عن "دانتيلا مها"
*نبيل الملحم
هي المتعة، تراب ليس بالوسع رسم حدوده، أن يحدّها من الشمال أو الجنوب، فتلك مسألة متروكة للدول، غير أن للمتعة شأن آخر، ليس شأن الموت على أية حال، مع أنها قد تلعب على حوافه، في متنه أو هامشه أو سؤاله، وفي كل اللعبة احتياطي متروك لقوّة العيش فينا، ولولا ذلك لما كانت الولادة تراجيديا مرغوبة، وها هي البشرية تتناسل دون ملل.. تتناسل على الوسائد، وتحت الجسور، وفي الزوارق المهجورة ومع كل ولادة ثمة قصيدة.
أنا أحكي عن القصيدة، يظهر أنني أفعل ذلك، وكأنها – القصيدة- هي ذلك الخلق.. هذا التكاثر، أولئك الصبيان الذين يلعبون على حافة النهر، تلك البنات اللواتي يفضحن أسرارهن بالرسم على التراب أو التبوّل تحت ظل شجرة.. أنا أحكي عن القصيدة، وقد قرأتها بعد غياب طال أربعين سنة، لتكتبها تلك الصبية "النصنوصة" وقد غدت اليوم الجدّة "مها"، هي الجدّة "الآنسة"، هكذا يخاطبها تلامذتها، ومع كل قصيدة تنسجها بإبرة الأم، ونول الجدّة، ومنقار الزغاليل، تكتب مها تلك الدانتيلا الضائعة من حياتنا، هو الأمر هكذا، فلنقرأ عزاءنا فيما تكتبه الجدّة:
وداعا سياجَ الأمانِ
ودفءَ اليقينِ
ورائحةً كلُّها الياسمينْ
تُراقُ فتملأ فراغَ المكانْ
وداعاً دليلي
ومفتاح لغزي
وخارطةً لاتجاهي وطقسي
وبوصلتي للوصول الاخيرْ .
نقرأ ويبقى اللغز، ليس بحال من الأحوال لغز الكتابة، هو لغز الوقت، هو الزمن، لاعب التمائم، حاوي السيرك، مهرج الملك، وشاتم المتسوّل.
أنا الرجل أعترف بالحكمة، وهنا حكمة "مها"، وسأعترف بلعبة الجديلة، وهناك سأقرأ:
في حضرة العشق تراني
أولم الولائمْ
أُقدم الشرابَ من دِناني
وأزرعُ المكانَ بالتمائمْ
وأُسدل العباءةَ القطيفهْ
وألبسُ الخواتمْ
أُزينُ الكفيّن بالحنّاءْ
أُحمّر الشفاهَ والخدينْ
أُكحّلُ العينينْ
مليكةٌ أنا..تاجٌ لها وصولجانْ
والعرشُ اقحوانْ
هنا، البنت "النصنيصة"، وقبلها كانت الجدة، وما بينهما امرأة اكتشفت لغزها، أيّ لغز تكشفه القصيدة؟! وأيّ مؤجل هذا وقد تأجّل أربعين سنة؟!
حدث هذا، وقد جاء موسم "الكشف"، هو الكشف، وقد لعبت في قصائدها "دانتيلا"، ما بين زمنين، زمن "بنت المدرسة"، وزمن الجدّة، ويبقى الزمن هو "الوردة"، وتبقى البنت / الجدّة، شاهدة تلوّح مرّة بمنديل الوقت، وثانية بالوقت كلّه، وما بين التلويحتين روح متعَبَة، و:
في حضرة العشق تراني
أُشعل الشموعَ والطيوبَ والبخورْ
أُقدمُ الولاءْ
وانحني بالطاعةِ العمياءِ..
وفي كلّ ذلك، هي الملكة إن شاءت، وهي سراج القصر إن شاءت، وهي نكهة الرصيف و: "بكل الوجع"، الذي يصيب ولا يقتل.
أيّ عمر مديد لشاعرة تكتب قصيدتها بالحبر السرّي، تداري صوتها وتحتجب كما لو كانت لصّة تسرق من العروس طرحتها؟
سنقرأ ذات يوم، قصيدة طويلة عنوانها: "دانتيلا مها"، وسنتذكرها كلما شئنا أن نأتي إلى الحياة أو نحتال على مغادرتها.
مها.. بعد أربعين سنة.. كيف حال صبيّة "الشعر المسبسب"، كيف حالك أيتها الجدة؟
وداعا جداري
وكنت أودُّ الركونَ إليكْ
وداعاً تميمةَ حظي ودرعي
وبخورَ داري
وسِفرَ التمكنِ والإقتدارِ
وداعاً مظلةَ قيظي وظلي
ومروحةً للأثير الأثيرْ..
وقودَ شتائي دثاري وناري
ونافذةً خلفتها الريحُ والثلجُ والزمهريرْ.
هي سيادة اللغة.. هو الأمر كذلك حين تكون اللغة أكثر منّا، وحين نكون وداعاً لكل سموم المكائد، وحضناً لكل مروج الأغاني.
هذه البنت / الجدّة، ستكون نشيد إنشادنا.. والله لا أكذب ولا أجامل.
هي تكتب من أقاصي الزمن، وكأن الوقت ليس بالمرصاد.
.
.