كوّة في كنيستي
*نبيل الملحم
لم تكن الكنيسة ولا للحظة، مكاناً مناسباً لرجل مثلي يبحث في هزّ "المُقدّس"، غير أن للكنيسة كوّة صغيرة، هي النافذة الضرورية لذلك البوح الذي يسمى :"الاعتراف".
الاعتراف بالخطأ، أو الاعتراف بالخطيئة، أو التطهّر من عبء الكلام مع النفس، ليكون مع آخر يصغي ولايبوح بما يصغي.
في لحظة ما، يتحول الورق الأبيض إلى تلك الكوّة، فيكون الرجاء الشجاع .. رجاء بمقدوره القول:
- سامحيني.
وإذا ما استطرد أكثر إلى القول:
- سامحيني إذا لم أكن الرجل الذي يعرف كيف يمزّق رداء البلاهة، ويعترف بحريرك، وبـ "حقك في أن تكوني كما أنتِ، امرأة من نزوة وانحدار، وجريمة وفضيلة، وعتمة أو استغراق في القنديل".. سامحيني يا امرأة لأنني لم أكن رجلاً بما يكفي لأنحّي خيولي إلى إسطبلها، مشيراً بكلتا يدي إلى عينين باكيتين، ترجوان لحظة إصغاء إلى حصان مكسور الساق، تحت وابل من ظنون الحياة ومقاتل الخديعة.
كوّة، بوسعك البوح فيها أنك الكلب إن شئت، القنفذ إن شئت، قماش اليافطات وقد كتب فوقها علم البلاد، أو نشيد البلاد التي تريدها أنت لا سواك.. البلاد التي هي بلادك أنت.. أنت ساكنها وحارسها وحمّال أقدارها وجامع قمامتها.
كوّة تقول فيها:
- ياسيدي القائد، أنت ابن شرموطة، ثم تستدرك وتعود إلى تلك الحكمة وقد أطلقتها قبل عشرين عاماً: "المحصّنات يحملن التاريخ، والعاهرات يجلسن فوقه"، وبعدها تمحو عن الورق الأبيض ماكتبت، لتقول لسيدك القائد:" ياسيدي القائد، أنت لست ابن امرأة، لا محصنة ولا شرموطة، أنت "مبصوق" من الصُدفة، وقد أحلتني إلى مواعيدك بين بشر هم قدر تعميهم أقدارك".
يا لتلك الكوّة، كوّة الاعتراف، فما بين أن تكون أنت كما أنت، أو تكون لا أنت، مسافة شاسعة تتدرج احتمالاتها ما بين أن تكون ذيل سواك، أو ساطور سواك، أو قاتلاً لسواك، ولن تكون حين تكون أنت، سافلاً، وها أنذا أعيد ماكتبته قبل عشرين عاماً (يا للرقم العشرين كم سيتكرر):
- حين أكون أنا، أكون أنا، وعند ذلك لن يكون العالم سافلاً.
وعند هذه الكوّة، لا بد وأن أكون أنا.. الصبي، لا عب النار، مطفئ الحرائق، عاشق الموت على الحافة، جامع أعضائي من قدمي حتى قمة رأسي وأنا أركض محمّلاً بأثاثي هذا، طالباً ما لا يطلبه الطغاة:
- دعوني أقود الكوكب أيها السادة.. دعوني، أنقشه كما يليق ببشر مضربين عن القتل والمجاعة، كما راقصات من شرانق يفردن حريرهن فوق لوحة الحياة ويرسمن الحياة بلا جنازات ولا جنّازين، فالموت لا يليق ببدعة الرقص، وابتكارات الجسد.
في تلك الكوّة سأكون كما الجنين، مربوطاً بمشيمة العشب، هكذا سأكون:"نعناع البستان، زيتونة السهل، توتة الحقل، وديك المواسم.. كلّ المواسم"، وها أنذا سأعترف:
- لست محارباً أيّها الكهنة.
- لست مواطناً أيها الأمير.
- لست جندياً أيتها الخوذة.
- ولست بندقية قنّاص ولا سيّاف قاتل.
وها أنذا في الطريق إلى تلك الكوّة.. لا المسيح مسيحي، وأمنا العذراء ليست أمني، ولن أصلّب للثالوث وروح القدس.
سأصلّب للبوح.
لكل البوح.
لبنت بالغة (الرزالة)، تنتظر رجلاً على حافة الاعتراف.. على حافة الموت.. على حافة موسم جديد لا ينال سوى من الموت.
.
.