للتقارير الدولية التي كانت تنجز قبل الحرب، ومنها تقرير التنافسية العالمية. وتشير بيانات الاستبيان لعام 2010 إلى أن سوريا تراجعت في مؤشرات التشاركية جميعها عن عام 2009، وتأتي في درجةٍ متأخرةٍ جداً مقارنةً بترتيبها العامّ البالغ (97) وترتيبها في البينة الأساسية (83) التي تشير إلى توافر العلماء والباحثين (62)، ما يلفت إلى ضعفٍ حادٍّ في فعالية وآليات عمل التعاون بين منظومات البحث العلميّ وقطاعات الأعمال. فيأتي ترتيب قطاع الأعمال في الاستثمار في التدريب آخر دولةٍ في العالم، أما في الإنفاق على البحث العلميّ فينتقل الموقع إلى قبل الأخير بمرتبتين (137)، في حين يأتي ترتيب التشاركية بين الجامعة وقطاع الأعمال في المرتبة 137 من أصل 139 دولة.
إعلان وفاة
مع اعلان الحلقي ولادة الجيل الثالث تكون سوريا قد ودعت ١٠ سنواتٍ من الجدل حول اقتصاد السوق الاجتماعيّ، معلناً وفاة النهج السابق بتصريحٍ، واستيلاد نهجٍ جديدٍ طبّقته سوريا منذ عام 1950. وبذلك تكون الحرب أفرزت نهجاً جديداً، عقب خيباتٍ سابقةٍ في تحقيق التنمية المستدامة.
.
.