info@suwar-magazine.org

قراءات في الحركة الإسلامية في الحرب السورية (2)

قراءات في الحركة الإسلامية في الحرب السورية (2)
Whatsapp
Facebook Share

 

يُنشر هذا الملف بالتعاون بين مجلة صور ومركز دراسات الجمهورية الديمقراطية

 

حزب التحرير في الثورة السوريّة

 

(2)

 

 

*طارق أحمد

 


"حزب الحيطان" كما يصفه ناشطو الثورة السورية في حلب والشمال، لأن أبرز نشاطاته هي طلاء الجدران -ولا سيما فوق شعارات الثورة- وكتابة عبارات تكفير الديمقراطية والدعوة إلى الخلافة الإسلامية فوقها. أما التسمية الأخطر فهي "داعش البيضاء" بسبب التطرّف النظريّ الشديد للحزب وامتناعه، في الوقت ذاته، عن العمل المسلح.
 
تحظى الظاهرة الإسلامية التي طغت على مشهد الثورة السورية بالكثير من الاهتمام الإعلاميّ والقليل من الجهد البحثيّ، الذي تركّزت نسبةٌ كبيرةٌ منه على حركاتٍ كبرى شهيرة، كتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة وجماعة الإخوان المسلمين في سورية. وتحاول هذه الورقة تسليط الضوء على تجربةٍ أسهمت، منذ وقتٍ مبكّرٍ، في إشاعة أجواء الشعارات الإسلامية المتشدّدة، دون أن تحوز هذه التجربة في حدّ ذاتها أهميةً عمليةً خاصّة، مما يحيل على فرضية "اكتناز" بعض المجموعات النخبوية الصغرى دوالاً آيديولوجية وسياسية نلاحظ أنها تملك طاقة تأثيرٍ قصوى في بعض الظروف المواتية لنموٍّ "طافرٍ" بالمعنى البيولوجيّ. وهو ما شهدناه من اجتياح الأفكار والرموز الإسلامية شارع الثورة السورية.

 


 

 

استندت هذه الورقة إلى بيانات الحزب الرسمية أساساً، وتسجيلاته المصوّرة، وبعض شهادات العيان. واعتمدت المنهج الوصفيّ التحليليّ بشكلٍ عام. وهي لا تعدو كونها محاولةً بحثيةً أولى سيجري العمل على تعميقها واستكمالها، نظرياً وميدانياً، في بحثٍ أوسع.
 


مداخل
 
أُسس حزب التحرير [الإسلامي][1] على يد الشيخ القاضي تقي الدين النبهاني (1977-1908)، وهو من مواليد قرية إجزم قضاء حيفا بفلسطين، عام 1953، وتفرغ لرئاسته ولإصدار الكتب والنشرات التي تعد في مجموعها المنهل الثقافي الرئيسي للحزب.

 


 
بعد وفاة النبهاني ترأس الحزب عبد القديم زلوم، الذي ولد في مدينة الخليل عام 1924، وكان الساعد الأيمن للنبهاني، وشاركه في تأسيس الحزب وصياغة خطابه ومنهجه وبعض كتبه، مما جعل عهده الحزبيّ مجرّد ظلٍّ للمؤسّس المهيمن. توفي زلوم في 2003، ليخلفه الأمير الثالث والحالي للحزب، وهو المهندس عطاء بن خليل أبو الرشتة، المولود عام 1943 في قرية رعنا الفلسطينية. وكان الناطق الرسمي باسم الحزب في الأردن، قبل أن يغادره عام 1998 إلى مكانٍ مجهولٍ يُعتقد أنه لبنان. ونتيجة خلفية العمل الإعلاميّ الحزبيّ للرشتة فقد بدت على الحزب، منذ توليه إمارته، معالم تضخّمٍ إعلاميٍّ، وتعددٍ لا يكاد ينتهي للناطقين الرسميين، واهتمامٍ بنشر الكتب والمطويات، وحضورٍ على شبكة الإنترنت بمختلف الوسائل، مما يعطي انطباعاً عن قوة وانتشار الحزب بشكلٍ أكبر بكثير من واقعه.
 
للحزب قيادةٌ مركزيّةٌ واحدةٌ يرئسها «أمير» يضع بنفسه الخطط ويتابعها ويصدر الأوامر ويحاسب المحازبين. يصل الأمير إلى موقعه عبر الانتخابات، ويكون معه مجلس شورى، لكن بتّ الأمور يعود إليه وحده.
 
    يهدف الحزب إلى إقامة الدولة الإسلامية في البلدان العربية أولاً ثم الخلافة الإسلامية، ويتم حمل الدعوة بعد ذلك إلى البلدان غير الإسلامية عن طريق الأمة المسلمة.

 


 
للحزب عدّةٌ نظريةٌ متكاملةٌ صاغها المؤسّس، وأسهم في بلورتها و"التحشية عليها" عددٌ من الكتاب الحزبيين، دون أن يضيفوا إلى التركة الأولى تطوّراً ذا بال. ومن هذه العدّة أفكارٌ في العقيدة والفقه والدعوة والسياسة والاقتصاد، بل دستوراً مفصّلاً للدولة الإسلامية المنشودة.
 
وما يهمنا في هذا المجال نقطتان:


 
       الأولى) أن حزب التحرير كان من أوائل الحركات الإسلامية التي كفّرت الديمقراطية[2] بوصفها نظاماً يشرّع الشعب فيه لنفسه ما يشاء لا وفق الشريعة الإسلامية، فهو نظام كفرٍ، والحكم به حكماً بالكفر، والدعوة إليه دعوةٌ إلى نظام كفر. لأن المسلمين مأمورون بتسيير جميع أعمالهم بأحكام الشرع، والمسلم عبدٌ لله، فهو يسيّر إرادته وفق أوامر الله ونواهيه، والأمة لا تملك أن تسيّر إرادتها وفق هواها، إذ ليست لها السيادة، والذي يسيّر إرادتها هو الشرع لأنه صاحب السيادة. لذلك فإن الأمة لا تملك التشريع لأن الله هو المشرّع[3].
 
       الثانية) هي أن الحزب لا يؤمن بالثورات، سلميةً أكانت أم مسلحة، كما لا يؤمن بالأعمال الإرهابية، سبيلاً للوصول إلى الحكم. إذ يركز الحزب على "إعادة الثقة بتعاليم الإسلام" عن طريق العمل الثقافي من ناحية والعمل السياسي من ناحيةٍ أخرى.


        وقد حددّ الحزب طريقة سيرة عبر ثلاث مراحل:

مرحلة التثقيف: وفيها تنصبّ عناية الحزب على بناء جسمه، وتثقيف الأفراد في حلقاته بالثقافة الحزبية المركزة، حتى يستطيع أن يكوّن كتلةً حزبيةً من شبابٍ تبنّوا أفكاره وتفاعلوا معها.
مرحلة التفاعل مع الأمة: لتتخذ الإسلام قضية لها، وتحويل الرأي العام عندها إلى أفكار الإسلام وأحكامه التي تبناها الحزب حتى تتخذها أفكاراً لها، وتعمل على تطبيقها في واقع الحياة، وتسير مع الحزب في العمل لإقامة دولة الخلافة ونصب الخليفة، لاستئناف الحكم الإسلامي وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم.
      ومع أن الحزب التزم في سيره أن يكون صريحاً وسافراً، إلا أنه اقتصر على الأعمال السياسية في ذلك، ولم يتجاوزها إلى الأعمال العسكرية ضد الحكام أو ضد من يقفون أمام دعوته.

 

مرحلة استلام الحكم: يرى الحزب أن الإسلام لا يجيز القيام بالأعمال العسكرية لإقامة دولته، وأن السبيل إلى ذلك مفروضٌ ومحدّدٌ كما هي الشريعة نفسها، وهو ما فعله الرسول (ص) حين عرض نفسه ودعوته على القبائل حتى بايعه أهل المدينة فقامت الدولة الإسلامية. ولذلك يرى الحزب أنه لا بد له، لتسلم زمام الحكم في هذا الزمان، من طلب النصرة (الدعم والتأييد) من رئيس دولة، أو رئيس كتلة، أو قائد جماعة، أو ضابط كبير، أو زعيم قبيلة، أو من سفير، أو ما شاكل ذلك من أصحاب النفوذ، لإقناعه بأفكار الحزب، فيقوم هذا الرجل بتطبيق الشريعة من خلال القوة والسيطرة اللتين يمتلكهما. وقد قام الحزب بطلب النصرة ممن ظنهم قادرين عليها في العديد من البلدان العربية والإسلامية، وكان هؤلاء ضباطاً في أغلب الأحيان، مما جعل الحزب تنظيماً انقلابياً من الناحية العملية، كما حاول في أكثر من بلدٍ عربيٍّ. ورغم قيام الحزب بأعمال طلب النصرة بشكلٍ فاشل، إلا أنه على العموم يعتبر نفسه في المرحلة الثانية من مراحل دعوته، فقد استمر في القيام بجميع الأعمال التي كان يقوم بها من دراسة في الحلقات الحزبية، ومن ثقافة جماعية، ومن تركيز على الرأي العام ومن مقاومة الحكّام.


وكما ترسّم الحزب خُطا إقامة الدولة الإسلامية الآن من قيامها أوّل مرّةٍ في بداية الدعوة، حدّد لنفسه أولاً مدة ثلاثة عشر عاماً من تاريخ تأسيسه للوصول إلى الحكم، تطابقاً مع المرحلة المكية من الإسلام حتى تاريخ بيعة أهل المدينة، ثم مددها ثانياً إلى 30 سنةً مراعاة للظروف والضغوط المختلفة، ولكن شيئاً لم يحدث على الرغم من مضيّ العقود.
 
الحزب في سوريا

 
        كانت دمشق الموطن التالي لتقي الدين النبهاني، بعد أن غادر الأردن في تشرين الثاني 1953، ولمدة سنتين تقريباً أبعدته السلطات السورية بعدهما إلى لبنان. وقد شكلت النقاشات الفكرية والسياسية حول موضوعاتٍ شتى، والتي كان النبهاني ومؤسّسو وأعضاء الحزب الفتيّ مستعدين دائماً لخوضها، بريقاً لعددٍ من الشبان المسلمين المتعلمين الذين لم يشبعهم الخطاب الإخوانيّ البسيط والمباشر، فشهد الحزب انتشاراً لا بأس به بين الشباب المتدين في دمشق[4] وغيرها من المحافظات. وقد زار النبهاني عدداً من المدن السورية، كحلب[5] وحماه[6]. ولم يكن هذا الانتشار «النوعي»، وإن قليل العدد، ليمر من دون إثارة حفيظة الإخوان المسلمين السوريين، الذين وصل بهم الأمر إلى حد فصل العضو الذي يتصل بالحزب[7].
 
        لم يحصل الحزب على ترخيصٍ رسميٍّ بمزاولة النشاط السياسيّ لكن أجواء الخمسينيات الديمقراطية كانت تسمح له بحرية التحرك[8]. حتى اعتقلت الأجهزة الأمنية مجموعة من أعضائه في دمشق عام 1955[9]، ثم أخذت السلطات بمراقبة نشاط التحريريين بحذر[10]. ومنذ ذلك الوقت لم تفرغ السجون السورية من بعض معتقلي حزب التحرير.


 
ولكن الحزب لا يُذكر بين المجموعات الإسلامية التي شاركت في الأحداث الدامية التي شهدتها البلاد بين أعوام 1979 - 1982[11]. وقد انفردت مجلة «الوعي»، الناطقة غير الرسمية باسم الحزب، بالزعم، ولمرّةٍ وحيدة، أن الإخوان المسلمين في سورية اعتمدوا عام 1981 الدستور الإسلاميّ الذي وضعه الحزب لتطبيقه في حال نجحوا في الوصول إلى الحكم[12].
 
وتغاضت السلطات السورية عن نشاطٍ محدودٍ للحزب طوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، إلى أن شنت حملة اعتقالاتٍ واسعةٍ في خريف عام 1999، طالت جميع الأعضاء السوريين على الأغلب، إثر مخططٍ فاشلٍ لانقلابٍ خطّط له عددٌ صغيرٌ من الضباط الهامشيين. وقُدِّر عدد المعتقلين بثلاثمائة، أفرج عن ما يقرب المائتين منهم في تشرين الثاني 2001. ثم أُطلق سراح 68 من أصل 113 معتقلاً لم تشملهم الإفراجات السابقة[13]. وفي 7/9/2002 قدرت «اللجنة السورية لحقوق الإنسان» عدد التحريريين المتبقين بما يقرب الستين معتقلاً[14]، تراوحت مدة بقائهم في السجن ما بين السنة وعدة سنوات. كما تعرّض الحزب لاحقاً لحملتي اعتقالٍ على الأقل، في كلٍّ من عامي 2004 و2006.
 
بعد الثورة
 
رحّب الحزب بالربيع العربيّ بحذر، وبارك ما أسماه "التحرّكات" التي قام بها المنتفضون في كلٍّ من تونس ومصر وليبيا واليمن. ورأى أن هذه "الأحداث" بدأت ذاتية... وكان لها وقع إيجابي بأنها كسرت عند الناس حاجز الخوف من الحكام، وكانت تعلوها مشاعر إسلامية، فالناس يتحركون ويكبّرون دونما خوف من بطش الحكام، ولهذا فوائده في تحريك الناس... ولذلك فإنها من هذا الوجه كانت طيبة ومباركة...، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنّ هذه التحركات بدأت مشاعرياً بصيحات عامة، ومثل هذه التحركات من السهل على القوى الدولية النافذة وعملائها في البلد اختراقها، ولذلك استطاعت القوى الأوروبية وأمريكا أن تخترق هذه التحركات عن طريق عملاء مدربين من هذه القوى اندسوا بين المنتفضين، ومن ثم تمكنت من المحافظة على بنية النظم الأساسية في بلدان الربيع العربي وعلى استمرار نفوذ تلك القوى مع شيء من الجراحة التجميلية، حسب رأي الحزب[15].
 
وحين اندلعت الثورة السورية رحّب بها الحزب من المنظور نفسه، إذ رأى أنها انتفاضة أهل سوريا المؤمنين الثائرين الذين ينادون "لبيك يا الله... لبيك لبيك"، بينما تحاول أمريكا أن تفرض عليها قيادةً من المعارضة العلمانية في الخارج، عبر المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ليكون بديلاً تنضجه عن بشار الأسد[16]، بهدف إعاقة قيام الدولة الإسلامية، وهو المطلب الذي زعم الحزب منذ وقتٍ مبكرٍ أن المتظاهرين السوريين يريدونه، رغم عدم وجود المؤشرات على ذلك وقتها.

 


 
فبعد عشرة أيامٍ من اندلاع الثورة في مدينة درعا أصدر الحزب بياناً موجّهاً إلى السوريين دعاهم فيه إلى المواجهة مع النظام وصولاً إلى نقطة اللاعودة، لأن التخلص منه ومن مآسيه أمرٌ لا بد منه. فيجب على السوريين أن يجمعوا أمرهم على هذا صفاً واحداً، ليختصروا زمن القضاء عليه. وبرأي الحزب فإنه يجب أن "يعلم الشعب السوري أن العلاقة مع هذا النظام ليست سلبية لأنه يظلم ويقتل ويذل ويفقر الناس ويسلم قضاياهم لعدوهم فحسب، بل لأنه عدوٌّ لله ولدينه قبل كل شيء، بل يجب الانطلاق من هذا". ونلاحظ أن المنطلق الإسلامي في طرح الحزب مبكّرٌ جداً، بينما كانت الانتفاضة شعبية وغير أيديولوجية. إذ يطلب الحزب من السوريين في البيان نفسه: "سجلوا لأنفسكم مكرمة إقامة حكم الله على أرض الله في آخر الزمان على أنقاض هذا النظام البائد، وليكن تغييركم تغييراً يحبه الله ورسوله، ولا تجعلوه تغييراً ناقصاً، سجلوا لأنفسكم سابقة إعلانها خلافة إسلامية، ولا تستبدلوا حاكماً بحاكم مثله، ولا دستوراً بدستور مثله، ولا تستعينوا بالأجنبي الكافر في شؤون تغييركم، ولا تدعوا أحداً يتكلم باسمكم خارج هذا التوجه. نعم أعلنوها خلافة إسلامية". كما يطلب الحزب النصرة، كما هو منهجه، من ضباط الجيش السوريّ، داعياً إياهم إلى التحرّك لتغيير الأوضاع تغييراً جذرياً[17]. وأيضاً كان هذا النداء وقتها صوتاً شبه منفردٍ، حين كان الصوت السائد بين المنتفضين هو سلمية ثورتهم.


 وظلت بيانات الحزب المتتالية عن الثورة السورية تسير وفق هذه الأسس:


الترحيب بالثورة.
الإصرار على التوجّه الإسلامي لها وصولاً إلى إقامة الخلافة.
التحذير الدائم من "سرقتها من الأطراف الخارجية المتآمرة التي اصطنعت" معارضة علمانية ووطنية في الخارج.
تأييد العمل العسكريّ المحليّ ضد النظام، دون أن يشارك الحزب فيه بالفعل.
رفض التدخل العسكريّ الخارجي.

 
وفي واقع الأمر، أتاحت الثورة للحزب مجال العمل على نطاقٍ واسعٍ بعد أن خرجت كثيرٌ من المدن والمناطق عن سيطرة النظام. فسارع الحزب إلى استغلال فرصة العمل العلنيّ، وأسّس عدداً من المكاتب التي اهتمت أساساً بتوزيع النشرات والكتب ومجلة "الوعي". وقد برز اسم المهندس هشام البابا بوصفه رئيس المكتب الإعلاميّ لحزب التحرير في "ولاية" سوريا، وفق التقسيمات الهيكلية والإدارية للحزب. وقام البابا بجولاتٍ في المناطق المحرّرة، بعد أن أتاحت سيطرة الثوار على أجزاء من الحدود حرية الحركة. ولوحظ أن أولى هذه الجولات بدأت بمدينة إعزاز، المحاذية للحدود التركية. وقد ألقى فيها كلمة في مسجد أنصار الرسول، حيَّى فيها بطولات السوريين الثائرين حتى إسقاط النظام في سوريا وإعادة الملامح الإسلامية إلى ربوعها، كما نقل للحضور تحيات أمير الحزب. ثم تحدث عن نشاطات الحزب في الداخل والخارج لنصرة الثورة، ودعا الله أن يكلل التضحيات ودماء الشهداء التي روت تراب أرض الشام بخلافة راشدة. وأكد على أن ما يجري في سوريا هو صراع بين الحق والباطل في وقت تآمر فيه الغرب والشرق على ثورة الشام خوفاً من توجهها الإسلامي السائر بثبات نحو دولة الخلافة. كما ألقى في ما تلا من أيامٍ محاضرة سبقها دعاية واسعة بعنوان: "ثورة الشام: تضحيات وتحديات، صبر أسطوري وتآمر دولي آخره الأخضر الإبراهيمي"، في ناحية صوران القريبة من إعزاز بريف حلب، تلاها توزيع مشروع الحزب عن دستور دولة الخلافة و"بيان مؤامرة الأخضر الإبراهيمي". ونوَّه المهندس هشام البابا في المحاضرة إلى عظم التضحيات التي قدمها الشعب السوري ولا يزال، وقال إنه: "حرام أن تكون هذه التضحيات ودماء الشهداء والاقتصاد المدمر وعذابات الأطفال وأنَّـات الثكالى وعشرات الآلاف من المعتقلين ومئات الآلاف من المعذبين والنازحين والمهجرين في مشارق الأرض ومغاربها، حرام بعد ذلك كله أن يرضى الناس بتغيير شكلي في الوجوه بعد أكثر من خمسين ألف شهيد، وحرام أن يرضى الناس بعد ذلك كله بأقل من دولة الإسلام التي تقتصّ من كل فاجر حارب الله وآذى عباده المخلصين"[18].

 


 
وقد لفتت هذه النشاطات الأنظار وجذبت اهتمام وسائل الإعلام التي أخذت تتساءل عن وزن الحزب في الشمال السوريّ. ولكن لم يكن للحزب جناحٌ عسكريٌّ في الواقع، بل اكتفى بدعوة القوى العسكرية القائمة إلى تبني أفكاره. وهو ما أكده عبد القادر الصالح، القائد العسكري الشهير للواء التوحيد، الذي كان القوّة الضاربة الأكبر في الشمال ولا سيما في ريف حلب، حين أجاب عن سؤالٍ وجهته قناة الجزيرة عن وجود حزب التحرير بين قوّات الجيش الحرّ[19].


 
وهذا ما يوضحه عطا أبو الرشتة، الأمير العام للحزب، حين يجيب عن سؤالٍ وجّه إليه عن الثورة السورية ومدى انخراط الحزب فيها، إذ يوضح: "إن عملنا هو هو لم يتغير في كل مكان لنا فيه إمكانية عمل... هذا ما نقوم به قبل الثورات وخلالها وبعدها... غير أن أحوال الثورات أوجدت مجالاً أوسع لجعل الناس يستمعون كلمة الحق دون خوف من الأجهزة الأمنية كما كان في السابق حيث كانوا يبتعدون عنا خشية الأجهزة الأمنية، ولهذا يلاحظ اليوم التفاف الناس حولنا وإقبالهم علينا، ومن هنا جاءت ملاحظتُك عن قوة حركتنا وازديادها في الأمة عن ذي قبل. أما إن كنت تقصد بكلمة "الانخراط في الثورة" أن جناحاً عسكرياً أصبح لنا، فهذا خطأ وغير وارد، فليس لنا جناح عسكري لا سابقاً ولا لاحقاً، فنحن حزب سياسي مبدؤه الإسلام، لا يقوم بالأعمال المادية في مرحلة الدعوة، وإنما يطلب نصرة أهل القوة ليمكنوه من إقامة الدولة"[20].
 


وذلك رغم أن الحزب نعى بعض عناصره الذين قتلوا "دفاعاً عن دينهم ضد أعداء الله الذين يستخدمهم الغرب ضد أبناء هذا الدين للحيلولة دون نجاح مشروعه مشروع الخلافة الإسلامية"؟! مما لا يتضح منه ظروف هذه الحوادث التي يمكن أن تستخدم أماكنها كمؤشرات على أماكن انتشار الحزب في الداخل السوريّ. فقد نعى عبد الباسط الخطيب (أبو علي حلب) والمهندس أبو عبيدة وشقيقه أبو الدرداء من قرية صيدنايا، وأبو بكر من حيّ القابون بدمشق. وقال الحزب إن هؤلاء جميعاً قتلوا في مدينة يبرود بريف دمشق في شباط 2014[21]. كما نعى مصطفى منصور الذي قال الحزب إنه قتل –في مكانٍ لم يحدده البيان- وهو يدافع أيضاً "عن ثورة أمة ضد أعداء الله الذين يستخدمهم الغرب ضد أبناء هذا الدين للحيلولة دون نجاح مشروعه مشروع الخلافة الإسلامية" في آذار 2014[22]. كما اتهم الحزب لواء شام الرسول بمحاولة اغتيال أحد مسؤوليه في مدينة كفربطنا في الغوطة الشرقية لدمشق، في نيسان 2015[23]. وتدل هذه الحوادث على عدم وجود قوات للحزب تقاتل النظام، وأن صداماته، أو اعتداءات الآخرين على خلاياه غير المسلحة، إنما تكون مع قوات الجيش الحر أو سواها من الكتائب الإسلامية.

 


 
وربما يستغرب البعض موقف الحزب من تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الذي يبدو وكأنه قد حقق ما يدعو إليه الحزب من إعلان الدولة وإقامة الخلافة. غير أن أبو الرشتة بيّن على صفحته الرسمية على موقع الفايسبوك، جواباً عن عددٍ كبيرٍ من السائلين كما يقول؛ أن إعلان الخلافة هذا باطلٌ لأن أيّ تنظيم يريد إعلان الخلافة في مكان ما فإن الواجب عليه أن يتبع طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ومنها أن يكون لهذا التنظيم سلطان ظاهر في هذا المكان يحفظ فيه أمنه في الداخل والخارج، وأن يكون هذا المكان فيه مقومات الدولة في المنطقة التي تعلن فيها الخلافة... والتنظيم الذي أعلن الخلافة لا سلطان له على سوريا ولا على العراق، وليس محققاً للأمن والأمان في الداخل ولا في الخارج، حتى إن الذي بايعوه خليفة لا يستطيع الظهور فيها علناً، بل بقي مختفياً كحاله قبل الإعلان! وهكذا فإعلان التنظيم للخلافة هو لغو لا مضمون له. إن الخلافة دولة ذات شأن، بيَّن الشرع الإسلاميّ طريقة قيامها وكيفية استنباط أحكامها في الحكم والسياسية والاقتصاد والعلاقات الدولية... وليست هي إعلاناً يُطلَق في المواقع الإلكترونية أو وسائل الإعلام. ولذلك فإن الإعلان الذي تمّ هو لغو لا يقدم ولا يؤخر في واقع تنظيم الدولة، فالتنظيم هو حركة مسلحة قبل الإعلان وبعد الإعلان، شأنه شأن باقي الحركات المسلحة. بل يذهب أمير الحزب إلى القول إن الذي يستحق الوقوف عنده هو الخشية من أن يترتب على هذا الإعلان أثر سلبي بالنسبة لفكرة الخلافة عند البسطاء، فتسقط عندهم من مركزها العظيم وأهميتها الكبرى إلى فكرة هشة أشبه بمجرد التنفيس عن مشاعر قلقة عند بعض الأشخاص، فيقف أحدهم في ساحة أو ميدان أو قرية فيعلن أنه خليفة ثم ينزوي ويظن أنه يحسن صنعاً! مما يرسم علامة استفهام حول توقيت هذا الإعلان دون سلطان ظاهر مستقر لأصحابه يحفظ أمن هذه الدولة الداخلي والخارجي، بل هكذا على الفيسبوك أو الإعلام. ويخلص الرشتة إلى القول: "هذا التوقيت مشبوه"[24].

 


 
وبعد أيامٍ أصدر الحزب بياناً حول الموضوع ذاته ذهب إلى أبعد من ذلك إذ رأى أن ما حدث هو إعلان الخلافة لتشويهها! لأنه لا يعدو كونه حلقةً جديدةً في سلسلة أعمالٍ هدفها القضاء على مشروع الخلافة، بعد أن تطوّر الوضع الثوريّ في سوريا إلى المطالبة العارمة بها، وضمور مشروع العلمانيّين، ولم تبقَ للقلّة القليلة المتبقّية منهم والمتمثّلة بالائتلاف الوطنيّ أيّ شعبيّةٍ تذكر[25].
 
كما رفض أمير الحزب محاولات بعض الفصائل تنفيذ الأحكام الإسلامية (الحدود) في مناطق سيطرتها، مؤكداً أن إقامة هذه الأحكام وتنفيذها هو من اختصاص الخليفة فقط، عند قيام الخلافة ووجود هذا الخليفة[26].
 


ومن الملاحظ منع عمل الحزب في الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم داعش، الذي قام، في مناسبة واحدة على الأقل، بإعدام أحد أعضاء الحزب بتهمة الردة[27]. بينما يسمح للحزب بالعمل في مناطق الثوار بحكم الأمر الواقع، ولا سيما في الشمال في أرياف حلب وإدلب، حيث عقد في أيار 2015 مؤتمره الأول في سوريا بعنوان "ثورة الشام ثورة أمة نحو إقامة الخلافة"[28]، الذي كرّر فيه أفكاره المشار إليها أعلاه.
 
وقد برز من بين قياديي الحزب في سوريا بعد الثورة أحمد إبراهيم عبد الوهاب، الذي حلّ محل البابا في رئاسة المكتب الإعلاميّ في منتصف 2014، بينما عاد البابا عضواً فيه. ود. يوسف الحاج يوسف، نائب رئيس هذا المكتب. وعبدو منذر الدلي، من ريف درعا، عضو المكتب الإعلامي أيضاً. وشقيقه محمد الدلي. ومنير ناصر (أبو إسلام)، من حلب، عضو المكتب الإعلامي كذلك. ومحمد الموسى عضو المكتب الإعلامي أيضاً. وناصر شيخ عبد الحي، عضو لجنة الاتصالات المركزية للحزب في سوريا. وعبد الحميد عبد الحميد، عضو اللجنة نفسها. ومحمد دباغ في حيّ المشهد، وعلي الصالح في حيّ طريق الباب، والشيخ أبو حمزة في حيّ المرجة، وإسماعيل الوحواح (أبو أنس) والمهندس علي عبد الرحمن في القسم المحرّر من مدينة حلب. والشيخ أبو مصعب الشامي وعبد المغيث ياسين في ريف حلب الغربي. ويامن خيال في ريفها الشمالي. وأحمد حاج محمد وسامر عيد وجمال حج إبراهيم وعيسى العيساوي وأحمد أبو عبادة في ريف إدلب. وأحمد العبود وعامر علي السالم في ريف درعا. بينما لم يعرف اسم أمير ولاية سوريا في الحزب.
 


ومن الملاحظ أن الأسماء المذكورة أعلاه كلها لإعلاميين أو دعاةٍ لأفكار الحزب، على المنابر الدينية أو في المحاضرات وجلسات الحوار، مما يؤشّر بوضوحٍ إلى طبيعة نشاط الحزب في سوريا. فكما غاب عنه الجانب العسكريّ غابت أيضاً النشاطات الإغاثية أو الإسعافية أو الطبية أو الخدمية أو الإدارية أو سواها من الجوانب التي انشغلت بها الكثير من الفصائل والمنظمات. وكان أبرز نشاطات الحزب هو دعوة الفصائل إلى تبني أفكاره، وهو ما لم يحدث بشكل جادّ، وخاصةً لأن الحزب لا يملك من الموارد المالية ما يكفي للدعم من نواحي التسليح أو الذخيرة أو الرواتب، وهو ما تحتاجه هذه الفصائل بالفعل لا النشرات والكتيبات والحوارات.
 
خاتمة
 
ليس حزب التحرير "إرهابياً" بالمعنى المعروف، وإن كان يؤثّث لشتى أنواع التطرّف الإسلاميّ ويوفّر لها الأرضية النظرية. وفي تاريخ الحزب عبَره الكثيرون باتجاه تنظيماتٍ أخرى انخرطت في الفعل دون انتظار ميكانيكية خطوات الحزب "الدقيقة" وغير المجدية. أما في سوريا ، ورغم أن الحزب أشاع جوّاً من التطرّف الإسلاميّ في الرموز والشعارات والخطاب، واصطدم مراراً مع ناشطي الثورة في المظاهرات، ولا سيما في مجال المفاضلة بين علم الثورة الأخضر و"راية" العُقاب السوداء؛ إلا أن تأثيره الفعليّ على الأرض ربما لم يتجاوز التمهيد غير المنتظم أو المدروس لحركاتٍ فاعلةٍ أشدّ تطرّفاً. إذ لا تذكر السير المعروفة لفصائل التشدّد الإسلاميّ الموجودة حالياً في سوريا، ولرموزها أو لتياراتها الداخلية، تأثراً يذكر بأفكار الحزب أو مروراً عبره. وعلى كل حال فإن التحقق النهائي من صحة هذه الفرضية يحتاج إلى دراسة عيناتٍ جماعيةٍ ونماذج محوريةٍ مفردة، مما هو غير متاحٍ الآن.

 


-[1] الإسلامي صفة، وليست جزءاً من الاسم الرسمي للحزب.

[2]- نجح أحمد الداعور (1909 ـ 2001) في دخول مجلس النواب الأردني عن منطقة طولكرم، عام 1954، ليصبح التحريريّ الوحيد في أيّ برلمان عربي. ورغم ذلك فإن أول خطبه البرلمانية كانت بعنوان "نقض القانون المدني"، وأعلن فيها شعار الحزب: "الديمقراطية نظام كفر يحرم أخذها والدعوة إليها". وهو الشعار الذي سيصبح عنواناً لأحد كتب زلوم، انظر الحاشية اللاحقة.

[3]- تتكرر هذه الأفكار كثيراً في أدبيات الحزب، غير أنها مركّزة في كتاب عبد القديم زلوم: الديمقراطية نظام كفر يحرُم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها. وهو متاح على الرابط: http://www.hizb-ut-tahrir.org/PDF/AR/ar_books_pdf/democratya.pdf

[4]- فهمي الجدعان، تعقيب على بحث الحبيب الجنحاني: «الصحوة الإسلامية في بلاد الشام: مثال سوريا»، ضمن كتاب: الحركة الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية؛ جامعة الأمم المتحدة؛ منتدى العالم الثالث: مكتب الشرق الأوسط، ط2، 1989، ص 159.

[5]- مصدر فضل عدم ذكر اسمه.

[6]- سعيد حوى، هذه تجربتي وهذه شهادتي، الجزائر: مكتبة رحاب، د.ت، ص 41.

[7]- مصدر فضل عدم ذكر اسمه.

[8]- مصدر فضل عدم ذكر اسمه.

[9]- محمد محسن راضي، «حزب التحرير: ثقافته ومنهجه في إقامة دولة الخلافة الإسلامية»، رسالة قدمت لنيل درجة الماجستير في أصول الدين من الجامعة الإسلامية ببغداد، إشراف أ.د وليد غفوري البدري، 2006، ص 72.

[10]- فهمي الجدعان، مرجع سابق، ص 159.

[11]- دون مؤلف، الإخوان المسلمون: نشأة مشبوهة وتاريخ أسود، دمشق: مكتب الإعداد في حزب البعث العربي الاشتراكي، 1984ـ 1985، 3/ 49ـ59.

[12]- مجلة «الوعي» (بيروت)، ك2 1999، السنة 13، العدد 140، ص 11.

[13]- من مقال ممدوح الشيخ، «تناقضات حزب التحرير: يسمح بالعنف ولا يمارسه ويريد إحياء الخلافة ويفضل الانقلابات العسكرية»، المنشور في مجلة «العصر» الإلكترونية، في 8/5/2002. http://www.alasr.ws/index.cfm?method=home.con&contentID=2284

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard