المعارضة السورية ومفهوم المؤسّسة
لم يتردّد الشعب السوريّ في دعم المفكر برهان غليون حين علم بترشحه لرئاسة المجلس الوطنيّ السوريّ، لا بل تعمّد إطلاق حملة دعمٍ عريضةٍ بعنوان "برهان غليون يمثلني". ولم يبخل الشعب السوريّ أيضاً بدعمه على جورج صبرا، ومن بعده معاذ الخطيب وأحمد الجربا وغيرهم ممن تبوأ منصباً في هذه الثورة.. غير أن أياً من هؤلاء الدخلاء على العمل السياسيّ والوطنيّ الحديث لم يتمكنوا من الثبات والمحافظة على ما أولاهم إياه الشارع السوريّ من ثقة، إذ سرعان ما تساقطوا الواحد تلو الآخر من دائرة الاهتمام.
أسبابٌ كثيرةٌ أدت إلى هذا التهاوي، لكن أهمها من وجهة نظري هو تضخم "الأنا" المريضة لهؤلاء "الساسة الجدد"، إلى درجةٍ لم يستطيعوا معها أن يكونوا "رجال دولةٍ" بالمعنى الذي تفرضه أجواء الحرب والمأساة التي تمرّ بها بلادهم. إذ لم يخطر على بال أيٍّ منهم التفكير في مأسسة عمل المعارضة أو وضع اللبنة الأولى لمؤسّسةٍ قويةٍ وقادرةٍ، تعمل ضمن أطرٍ قانونية، وتتحدث باسم الشعب السوريّ بكلّ أطيافه.
ويتكرّر سيناريو الاحتفال بالزعامات الجديدة حالياً مع السيد رياض حجاب، المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات، الذي أثار الشعب السوريّ حوله زوبعةً إعلاميةً كبيرةً إثر خطابه الحماسيّ الأخير ضدّ نظام الأسد. لكن ما تبقى من الخطاب هو أن النظام لم يسقط، فالأنظمة الطاغية لا يمكن أن تسقط لمجرّد سماعها خطاباً عالي النبرة، وهذه من أبجديات العمل السياسيّ!
ويبقى أيضاً، بالإضافة إلى الخطاب العرمرميّ، السؤال الذي يحرق اللسان، وهو هل سنظل نحرق أوراق معارضينا الواحد تلو الآخر حتى تفرغ الساحة منهم تماماً ولا يبقى مقابل الأسد سوى داعش والنصرة؟! والسؤال الآخر الذي يحرق القلب هو متى سيتوقف رهان الشعب السوريّ على أشخاصٍ في وقتٍ يُفترض فيه أن يكون الرهان على مؤسّساتٍ لديها سياساتٌ وطنيةٌ شفافةٌ وعلنيةٌ يلتفّ حولها جميع السوريين، وتقود تطلعاتهم باتجاه وطنٍ أشعلوا لأجله ثورتهم الملحمية، بدل التحلّق حول هذا القائد الملحميّ أو ذاك!
عندما انطلقت الثورة السورية، قبل 5 سنواتٍ، لم تكن لدى السوريين معارضةٌ واضحة المعالم. وقد وُلدت جميع المعارضات التي تسيّدت المشهد السياسيّ للثورة خارج الجغرافية السورية، وهو ما جعل المفكر السوريّ عارف دليلة يطلق عليها وصف "التشكيلات الطارئة"؛ فمن مؤتمر أنطاليا صيف عام 2011، مروراً بلحظة إعلان تأسيس المجلس الوطنيّ السوريّ، في اسطنبول، في العام نفسه، إلى إعلان تأسيس الائتلاف الوطنيّ، في الدوحة، على أنقاض المجلس، بعد أقلّ من عامين، وحتى مؤتمر الرياض وتشكيل الهيئة العليا للتفاوض التي انبثقت عنه، جميعها بدأت بخسارة الثقة الشعبية منذ لحظة ولادتها، إذ لم تتمكن هذه الأجسام السياسية من أداء الدور الذي أمِله منها الشارع السوريّ.
وكلّ ما فعلته تلك الأجسام السياسية المعارضة أنها راكمت فشلها وأورثته مع زعاماتٍ لا تمتلك أيّ فكرةٍ عن العمل المؤسّساتيّ، وليست لديها بوصلةٌ أو رؤيةٌ وطنيةٌ للحلّ والعمل. فلا المجلس ولا الائتلاف ولا حتى الهيئة العليا للتفاوض تمكنوا من تأسيس مؤسّسةٍ قادرةٍ على مقارعة النظام، لا بل إنهم فشلوا جميعاً في بناء إطار عملٍ وطنيٍّ مشتركٍ قادرٍ على جذب السوريين وإقناع المجتمع الدوليّ بمخططه وأسلوب عمله، ليكون مصدر ثقةٍ وبديلاً عن النظام الذي يحاربونه.
ما شهدناه، ولا نزال، خلال سنوات الثورة الخمس، لا يبشر بالخير، في ظلّ وجود معارضين لا همّ لهم سوى الصراع على تسيّد مشهد مؤسّساتٍ يعلمون، قبل غيرهم، أنها قائمةٌ بفعل تمويلها من الخارج، وبالتالي لا يحتاج قرار إغلاقها إلى أكثر من اتفاقٍ دوليٍّ-إقليميّ إذا اقتضت الحاجة!
مؤسفٌ القول إنه، ورغم كلّ المآسي والأهوال التي مرّت علينا، لم يجد الشعب السوريّ أمامه مؤسّسةً يستطيع الانتماء إليها بثقة. إذ ولا مؤسّسةٍ من التي تشكلت بعد الثورة استطاعت أن تكون وطنيةً وسياسيةً (بالمعنى العميق)، تعمل ضمن أطرٍ قانونيةٍ مُلزمةٍ وناظمةٍ وفاعلة، وتعمل بمفهوم "الدولة"، وتفرض احترامها على الشعب والمجتمع الدوليّ وتكون محط ثقتهما. فهل هذا كثيرٌ على شعبٍ قدّم كلّ هذه التضحيات للحصول على حريته وكرامته؟!
ألم تدرك معارضتنا العتيدة أن البشرية جميعها دخلت عصر المؤسّسات والعمل الجماعيّ؟ ألم تعلم أن زمن الشخصيات الكاريزمية "العنترية"، التي لا تفعل شيئاً سوى تصنيع شعوبٍ خائفةٍ يتحكم فيها طغاةٌ، قد ولّى منذ زمان؟ ألم تدرك معارضتنا أن الوقت حان للدخول في عصرٍ يسمح للسوريين بأن يكونوا جزءاً من هذا العالم في بناء حضارته الإنسانية، كغيرهم من شعوب الأرض؟
إن أقلّ ما يمكن قوله في هذا المشهد المأسويّ اليوم هو أننا جميعاً مطالبون بالعمل لإنقاذ سوريا وإنهاء معاناة شعبها. وعلينا العمل سريعاً لإنشاء مؤسّسةٍ ثوريةٍ وطنيةٍ تعيد توحيد كلّ الشعب السوريّ حولها دون تمييز (موالون ومعارضون ومن كلّ الأصناف)، وتمهّد لعهدٍ جديدٍ من المصالحة الوطنية، وتكون قادرةً على تخليص البلد من جميع وحوشه المحلية والقادمة إليه من أسقط كهوف العالم.