المجتمع المدني السوري بين جلد للذات.. وولادة من الخاصرة
*محمد الجسيم
يأس أصبح يشكل ظاهرة عامة لدى السوريين وعلى رأسهم معظم ناشطي الحراك الثوري، يأس وصل لحد جلد الذات، فلا أحد يعجبه أحد ولا منظمة ترضي الجموع، ولا مجلس يلبي الاحتياجات، ولا هيئة تمثل السوريين. الكل يخوّن الكل، والكل يتهم الكل، والكل لا يعجبه الكل، والكل ينقد الكل. لكن إذا كان الكل على خطأ فمن المصيب؟!! وإذا كان الكل لا يعمل فمن هو الذي يعمل؟
هو سؤال وجب طرحه قبل جلد الذات.
لفهم ما يحدث على الساحة المدنية من كيل الاتهامات لابد من الوقوف على أمرين أساسيين يشكلان مفتاحاً لفهم الصورة كاملةً والتي لا يجب أن تفهم على أنها تبرير للقصور الحاصل بقدر ما هو توصيف ليكون النقد لتصويب الخطأ وليس للإدانة. لابد بدايةً من الوقوف على نشأة المجتمع المدني السوري والولادة الصعبة التي تعتريه، والذي يرتبط بشكل أساسي بحجم المأساة الإنسانية الحاصلة في كل سوريا، ولا نستثني في هذا إطار الإحباطات الحاصلة بل و يمكن اعتباره مأساة من ضمن المآسي الواقعة.
ليس خافياً على أحد، يعد المجتمع المدني السوري وليداً لثورة آذار 2011 فما قبل ذلك لم يكن هنالك أي حراك مدني يذكر إلا على نطاقات ضيقة والتي سرعان ما أُجهضت بفعل بطش أجهزة الأمن السورية. وعندما أقول أنه وليد الثورة فإني أقصد أيضاً أنه وليد الأزمات التي أحدثتها السلطة في مناطق الثورة، وأيضاً في صفوف المعارضين لها، حيث بدأ هذا المجتمع بالتبلور في المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة، ومارافقها من سحب للخدمات الأساسية من كهرباء وماء ونظافة وغياب للخدمات الطبية الأساسية، ما اضطر بعض الناشطين بدايةً بالإضطلاع بتسيير الأمور الأساسية وتوفير الحد الأدنى من الخدمات بشكل فردي، والتي مع طول فترة غيابها بدأت تنتظم هذه الجهود وفق أشكال وهياكل؛ كمجالس محلية ومنظمات لتدير هذه المناطق. وبإطار هذه النشأة العسيرة وليدة الحاجة الماسة، لا بد لنا من التطرّق إلى مدى التأهيل الذي تتمتع به هذه المؤسسات الناشئة من إدارة وتنظيم ومشاركة وتضمين للأفراد في مناطق عملها. الجواب عن هذه النقطة هو من صلب ما تقدم، أي النشأة العسيرة التي خلقت أدوار جديدة لناشطين لا يمتلكون المؤهلات الكافية للمكان الذي يشغلونه سوى أنهم شاركوا في الثورة وأنا هنا لا ألمز بإشارات سلبية على هذا الأمر الذي ساد في البداية، وإنما أتفهمه في إطار ظروف تلك المرحلة.
الأمر الآخر الذي لابدّ من أخذه بعين الاعتبار، هو الحاجات المتزايدة في كل المناطق السورية وحتى في مناطق اللجوء، حيث إن تصاعد الحرب وامتدادها لتشمل كل المناطق السورية وما ترتب عليها من نزوح ولجوء، شمل أكثر من نصف السكان، بما تم تصنيفه كأسوء أزمة بعد الحرب العالمية الثانية، وعليه يتحتّم تقديم المساعدات الإنسانية لهؤلاء المتضررين، مع عجز هيئة الأمم المتحدة ومانحوها عن تغطية حتى الحدود الدنيا من الاحتياجات التي تضمن الكرامة الإنسانية لجميع المتضررين. ومع استمرار تصاعد الحرب خلال فترة تجاوزت الخمس سنوات، نفد ما تبقى من مدخرات جل السكان، بحيث أصبحت نسبة الفقر في سوريا تصل لما يقارب 85% من السكان بحسب آخر إحصائية للأمم المتحدة.
وأكثر من ذلك، إذا ما أقرنّا العاملين السابقين في تشكل المجتمع المدني؛ بما كان سائداً قبل 2011 خصوصاً مع وجود سلطة أمنية متجذرة في المجتمع منذ أكثر من أربعين عاماً ، امتهنت تقييد الحريات بمختلف أشكالها، ومنعت أي شكل من أشكال التجمع والتنظيم، ولم تعترف بوجود أي مجتمع مدني في سوريا، ما خلق حالة تصحّر كبيرة في المجتمع على مستوى التنظيم، والمشاركة وتضمين كافة الآراء، بالإضافة لمجموعة كبيرة من الخصائص النفسية والتي على رأسها التعطش للسطة والتفرد بها، وكره النقد، حتى لو كان لتصحيح الخلل وتطوير العمل؛ الأمر الذي يترتب عليه ضعف في شرعية مؤسسات المجتمع المدني، كما لناشطي الحراك أنفسهم فشلهم في خلق آلية للمشاركة والتضمين في المناطق التي يعملون فيها بما يشكل قطيعة كاملة مع ما كان سائداً من قبل.. الأمر الذي زاد من سخط عموم الناس وبالتالي كثرة القيل والقال. ولا يفهم من هذا التوصيف أنه ذم بقدر ما هو توصيف لمجتمع مدني قيد التشكل.
على التوازي مع هذه النشأة للمجتمع المدني ومشاكله، لا نُغفل عاملاً مهماً وأساسياً في تشكله ألا وهو سياسات الجهات المانحة، أو ما تعارف على تسميته الناشطين" هيك بدو الدونر" والذي لعب دوراً سلبياً كما وصفه الكثيرون وهو ما يحتاج لتحليل وتفصيل أكثر للدور الذي لعبه.
كل الأسباب السابقة وأسباب أخرى اصطدامت بما كان يأمله ناشطو الحراك عن شكل الدولة التي رسموها في بدايات الحراك، ما أدخلهم بحالة من اليأس واللاجدوى والعجز، وخصوصاً مع تصاعد أوجه التطرّف، وتحويل الصراع من صراع شعب يتطلع إلى الحرية ويسعى نحو التغيير إلى حرب على الإرهاب، ما جعل الكل يحمل فشل التغيير للكل في مشهد اختلطت فيه المفاهيم والمعاني.
مما تقدم و رغم السخط الكبير لعدم قدرة المجتمع المدني الناشئ على الإيفاء بالحاجات الأساسية للعيش، وفي أدنى حدودها الاتفاق على رؤية واحدة جامعة لرؤى وتطلعات إخوة الهدف المشترك؛ إلا أن هنالك صورة أخرى هي صورة لمجتمع مدني ينتج نفسه بنفسه. فبرغم مأسي الحياة اليومية المستمرة من خمس سنوات هنالك نماذج صغيرة لا حصر لها قد تبدو للمتابع بسيطة لكنها مؤشرات ترسم صورة لمجتمع مدني سيكون له الريادة في أي مرحلة انتقالية تدعو للتفاءل بعيداً عن النظرة السوداوية للمشهد السوري في المستقبل.