من الشمال إلى الشمال "مذكَّرٌ يملي على الأنثى مشاعرها"
قراءةٌ في رواية "هياج الإوزّ" للأديب سليم بركات
*جاد الله الجباعي
رواية هياج الإوزّ عزفٌ آخر لسليم بركات على وتر الفواجع الكردية، وتر الحنين والخيبة، تشكيلٌ آخر من أشكال التخييل الروائيّ قلما اختاره نمطاً سردياً، بناءً أو لغة، ومع ذلك لم يرأف كثيراً بقوالبه المعروفة. فلقد اختار أن يعبّر عن المألوف باللامألوف وعن الظاهر بالمستتر، محاولاً التقاط الوجود من جذره الجسد، الجسد الأنثى وعذاباته الخفية، من غرائزه الأكثر غوراً في النفس وفي التاريخ، وأعضائه المغيبة قسراً في انزياحات اللغة وتورياتها والتعبير المناور والمخاتل ليتركه يتقرّى ذاته بوضوحٍ صادمٍ ولغةٍ فاحشة، وبمهارةٍ تغيّب ذات الكاتب خلف لوحة البدء الحاوية على أسماء شخوصه وأماكن سكناهم وأرقام هواتفهم الأرضية، ليجعل من المَشاهد شهادات نسوةٍ يسُقنَها عن أنفسهنّ أو يقرأنها من دفاتر الغيب والذاكرة، ويعفي نفسه من التباس المشاعر. فيؤكد أنه قد "جرى توثيق أقوال الشخصيات في هذه الرواية على نحوٍ لا يجعلنا مسؤولين عن أيّ تحريف، أو اختلاقٍ للوقائع، أو حتى كتمان، ما لا يجعل المشهد مكتملاً" (ص1).
الرواية التي تدور أحداثها في "السويد"، بلد المهجر الشماليّ لسكان الشمال السوريّ من أبنائه الكرد، تصوّر حياة هذا الشعب ومأساة تشتته وفواجعه، يسوقها سليم بركات في عشرة فصولٍ تحمل عناوين إشكاليةً كعادته (ثرثرات الأرواح في ثيابها الضيقة، نشأة العقل، سكان الصوت وحدائقه...). شخوصها نساءٌ كردياتٌ مهاجراتٌ بضربة قدرٍ أعمى، مشتتاتٌ لا يجمع بينهنّ غير تشابه المصير وخريف العمر ولقائهنّ كل سبتٍ في بيت إحداهنّ على العشاء، يثرثرن بلغةٍ فاحشةٍ وخادشةٍ عن تاريخهنّ وحاضرهنّ، غرائزهنّ وأجسادهنّ المترهلة، ويُعدن كتابة تاريخ الحضارة من مطابخها وذائقة الطعوم. ولعل هذا الإسراف في استخدام هذه اللغة قد حدَّ من الكتابة حول الرواية تحوّطاً من قبل البعض أو تخوّفاً أو.. فالأحداث الشهادات ستقولها "شتولا جبري" بلسانها الساخر والمتهكم بلغةٍ تخرج عن مألوف (آداب) الحديث، ستقولها بعينيها الوارثتين عيني أمها الصامتة، ستقولها بجسدها، بردفيها القويين، واللحم الطريّ، وبوشمها الهائج، ليعطي للرواية اسمها.
ستقولها بنغمٍ مختلفٍ ونفَسٍ آخر أكثر غربةً وأكثر وحشية. فنساء حفلات السبت الهاربات من أرض الكورد قسراً أو رغبة، والمهرّبات كزوجاتٍ مستوردات، اللاتي دخلن أرض السويد، دخلنها لاجئات. فبقيت إنسانيتهنّ معلقةً على تخوم البرازخ الفاصلة بين الموطن والوطن، وبين الآدميّ والإنسان. فلا علاقة هنا بين المكان والمكان ولا علاقة بين التاريخ والجغرافيا وبين الجسد والروح سوى سديمٍ من دخان التبغ الملاحق ورماد الذكريات والصور المهشمة، كصورة أبوَي "تاسو عارف"، وعلم الكرد الذي لم يبق منه غير شمسٍ باهتةٍ يشدّها الأطفال من شعرها كي تصحو، وأشعار "درخو خلاص" المنذورة لفجرٍ لم يأت أبداً.
"سيرٌ مجتزأةٌ يوحّدها تقدم بطلاتها في العمر، دون أن تتخطى الاستعادة الوهمَ الذي يسعفه تضخيمٌ باذخٌ وتعمّقه مبالغةٌ تصويريةٌ منتشيةٌ بنظامها المشهديّ البارع، فينفذ ويترسخ ولا يعود وهماً في شيء"4. سير أجسادٍ يحفها الخريف بشحوبه وعجرفته فيستثير المستتر في خفاياها، فتبدو اللغة نافرةً وخادشة، لغة أنثى فقدت خفرها المألوف وخرجت عارية، ليس استعراضاً لجمالية جسدٍ يتقرّى أسرار مباهجه بحرّية الروح، إنما جسدٌ محروقٌ بخريف اللوعة والحرمان وروحٌ مخدورٌ بنبيذ "ريحاني" الحامض من فرط الخميرة واستعجال الأوان، ليقول لحرس الخوف وسدنة المحرّمات: هاكم خيالكم المخبول يا عبيد الله.. أوَلَم تستوحوا جناتكم من وحي تفاصيلي؟!
نساء حفلات السبت، "نساء" سليم بركات الكرديات الباحثات عن يوم راحةٍ لم يأت أبداً، تآكلت أعمارهنّ وأجسادهنّ، وذبلت أرواحهنّ وهنّ يذرعن المسافات وجغرافيا المدن، يحملن الروائح والطعوم ذاكرةً حيةً لذائقة الإنسان وفعله في تدجين الكون البريّ على سماط الشهوات واللذة، يجتمعن كل سبتٍ على سرابٍ موهومٍ وينتثرن آخر المساء مع قطارات الوقت كلٌّ في اتجاه.
تتقاذفهنّ الأهواء والأنواء ليَتِهن في هموم اليوم التالي وحيداتٍ إلا من وحدتهنّ. لا يجمعهنّ إلا بعض الشبه بالذكريات والمصائر، ولغة، ذاكرة، قلما تستحثها الحاجة أو يحنّ إليها الكلام. مهاجراتٌ، مطلقاتٌ مرّةً تلو المرّة، معيلاتٌ حتى غدون آباءً وأمهات في آنٍ واحد، متعادلاتٌ بالمعاناة والحرمان، متفاضلاتٌ بطول القامة وبعض ملامح الوجه وشحم الجسد ومتشابهاتٌ في البداية والمآل.
فلا قصة حبٍّ هنا، ولا غدٌ مأمول، ولا همٌّ كبيرٌ مشتركٌ أو شعورٌ مشتركٌ يلقي بظلاله على أرواح جماعةٍ من الناس تستحق اسم شعبٍ أو أمة، خلا محاولة "تاسو عارف" المستهجنة، وغير المأخوذة على محمل الجدّ من قبل الأخريات، في تغيير اسم الشارع الذي تسكنه مع ابنيها في إحدى ضواحي "استكهولم" من الاسم المؤنث بالسويدية "كاترينا باركن" إلى الاسم المذكر بالكردية "الملا علي خافوت" بائع القشدة المعروف في قامشلو. علّها تجد ذاتها في المكان، أو تعيد ترسيم المكان على مقاس الذات بعدما فشلت في ترسيم الذات على مقاس المكان بحمولته الجديدة، لتجد نفسها وحيدةً من جديدٍ كما كانت وحيدةً دائماً، ولتجد أن ما خبأته من قوائم أسماء في جيوب جسدها السرية ما هي إلا وهمٌ يشبهها، والحصيلة عنفٌ تدميريٌّ يرتدّ نحو الذات.
كل شيءٍ خريفيٌّ هنا، مصفرٌّ، رماديٌّ، عارٍ، خادشٌ، وآيلٌ للسقوط قبل اكتمال اللذة. ثمة فواصل مفقودةٌ وثمة زمنٌ ضائعٌ وخريفٌ يستعجل أوانه ويستعجل أجله، في الطبيعة، في أجساد النسوة، في أرواح العابرين، في روح أوربا، في السويد.. وفي الأحلام وفي قطارات الليل.
ثمة سبتٌ مفقود، ووقتٌ مفقود، دقيقة اكتمال اللذة بميزان الشهوات، الدقيقة الحادية عشرة، وعقرب الوقت المذكّر الذي يملؤها ويختفي. اللحظة الفاصلة بين الموت والولادة، حافة الكون، وحافة الهاوية.
العنصر الذكر في معادلة الوجود غائب، سلبيٌّ حتى حدود التلاشي، منفيٌّ واقعاً ليستعاد ذاكرةً واخزةً حامضةً كخمرٍ أفسدته خميرته، كنبيذ "ريحاني" الواخز والمدوّخ، ويستعاد دون صفات، مختزلاً بحضوره الرمزيّ صورةً أو خيالاً، ثم ينحلّ بكلامٍ متهتكٍ ساخرٍ أحياناً، مرغوبٌ مكروهٌ في آنٍ واحد. هكذا تهرب "روات حسن" نحو شمالٍ آخر، نحو المجهول، من وجه زوجها السابق وأولادها الذين يشبهونه، بأنوفهم وحديثهم بلغتهم الكردية بدلاً عن السويدية. وتطرد الأخرى زوجها الذي يقتحم خصوصية بيتها من غير موعدٍ ملطخاً بمرق الطعام المطبوخ. وهكذا تنهي "تاسو عارف" مشهد السبت الأخير مجللةً بالخيبة والخسران، هاربةً من ساحة "رنكبي" أمام زحف الصوماليين لصوص الأفكار الذين "سرقوا" فكرتها. تسير نحو شارع بيتها، الذي ظلّ يحمل اسمه "كاترينا باركن"، ذاويةً كورقة خريف، وحيدةً إلا من وحدتها، مسيحاً مصلوباً في عتمة وحدته بعدما خانه مريدوه، وليس كيوسف يحلم باثني عشر كوكباً ويبدل آلهة المصريين وكهنة الفراعنة. مكعبٌ فارغٌ باردٌ يشبه المكعب الحديد في قبو بيتها. يدٌ خاليةٌ إلا من أطواقٍ جمعتها لكلبةٍ موهومةٍ ووجودٍ موهومٍ وصورة مهشمة الإطار والملامح، هي صورة أبويها، هي صورتها، صورة المستقبل، وصورة الذاكرة المحطمة والمنهوبة.
(1)- سليم بركات: سيرة الصبا.
(2)- سليم بركات: الأعمال الشعرية.
(3)- المفاتيح: تحليلٌ لبعض روايات سليم بركات، للدكتور عباس توفيق.
(4)- علي جازو: كرديّات يحترقن على لهيب شبق وشتائم يأس.
.
.