مجلة صور تحاور الروائي السوري: نبيل الملحم
الرواية.. الحريّة، والسؤال:
لا بد من إزالة هذا النظام، على أن لا ترثه هذه المعارضة
*حاورته : نسرين الخوري
سنوات طويلة وأنا مترددة في أيّ حوار صحفي.. قبل سنوات، كنت التقيت الروائي "حنا مينا" في حوار على ثلاث حلقات، غير أن ثمة ما تغيّر، وما تغيّر أن قراءتي لروايات "نبيل الملحم" الخمس، وهي على التسلسل:"بانسيون مريم، موت رحيم، حانوت قمر، سرير بقلاوة، وآخر أيام الرقص"، قد استثارت بي سيلاً من الأسئلة، ولم أكن وحدي أحمل هواجس السؤال.. كانت الصديقة التي أعارتني هذه الأعمال تحفّز بي الأسئلة أيضا.
وسيلة التواصل مع الروائي "نبيل الملحم"، وبفعل الحرب لم تكن مباشرة، كانت تعبر طريقاً واحداً هو المراسلات.. ربما كان على الحوار أن يكون أطول مما بين يدي القارئ الآن، غير أن كثافة الإجابة، ونزق المُجيب، جلعتنا نكتفي بهذا.. لا أشك بأنه ومع كل إجابة ألقى في وجهي ألف سؤال.
هنالك "زحمة في الإنتاج الروائي العربي، وكأننا في تظاهرة روائيين، هل تلاحظ ذلك؟
أعرف، وطالما تلافيت أن أكون في التظاهرات، أو واحد من بين متظاهرين، كنت أظن أنني المتظاهر الوحيد، فجر هذا اليوم اكتشفت أنني في التظاهرة، ستسألينني كيف حدث ذلك؟ لقد وجدت نفسي بين مئة روائي يجيبون عن سؤال واحد في استطلاع رأي لمجلة، ولهذا بالنسبة لي معنى واحد، هو أن الرواية ليست لي وحدي، أنا واحد من متظاهرين، ربما أقلهم قدرة على إطلاق الهتاف، أو مواجهة الغازات السامّة والرصاص المطّاطي أو الرصاص الحيّ، أنا في الرواية واحد من هذا الحشد الهائل.
مَنْ مِنْ هؤلاء المتظاهرين، يلفتك أو تقرأ له؟
على الدوام كانت صلتي سيئة بالمُنتج الروائي، كنت قارئاً مُتطلِباً، أريد للروائي أن يكتب ما أشاء أنا، وفور أن أفتح الصفحة الأولى من أيّة رواية، أجدني طويتها وكففت على القراءة.. أعترف بأنني قارئ لا يُحسن القراءة.
هكذا؟ أستطيع أن أفهم من كلامك أنك لم تقرأ حنا مينا مثلاً؟ أن ليس له تأثير على منتجك الروائي؟ أنا قرأت "حانوت قمر"، اظن أن الكثير من الصلات يجمعها بأعمال هذا الروائي.
هل تعطيني مثلاً عما يجمعهما؟
- البحر، شخصية المومس.
بحر حنا مينا غير بحري ومومسه غير مومسي، مع ذلك أقول لك أن حنا مينا هو الذاكرة البعيدة، هو بداية تشكل الخيال الروائي لصبي صغير.. لقد قرأته في عمر مبكر جداً بالُإضافة لتولستوي، وهمنغوي، والقليل من دستيوفسكي أجواء هؤلاء مازالت كما منام قديم.. من الصعب على طفل يتبوّل في فراشه أن يكبر ويصبح رجلاً دون أن يستعيد حرارة فراشه ذاك.
هل كنت تتبول في فراشك؟
اكيد، كنت طفلاً كسولاً، أستغرق في النوم.
أين مكان هذا الطفل في أعمالك؟
في "حانوت قمر"، وربما بوضوح أكثر في "خمّارة جبرا".
كل شخصية في رواياتك تحمل معها فلسفتها الخاصة, لا يوجد لديك شخصيات مجانية أبداً ,كلها تحمل عمقاً ما حتى الانهزامية منها. هل تؤمن حقاً بأن لجميع الناس رؤى فلسفية في الحياة؟ وما هو المدى الذي أوصلت فيه رواياتك رؤاك الفلسفية الخاصة؟
أعتبر كلامك هذا ذروة المديح، نعم، ليس من "أهبل" إلاّ ويحمل شيئاً من سرّ هذا الكوكب، إذا لم نرَ هذا السرّ فالخلل فينا وليس فيه.. نحن الذين لا نرغب أن نرى، أو لا نستطيع أن نرى، كل مافي الأمر أننا لا نجازف برؤيته، استحضار الشخصية الروائية هو مغامرة بحد ذاتها، أنت حين تكتب، تعطي لنفسك حق الإله، ومادمت كذلك عليك أن تكشف سرّ مخلوقاتك.
من أين تستحضر شخصياتك؟ من ذاكرتك مثلاً؟
من ذاكرتين، واحدة مُعاشة، وثانية مأمولة، أحياناً، بل وغالباً من مزج هاتين الذاكرتين.
من أين استحضرت "رحيم" مثلاً؟
من ذاكرتي المأمولة، هو الرجل الذي كنت أحبّ أن أكون.. هذا العجوز الذي انفلت ليستدعي رغبات منسية، هي رغبات ربما كنا نحملها قبل آلاف السنين، ثم جاء تطورنا المشوّه وجعلنا ننساها، مع ذلك ها أنت تنطقين اسمه وكأنه شخص لصيق بك، ما يعني أنه حياة، أنه موجود، أنه حقيقة.
وأدهم، ود. نزار في سرير بقلاوة؟
من أدهم ثمة حقيقة واحدة هي حكاية القميص.. دخل السجن بقميص فضفاض، وحين ضمر جسده كان عليه تضييق قميصه، أدهم هو مكتشف الإبرة، الآلة العبقرية التي أطلقت روايتي، ونزار كان بالنسبة لي هو الكاشف، هو تلك الشخصية الساخرة، اللاهية، العابثة، التي تكتشف مع كل لحظة ترهّل وخواء جلاّديها، أدهم في بعض منه حقيقة ما قبل الرواية، وكذلك نزار، ولكن ما بعد الرواية باتا حقيقة روائية مستقلة عن الشخصين اللذين عرفتهما.
غير أن ارتبط بالحدث السوري في رواياتك الأخرى كموت رحيم وبانسيون مريم، هذا سيقودني إلى السؤال: في بحثي عنك، عن مواقفك في السياسة، لم أجد لك مكاناً في تيار أو مجموعة، أو حزب أو حتى "تظاهرة"، كيف رأيت أنت كل هذا الذي يحصل لبلدك؟
رأيته في رواياتي، في "بانسيون مريم"، و"موت رحيم"، واستبقته في رواية "سرير بقلاوة"، وأظن أن رؤيتي كانت أكثر نضجاً في رواية "خمّارة جبرا".
إبان التظاهرات في سوريا، ألم تخرج مع المتظاهرين؟
لا .. خرجت مع المتظاهرين الشباب.
وما الذي رأيته في تلك التظاهرات؟
رأيت حلماً مُختطَفَاً، كنت أعلم أن ثمة من سيختطف أحلام هؤلاء الشباب، وكنت على حوار مع مجموعات منهم، أظن أنني دعوتهم إلى إدارة الظهر للنخب مُسبقة الصنع، لأولئك الذين سيركبون موجاتهم ثم يقودونهم إلى المجزرة ويتاجرون بدمهم، حذرتهم من أبطال "التوك شو"، ومن أولئك الذين سيهيمنون على ثورتهم، من الذين سيمتلكون المال والإعلام ومفاتيح السفارات، ومن ثم يبيعون أحلامهم في سوق اللعبة الإقليمية والدولية.. حذرتهم من المثقفين حصراً، ومن نجوم الثقافة بتشديد أكثر.. كانوا فتيان فرسان، ثم جاء مترهلو الثقافة ليختطفونهم، ومن بعدهم وصلت طلائع بزنس السلاح.. لم تكن تجربتهم تعينهم على أن يروا ماكان يجب أن يُرى.
الطوفان يرتّب نفسه:
على المستوى السياسي المباشر، ماذا كانت النتيجة؟
على المستوى السياسي المباشر، ثمة مايمكن اختزاله بالتالي:"لا بد من إزالة هذا النظام، على أن لا ترثه هذه المعارضة"، كان هذا موقفي منذ الهتاف الأول واللحظة الأولى، وكنت الأكثر عزلة بسبب هذا الموقف.. كنت وسط نارين يضرمان النار بي، لم أهرب من أي منهما، ولا أظن أن خمس سنين أو أكثر كذّبتني، كل النتائج تقول لي، لقد كنت على حق.
وهل أنت سعيد بأنك كنت على حق؟
- لا.. أبداً، أنا رجل يحب "الخطيئة".. حين أقول إنني كنت على حق، تماماً كما لو أكون سعيداً بهدر دم نصف مليون سوري، وتدمير ثلثي البلاد، ونزوح ماتبقى منهم.. لست أنا من يسعد بأنه كان على حق.
ما الذي تراه مستقبلا؟
- أرى أن الطوفان لابد وأن يُرتّب نفسه، كيف؟ لا أعلم، على يد من؟ لا أعلم، نحو أيّ مصير ستذهب البلاد؟ لا أعلم، ولن أجهد نفسي في أن أعلم.
ككاتب متابع ومؤلف لعديد من الكتب والدراسات, أين يكمن قصور السياسة العربية برأيك ؟
سؤال صعب، يمكنني اختزال إجابته بكلمتين، في أمراض النُخَبْ، وقد ورثت أورام الماضي.. نُخَب مشدودة إلى المقابر لا إلى الحياة، نُخب أعدمت الشراكة مع الناس وتعالت عليهم، باستمرار وعلى الدوام كانت نُخب ممتلئة بالفراغ، أو قادمة من الفراغ، نخبة مسكونة بحمل الشعارات الفضفاضة.. في التجربة السورية على وجه التحديد، كانت النخب تتجول ما بين ثلاث عقائد بمجموعها عقائد عابرة للمكان، المشروع القومي، وكان فضفاضاً حتى انكفأ إلى مادون القبيلة، ومن ثم التهمه أصحابه، والمشروع اليساري وقد استمد مشروعيته من خارج مكانه، ثم بات تابعاً لواحد من مشروعين، القومي أو الإسلامي، والمشروع الإسلامي وقد حلّ احكام السماء مكان خصوبة الأرض.. كل ذلك دون أن ننسى أن أي من المشاريع الثلاثة لم يكن صديقاً للناس، كل منهم كان مشروع نزاع على سلطة أو اندماج بسلطة.. سياسيون بلا سياسة، هذا حال الواقع السياسي لبلداننا، هذا بطبيعة الحال ليس شتيمة.. هو وصف حال.
على الدوام كانت السخرية تأخذ شيئاً من أعمالك.. من أين تستمد كل هذه السخرية؟ كيف توصف سخرية نبيل الملحم السياسية؟
أظن أن المادة الأوّلية للسخرية أكثر وفرة من توفر الطحين في بلادنا، ربما تكون حصاد يومي متوفر في كل خطوة نخطوها، سخريتي، إذا كانت سخرية، هي نوع من التقاط المفارقة، أما إذا كانت (التنكيت) فليس هذا هاجسي، السخرية والجنس، كلاهما الأصعب.. كيف تحكي الجنس لترفعه إلى مرتبة القيمة، وكيف تسخر إلى اللحظة التي تفرقع خواصرك من الضحك لتكتشف أنك تنتحب.. لا أعرف إذا استطعت لوصول إلى هذا المعادلة.. برأيك أنت كمحاورة، هل تحققت هذه المعادلة؟
كثيراً.
هل تجاملينني؟
لا .. أبداً.
إذا إلى السؤال التالي.
قلق الكتابة ما الذي يبدده لديك؟
الكتابة.
أعني قبل الكتابة ماذا تفعل؟ سأعيد صياغة السؤال: كيف تكتب؟
مبدئياً بتداعيات المشي، أنا أكتب بأقدامي، أمشي كثيراً ومع المشي يكون التداعي، لا استطيع الكتابة دون أن يأخذ المكان تفاصيله في ذاكرتي.. لا بد من لوكيشن، وإلاّ سيتجول أبطالي في فراغ سخيف لا أسمح له بأن ينتقص من قيمهم وتكوينهم ونموهم وتطورهم، بعدها أكتب الجملة الأولى، وبعد الجملة الأولى يبدأ الععمل الروائي بإنجاز نفسه.. يبدا ليكتب نفسه.
كيف تتعامل مع هاجس تقنية الرواية ؟
التشديد على التقنية يُفقد الرواية نزاهتها.. أنا شخص نزيه مع الكتابة، لا أحب أن أحدّد مسار جريان النهر، بجدران، مامن نهر لا يرسم طريقه، ما أن تضع لنهر جدراناً حتى يستنقع.. يتحول إلى طمي ووحل.. أحب لأقدام النهر أن لا تتلوث بوحول التقنية.
هل تخضع أعمالك الروائية لرقابة ذاتية قبل أن تدفعها لمواجهة رقابة المجتمع والمقدسات والدولة ؟
ولا للحظة.. ولا لأي شكل من أشكال الرقابة، لا الرقابة السياسية، ولا محاذير المقدس، ولا أضع اعتباراً لقارئ حين أكتب.. أنا أكتب لأكون حُرّاً، وليس لأنني حُرّ.. لحظة الكتابة هي لحظة الحريّة التي لن أسمح لأحد بالإنتقاص منها.. أنا لا أكتب لأبيع منتجاً فلست عبداً للسوق، ولست أكتب لأرضي قارئاً، فليس هاجسي أن أجمع مريدين ومصفقين، أما عن العنف السياسي والرقابي، فأنا حُرّ حتى ولو كنت في فم الغول.
ألم تحدّ الرقابة السياسية من حريتك هذه على سبيل المثال؟
ولا للحظة، يعني لأبسّط لك الموضوع .. لو كنت مواطناً سويسرياً وكتبت روايتي لما اتسع هامش الحريّة فيها عن هامش الحريّة الذي أعيشه حتى ولو كنت سجيناً.. أنا لا أصدّق حكاية القمع الأمني، القمع يمارس على من يخاف القمع.. أنا لا أخافه.
ما السر؟
السرّ هو أن الكتابة هي ماتشتهيه وليس ما يتاح.. هي ليست بضاعة تستطيع أن تشتريها أو لا تستطيع، الكتابة فعل متهوّر، مجرد أن قلت: سأكتب، هذا يعني إقرار أنك رجل متهوّر.
حدّتك في توصيف المشهد السوري الحالي، بكاء عليه, أم أمل بدفعه خطوة نهوض نحو الأمام ؟
حدّتي لأنني حاد، بكاء عليه؟ لا.. أنا لا أبكي عليه، أما عن نهوضه فقد لا يكون همّي في نهوضه، أنا أكتب لأن الكتابة لذة، الكتابة بالنسبة لي ليست تبشيراً.. التبشير تركته للكهنة ولصوص الكلام.
إذا طلب منك قارئ كتاباً واحداً من كتبك يتعرّف فيه على ( نبيل الملحم ) بم تنصحه؟
لا أنصحه، ولكن إذا قلت لي أين نضج نبيل الملحم؟ أقول لك في "خمّارة جبرا" التي لم تصدر بعد، وربما بـ "الله حين يحكي" الرواية التي أنهيت مسوّدتها الآن.
تسخر دائماً من الفيس بوك وتصفه بتلك ( الخرقة الزرقاء), في ظل هذا التطور السريع والهائل الذي يغيّر مفهوم القراءة والكتابة ويخلق مفاهيم جديدة للجيل الجديد, كيف ترى طريق الكلمة الآن؟
هنالك إفراط في الاستخفاف بالكتابة، مع ذلك الإفراط بالكتابة أطيب من الإفراط في الحجر عليها.. على مالهذه الخرقة الزرقاء من ابتذالات، فهي أطيب من الهمس الخائف الذي عاشته أجيال ماقبل الثورة الرقمية.
سؤال أخير.. إلى أين ستنتهي؟
ككاتب أم ككائن بيولوجي؟
كلاهما.
ككاتب، لا أعتقد أنني سأسُتنزف، ككائن بيولوجي سأنتهي إلى الغبار، لست أفضل حالاً من جنكيز خان.