المجتمع الديناميتيّ الحيّ
*باران حسو
المجتمع هو النظام نصف المغلق من العلاقات بين الناس. وتتشكل شخصيّة وهوية أيّ مجتمعٍ من عمل فئاته على تطوير ثقافةٍ ووعيٍ مشتركين، فماذا عن المجتمعات الشرق أوسطيّة الغنيّة بتنوعها؟ لا تزال هذه المجتمعات موحَّدةً لا لخدمة هدفٍ مشتركٍ وتطوير وعيٍ متكاملٍ ومشترك، بل هي جماعاتٌ مُلملمَةٌ بحكم اعتبارات كثيرة.
وحدتها، لا متجانسةُ العناصر، نابعةٌ من "الحياة الخاملة للجماعات البشريّة هناك"، كما يصفها المُنظّر الأول لفكرة صدام الحضارات برنارد لويس. تنفر، جرّاء القطيعة ومحاولة الارتقاء لإدراك ذاتها وأناها الاجتماعيّة، من التناغم الملاحَظ بين فئات وشرائح المجتمعات الحديثة المتطوّرة، النابع من المساواة واحترام القانون في إطار الإعلاء الاجتماعيّ والنظر إلى المجتمع كقيمة إنسانيّةٍ عُليا. بل إن هذه المجتمعات لا تزال تعيش طفولتها. وهي، علاوةً على ذلك، لا تتقبل فكرة العقد الاجتماعيّ الذي يؤسّس لمجتمعٍ مدنيٍّ حرّ. كما أنها لا تملك مشروعها التنمويّ الخاصّ أيضاً.
يعيد بيير جان لويزارد الوحدة المبتذلة أعلاه إلى أن تلك الشعوب ألفت الاستبداد، في ظلّ حكم الأقلية واضطهادها لمجتمع الأغلبية بدعمٍ غربيّ. ويستشهد على ذلك بما حدث في ظلّ أحداث (الربيع العربي)، ويحمّل الغرب عدم وقوفه إلى جانب القوى الديمقراطيّة. ويرى أن الكولونياليّة، وعلى مدى 100 عام، خلقت بؤساً اجتماعياً وإنسانيّاً وخلقت وحوشاً أحدها داعش.
قد تكون الكولونياليّة هي من خلق داعش وحاضنتها من باب ردّة الفعل، لكن لا بدّ أيضاً من التمعّن في تناقضات مجتمع الأغلبيّة الذي يمكنني تسميته "مجتمع ديناميتيّ حيّ" (أفرادٌ وكتلٌ وطوائف وأعراقٌ مختلفةٌ حدّ التضاد في أسلوب الحياة، والعادات، والانتماءات السياسيّة والعقائديّة... إلخ)، الذي يستطيع خلق مائة داعشٍ في الديمومة. وإن عدم اتفاق شرائحه في ما بينها، والتي هي بعيدةٌ عنه بطبيعة الحال، يُمدّ النظام الشمولي بفرصة تأجيج وترسيخ التناقضات والمحافظة عليها عند هذا الحدّ طيلة فترة حكمه، فيجعل المجتمع كتلةً ترزح تحت وطأة الاستبداد والفقر والجهل، وحتى إن أتيحت له الفرصة للانعتاق لا يعرف كيف يتصرّف. كما تلاحَظ فيه الفردانيّة المُعطّلة، فئاتٌ اجتماعيّةٌ فاقدة الاعتبار غارقةٌ في الدونيّة بعيدةٌ كلّ البعد عن قيم الحداثة، تعاني الأمرّين جرّاء فرض الهيمنة عبر مؤسّسات مذيلّةٍ بالسلطة (كما حدث في روسيا عقب نجاح الثورة البلشفيّة 1917م، عندما ظلت الدولة السوفييتيّة تهاجم -بطريقةٍ منظّمة- كلّ المصادر التي يمكن أن تنافسها على السلطة في المجتمع الروسيّ، بما في ذلك الصحافة والأحزاب السياسيّة المعارضة ونقابات العمّال والمشروعات الخاصّة والكنيسة).(1)
يتمظهر البؤس في أشد حالاته وطأةً في حال الأزمات والحروب -كعائقٍ وكقطيعةٍ في آنٍ واحد- وغياب الدولة والمرجعيّة الفكريّة، فتمسي الفئات الاجتماعيّة عبوات ديناميتٍ قد تنفجر في أيّ لحظةٍ ولأهون سبب، معرّضةً للصدام في محاولة تفاعلها مع المستجدّات، وقد تصبح ضحيّة صراعاتٍ مُزمنة، طائفيّةٍ أو مذهبيّةٍ أو عرقيّة، انطلاقاً من تغليب كلّ جماعةٍ مصلحتها على المبدأ. وبما أن الاختلاف في حالة الحرب جريمةٌ بتُهمٍ معدّةٍ مسبقاً في مجتمعاتٍ جاهلة، أو لدى تنظيماتٍ متطرّفةٍ أقلّها "متهمٌ بالإرهاب"، وكما كان يتمظهر القتل لأيّ دوافع في شكل واجبٍ دينيٍّ أو قوميٍّ أو وطنيّ؛ فإن تأخر هذه المجتمعات، الذي قد يصل إلى عقودٍ من الزمن، في الخروج من حال الأزمة إلى حال الاستقرار (الديمقراطيّة والتنظيم) واقعٌ لا مناص منه. وهي ضعيفةٌ دون الحاجة إلى إضعافها بالمخططات الدوليّة المزعومة.
ومع بدء الأزمة في سوريا برزت الأزمة القديمة والعميقة (أزمة الهويّة والتمايز) مجدّداً بشكل يعيق التقدم التاريخيّ. بل كيف يمكن الحديث عن التقدم التاريخيّ وهذه القضايا لا تزال تفرض واقعها المتأزم حتى اليوم، وتستحيل معها دعوات بعض الأطراف إلى الإعلاء الاجتماعيّ إلى دعوةٍ أقلّ ما يمكن أن توصف بالمبتذلة، لأن الجماعات لا تمتلك بعدُ الوعي الكافي لإدراك هكذا حقائق. كما يسهم العائق اللفظيّ في المعرفة في مطّ المقولات والقيم الأخلاقية والتعايش السلميّ والعدالة الاجتماعيّة... إلخ، لتصبح مفرّغة المضمون أو تحوي أكثر مما يراد منها. فأيّ قيمةٍ نظريّةٍ أو عمليّةٍ يمكن أن تستخلص إن تشوّهت مقولة التعايش المشترك إلى "عش كما أريد"؟
لا يمكن وصف الصراع في الشرق الأوسط بالصراع الحضاريّ، رغم أن الحضارة في الخطّ الأوّل للجبهة، كما تروّج نظرية صدام الحضارات لبرنارد لويس وصموئيل هنتغتون، ورغم تشوّه القيم والمعالم الحضارية، ناهيك عن تدمير الإرث التاريخيّ والإثنوغرافيّ لهذه الشعوب والمجتمعات جرّاء الهمجيّة جنباً إلى جنبٍ مع الصراع -وقد يكون التدمير ممنجهاً كما تفعل داعش في المنطقة- بل الصراعات التي تدور في فلك الحرب على الإرهاب، والدفاع عن النفس، والانعتاق من نظامٍ شموليٍّ وولوج الحالة الديمقراطيّة، كما هو الحال في سوريا. فالصراع القائم محاولةٌ لإحلال الديمقراطيّة مكان الاستبداد والنظام الشموليّ، في ظلّ تعنّته وفي ظلّ اللا تواصل ولا توافقية الأطراف على كيفية هذا الإحلال. فتعترض المعركةَ نحو الديمقراطيّة صحواتٌ دينيّةٌ (إسلاميّةٌ على سبيل المثال، فالإسلام لديه آيديولوجيا خاصّةٌ في مسائل السياسة والعدالة الاجتماعيّة)، بل أكثر من ذلك، فمحاولات أسلمة الكفاح أو قومنته كانت دلالةً واضحةً على خلخلة العوائق ونوعاً من الارتداد والعودة إلى البحث في التراث عن مرجعيّةٍ متمايزة، بل هو صراع الأصالة والمعاصَرة انطلاقاً من عدم الثقة بالغرب (الذي صوّره برنارد لويس بالعمّ الغنيّ القادم من بلادٍ بعيدة، غير المحبوب والذي يوّد تقديم المساعدة. في إشارةٍ منه إلى محاولة الغرب تفتيت الشرق الأوسط، وجرّ أبناء مجتمعاته إلى الديمقراطيّة رغم معرفته المسبقة أنهم ليسوا جاهزين لها بعد، لأنهم يعيشون حياةً خاملةً كسولة).(2)
رغم أن ذلك ليس مبرّراً كافياً لعدم تقبّل هؤلاء الديمقراطيّة، أو للتنصّل منها والتنقيب عن ديمقراطيّةٍ على المقاس أو أحاديّة الطرف، فذلك يعني العودة إلى المركزيّة التي تعني الشموليّة في الديمومة.
"تاريخ هذا القرن لا يوفر أيّ أساسٍ يمكننا أن نبني عليه الأمل في أن تغيّر الأنظمة الشموليّة الراديكاليّة من نفسها".(3)
إن موضوع التغيير موضوع مُلحٌّ وإن لم يكن في نيّة الأنظمة الشموليّة، رغم أنها ما انفكّت تعلن عن استعدادها لإجراء الإصلاحات، فهي تسعى بذلك إلى تحوير أنواعٍ من الكفاح إلى مجرّد حراكٍ شعبيٍّ مثاليٍّ مطالبٍ بالإصلاح. ولكن، من جهةٍ أخرى، ليست هناك رؤيةٌ واضحةٌ لماهيّة هذا التغيير من قبل الشعوب أو النخبة أو المعارضة، وقد يتحوّر هذا التعثّر في اكتشاف التغيير المطلوب إلى صراعٍ وحربٍ أهليّةٍ نتيجة التقوقع واشتداد حدّة النعرات الطائفية وإغفال مخرج الديمقراطية والهدف المشترك. ففي الحالة السوريّة -مثلاً- يفترض الغرب أن النظام الفيدراليّ هو الأنسب لسوريا، فيما ليس هناك أيّ اتفاقٍ واضحٍ على شكله لدى قوى المعارضة (المنقسمة على نفسها بين مؤيدٍ للفيدرالية يتوق إلى الخلاص من نظامٍ شموليٍّ والبدء بدمقرطة سوريا حسب تصورّه، الكرد مثلاً، وبين معارضٍ يرى أنها تقسيمٌ لسوريا، ظناً منه أن الفيدراليّة قد تعني التقسيم، ناهيك عن الأسباب الأخرى).
الانفتاح على الآخر داخلياً ضرورةٌ لهكذا مجتمعاتٍ أكثر من غيرها، وإعادة تأسيس العلاقات في إطار وحدةٍ مبنيةٍ على احترام حقوق الإنسان، حيث لكل فردٍ وجماعةٍ خصوصيّتها وشخصيّتها المستقلّة في إطار مشروعٍ مجتمعيٍّ يعتمد النظام اللامركزيّ.
ليست هذه بالمهمّة السهلة؛ إلا أنّها تُعَوّل على إلمام الفرد بدوره داخل المجتمع الذي يحميه ويؤمّن له حياةً كريمة، وعلى نوعية الحكم والتراتب الاجتماعيّ، قبل البحث في أمور وأشكال ومشاريع التنميّة الاقتصادية والعلميّة.
________________________
1: فوكوياما، فرنسيس: نهاية التاريخ وخاتم البشر، تر: حسين أحمد أمين، ط1 (القاهرة، مركزالأهرام للترجمة والنشر، 1993) ص 26.
2: للمزيد راجع: سولت، د. جريمي: تفتيت الشرق الأوسط، تر: د. نبيل صبحي الطويل، ط1 (دمشق، دار النفائس، 2008).
3: فوكوياما، مصدر سابق، ص 37.