التعليم السوريّ في تركيا بين التخبّط والفساد
/مدارس إسطنبول أنموذجاً/
*أحمد طلب الناصر
خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة قدّرت الإحصاءات الصادرة عن المؤسّسات التابعة للأمم المتحدة عدد الأطفال السوريين الذين ليس بإمكانهم مواصلة التعليم في المدارس بأكثر من مليونين ونصف، جرّاء الحرب الدائرة في سوريا والتدمير الذي تعرّضت له المدارس والتهجير والنزوح داخل وخارج البلاد.
بين أولئك الأطفال أكثر من مئتي ألفٍ في تركيا وحدها، موزّعين داخل مخيمات اللجوء وفي كافة المدن التركية.
منذ منتصف العام 2012، ومع زيادة تدفق أعداد اللاجئين السوريين، تمّ إنشاء عددٍ قليلٍ من المدارس المجانية المدعومة من بعض الجمعيات والهيئات المدنية والحزبية والدينية، لتستقطب شريحةً واسعةً من أبناء العائلات السورية محدودة الدخل التي ليس باستطاعتها دفع أقساط المدارس الربحية الخاصّة التي كثرت في الآونة الأخيرة وتوزّعت داخل معظم المدن التركية. ولكن سرعان ما أُغلقت تلك المدارس المجانية، أو تحوّلت إلى ربحية، نتيجة ضعف أو انعدام الدعم المقدّم فجأةً ودون سوابق إنذار، ليجد الطالب نفسه مُطالَباً بدفع أقساطٍ فصليةٍ أو شهريةٍ، منذ منتصف العام الدراسي (2014-2013) وبداية العام اللاحق أثناء توجهه للتسجيل..
في إسطنبول، مثلاً، تفاوتت الأقساط حسب الأحياء التي توزّعت فيها المدارس لتتماشى مع الوضع الماديّ للأسر السورية القاطنة في الحيّ. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى حسب طبيعة ومرجعية البناء المدرسيّ الذي غالباً ما يكون مقدّماً من بلديات المدينة للهيئة المشرفة على المدرسة بصفةٍ مجانيةٍ للتخفيف عنها وحمل عبء إيجار البناء المكلف بشكلٍ مخيفٍ حتى أنه يصل في بعض الحالات إلى أكثر من أربعة أو خمسة آلاف دولارٍ شهرياً، ما ينعكس سلباً على قسط الطالب. أما من كانوا يمتلكون الإمكانية المادية الجيدة من رجال الأعمال السوريين فقد لجأوا إلى استئجار مقرّاتٍ لمدارسهم وقاموا بتجهيزها لاستقبال الطلبة، ومع ذلك لم تختلف الأقساط كثيراً بين تلك الأولى وهذه الثانية.
أدّى كل ذلك إلى تناقصٍ ملحوظٍ في أعداد الطلاب المتقدمين إلى مقاعد الدراسة، إذ انخفضت النسبة إلى النصف تقريباً عن السنة الماضية والتي سبقتها، وإلى لجوء الطلاب إلى التسجيل في المدارس التركية الحكومية رغم ما لا يخفى من صعوبة تعلّم اللغة التركية، خاصةً وأن المناهج كلها تدرّس بتلك اللغة، بالإضافة إلى الصعوبات التي تواجه الأسر أثناء تسجيلهم أبنائهم، إذ يُطالَبون بإبراز أوراق الإقامة لهم ولأبنائهم مع بعض الثبوتيات لقبول تسجيلهم مع الطلاب الأتراك. علماً بأن معظم السوريين لا يمتلكون تلك الإقامات لعدم امتلاكهم جوازات سفرٍ في الأساس، بسبب هروبهم ودخولهم الأراضي التركية كلاجئين بعد أن تقطعت بهم سبل العيش في الداخل السوريّ المدمّر. إلا أن تلك الإشكالية تمّ تلافيها هذه السنة بعد منح السوريين بطاقات الهوية الخاصّة بالأجانب "الكيملك"، والتي يحقّ للطالب السوريّ بموجبها التسجيل في مدارس الحكومة التركية.
كما أن غالبية الأسر لا تستطيع تحمّل نفقات المدارس الربحية المتوزّعة في إسطنبول وغيرها من المدن التركية مهما كانت أجورها بسيطة، خاصّةً حين نجد في البيت الواحد ثلاثة أو أربعة أطفالٍ في سنّ الدراسة.
المعلّم السوريّ بين مطرقة الضمير وسندان الاستغلال:
تجاوز عدد المعلّمين السوريين في إسطنبول وحدها الـ1700 مدرّسٍ من جميع الاختصاصات. ولا تختلف صعوبة وضع المعلم عن وضع الطالب، بل تفوقه أضعافاً مضاعفة. فمنذ وضَع قدميه على الأرض التركية بدأ بالبحث عن سبل العيش بأدنى متطلباته، فراح يطرق أبواب المنظمات والجمعيات بعد أن فقد الأمل بالعمل ضمن المؤسّسات التعليمية، ويعود السبب بكلّ بساطةٍ إلى احتكار معظم أصحاب تلك المؤسّسات لإدارتها والتعليم ضمنها من قبل عائلاتهم وذويهم ورفاقهم. لكن، وبعد ازدياد أعداد اللاجئين السوريين الذي تناسب طرداً مع زيادة أعداد المدارس، زاد الطلب على معلمي المناهج التربوية ولكن برواتب ضئيلةٍ تكفي لسداد إيجار المنزل وفواتير الماء والكهرباء والاتصالات. ورغم ذلك بقي المعلّم السوريّ يؤثر العمل التربويّ والتعليميّ الذي يتقنه ويستره مع عائلته على غيره من الأعمال أو اللجوء إلى دول الاتحاد الأوروبيّ.
منحة اليونيسيف.. ومحنة المعلم:
مع بداية العام الدراسيّ المنصرم (2016-2015) بادرت منظمة اليونيسيف، من خلال مكتبها في تركيا، إلى منح المعلمين السوريين العاملين في المدارس السورية بإسطنبول راتباً شهرياً مقداره 900 ليرةٍ تركية، أي ما يعادل 300 دولارٍ أميركيّ تقريباً، كمساعدةٍ تُضاف إلى رواتبهم المقرّرة من إدارة المدرسة والتي تتراوح بين 800-1600 ليرةٍ تركية، أي ما يعادل 260-520 دولاراً، في مدارس مأجورة التعليم يتراوح القسط الشهريّ فيها بين 50 إلى 300 ليرةٍ على الطالب الواحد، حسب منطقة ومستوى التجهيز والدعم الممنوح للمدرسة، كما أسلفنا. وقد تعددت طريقة التعامل مع المنحة بتعدد الجهات التي تتعاطى مع المعلمين وشؤونهم.
أصحاب المدارس والحكومة التركية:
بحجة أن اليونيسيف تكفلت برواتبهم قام بعض أصحاب المدارس بخصم مبلغ الـ900 ليرة (قيمة المنحة) من راتب المعلمين العاملين لديهم ومنحهم المبلغ المتبقي من راتبهم قبل المنحة، بينما امتنع البعض الآخر عن تسليم كامل الرواتب للمعلمين وطلب منهم التوجه إلى مؤسّسة البريد التركية (ptt) لقبض حوالة اليونيسيف كراتب.. ووصل الأمر بإحدى المدارس أن طالبت معلميها بدفع 100 ليرةٍ لأن الراتب المخصّص من قبلها كان 800 ليرةٍ فقط!
أما المفاجأة فهي الشرط الذي وضعته الحكومة التركية لترخيص افتتاح أيّ مدرسةٍ للاجئين السوريين، وذلك بأن تكفل مصاريفها جمعيةٌ أو منظمةٌ إنسانيةٌ أو مؤسّسةٌ باستطاعتها سدّ احتياجات المدرسة والكادر التعليميّ والطلاب المسجّلين، ما يعني أن المدرسة تمّ ترخيصها أساساً كمدرسةٍ مجانيةٍ تطوّعية!
وبرغم أن التربية التركية على علمٍ بما يحدث في المدارس السورية، كما يقول الكثيرون، خاصّةً بعد تعيين مندوبٍ لها في كلّ مدرسة، إلا أنها لا تتدخل في ما يدور بين المعلّم والمدرسة، وتكتفي بإصدار التعليمات التوجيهية.
المعلّمة والناشطة التربوية "رزان الرجب"، التي تدير موقع "المدارس والتعليم في إسطنبول وتركيا" الذي يقدّم خدماته المجانية للمعلمين السوريين، تقول:
بالنسبة إلى وضع المدارس السورية كمراكز تعليمٍ مؤقتٍ فهو أفضل الحلول الموجودة حالياً رغم كل السلبيات التي يعاني منها، في ظلّ فشل الحكومة التركية -بعد خمس سنين لجوء- في احتواء العملية التعليمة بأيّ خطةٍ واضحة. وحتى الآن تتخبط بقراراتها التي أرهقت الطالب والمعلم على حدٍّ سواء، ومثالها آخر القرارات التي بدأت تتسرّب أخبارٌ عنها كإجبار المعلمين على الحصول على مستويين في اللغة التركية كشرطٍ لتمديد عقودهم للعام القادم، مع العلم أن الحكومة التركية ليست من يدفع رواتب المعلمين، والتي تعدّ هزيلةً لا تغني ولا تسمن، فبأي حقٍّ تجبر المعلمين وتقلقهم وهم في غنىً عن المزيد من التوتر والارهاق؟
أما الأستاذ "أحمد المصطفى"، مدرّس اللغة الإنكليزية في مدرسة "قادمون" السورية، فيقول:
عندما علمت إدارة المدرسة بمنحة اليونيسيف، بعد بدء العام الدراسيّ بشهرين، قامت بتعليق تقبيض الرواتب لنا بحجّة عدم توافر الدعم اللازم. لكن، وبعد وصول المنحة من اليونيسيف، قامت بإكمال باقي الراتب الذي كان مقداره 1400 ليرة ليصبح 500 ليرة فقط، علماً أن بناء المدرسة مجانيٌّ مُقدّمٌ من بلدية الحيّ، وقسط الطالب 350 ليرةً للفصل الواحد!
مجلس التربويين السوريين في إسطنبول:
تأسّس هذا المجلس في العام الدراسيّ السابق (2015-2014) تحت اسم "مجلس مدراء إسطنبول"، وهو تجمّعٌ يخصّ مديري المدارس السورية في المدينة، والبالغ عددها حتى الآن ما يقارب 38 مدرسة. الغاية من إنشاء هذا التجمّع هي تمرير وتعميم وتوحيد القرارات الصادرة بحق المدارس والعاملين فيها والطلاب. ويضمّ بين أعضائه من يملك أكثر من منشأةٍ تعليمية، ويتنقل بعضهم بين دمشق وإسطنبول بحرّيةٍ تامة، ويهمس البعض أن بينهم من لا يزال يتقاضى راتبه من النظام السوريّ. ويرى المعلمون أن قرارات المجلس غالباً ما تصبّ في مصلحة أعضائه (المدراء وأصحاب المدارس)، ومنها القرار الذي صدر عن المجلس بخصم الـ900 ليرة من راتب المدرّس، والاستمرار في مطالبة الطلاب بالأقساط الشهرية.
النقابة السورية العامة للمعلمين:
منذ ما يقرب العامين قامت مجموعةٌ من المعلمين والحقوقيين السوريين بإنشاء غرفة اجتماعاتٍ على "السكايب" طرحت مشروع تأسيس نقابةٍ للمعلمين السوريين في المهجر، فتمّ تشكيل اللجنة ثم الهيئة التأسيسية، ثمّ وضع نظامٍ داخليّ وتنسيب الكثير من الأعضاء المعلّمين فيها، إلى أن تمّت -منذ فترةٍ قريبةٍ- عملية انتخاب النقيب العام ورؤساء أفرع النقابة في المدن التركية وباقي دول الجوار السوريّ، وأطلقت على النقابة تسمية "النقابة السورية العامة للمعلمين".
رئيس النقابة بتركيا، وهو يدرّس في إحدى مدارسها "الليبية"، كان قد أكّد أن المنحة لا دخل لها البتة بالراتب الذي يتقاضاه المعلّم من المدرسة مأجورة التعليم، لكن النقابة لا تستطيع التدخل لأنها بلا حولٍ ولا قوّة، ولا تستطيع مجابهة "عصابة" مجلس التربويين في إسطنبول، على حدّ تعبير السيد رئيس النقابة، كما أنها لم تنل حتى اللحظة الترخيص المناسب من الحكومة التركية للتحرّك والبدء بعملها!
يقول الأستاذ غسان حمدان، عضو اللجنة التأسيسية للنقابة العامة للمعلمين السوريين، والناشط في المجال التعليميّ التربويّ:
في 13 حزيران/ يونيو من هذا العام عُقدت ورشةٌ تربويةٌ في إسطنبول بين النقابة السورية وأكاديميين أتراك مهتمين بالشأن التربويّ التعليميّ السوريّ.. من ناحية الإدارة تمّت مناقشة العلاقة الناظمة بين الإدارة التركية والإدارة السورية، إذ لا يوجد نظامٌ يضبط العلاقة بين الإدارتين. كما تمت المطالبة بتسمية المسؤول التركيّ في المدرسة، هل هو منسّقٌ أم مشرفٌ أم مدير؟ ومن ثمّ تحديد المهام والواجبات. كما تمّ التطرّق إلى الدقة في وضع معايير لاختيار الإدارات الكفء.
ثم نوقش وضع المدارس الخاصّة وتسلّط الإدارات وأصحابها وتعيينهم دون النظر إلى مؤهلاتهم، وتمّت المطالبة بوضع هذه المدارس تحت رقابةٍ ماليةٍ نظامية.
أما بالنسبة إلى وضع المعلم فقد نوقش من جوانب عدّة، منها: عدم تناسب الراتب مع الوضع المعيشيّ والحياة اليومية، كما تمّت المطالبة بحمايته من الفصل التعسفيّ من قبل الإدارات والمشرف التركيّ، والمطالبة بصدور تعييناتٍ في بداية كلّ عامٍ دراسيٍّ تراعى فيها منطقة سكن المعلم بناء على طلبٍ يتقدم به خلال العطلة الصيفية، ومطالبة اليونيسيف بتقديم أجرٍ يساوي -على الأقلّ- الحد الأدنى من راتب المعلم في تركيا، ودفع الراتب في بداية الشهر وعدم تأخيره إلى وقتٍ متأخرٍ منه.
المعلم في المدارس السورية كالذي (بلع الموس على الحدين) وخاف من رفع صوته بالشكوى خوفاً من حرمانه من المنحة، مصدر رزقه الوحيد، وقد فقده مع بدء عطلة الصيف مع بقية راتب المدرسة، لتبدأ محنة العطلة غير المأجورة والبحث في معامل إسطنبول عن شواغر تليق بالمعلّم، كالعتالة وقصّ الأحجار والأخشاب والأقمشة ومعامل البلاستيك!
.
.
مواد شبيهة :
ــ التعليم في تركيا: تسرّبٌ وتراجعٌ في المستوى، ومنظماتٌ دوليةٌ تدقّ ناقوس الخطر !
ــ استمرار عجلة التعليم في إدلب رغم كلّ المعوقات