مجلة «صور» تحاور الخبير الاقتصادي الدكتور عارف دليلة
تدار السوق النقدية بطريقة "مافيوية" مخالفة للمنطق الاقتصادي،
واستخدام المركزي كأداة في يد قوى ـتتلاعب في السوق و تشليح المواطنين اموالهم.
*حاوره: كمال شيخو
الدكتور عارف دليلة: من مواليد مدينة اللاذقية عام 1943 حصل على الدكتوراه بالاقتصاد من جامعة موسكو. وترأس قسم الاقتصاد حتىّ عام ١٩٨١، انتقل بعدها للعمل خبيراً اقتصادياً لدى المعهد العربي للتخطيط في الكويت ، ثم مستشاراً اقتصادياً لدى وزارة التجارة والصناعة الكويتية، ليعود بعدها أستاذاً بكلية الاقتصاد لدى جامعة دمشق وتولى عمادة الكلية بين عامي ١٩٨٨- ١٩٨٩ .
صرفَ عن الخدمة في 28 آذار (مارس) 1998 ، بقرار صادر من رئاسة مجلس الوزراء؛ على إثر محاضرة ألقاها بدعوة من اتحاد الكتاب السوريين في مقره بدمشق واعتقل في 9 أيلول (سبتمبر) 2001 ، بعد إلقائه محاضرة بعنوان ( الاقتصاد السوري –مشكلات وحلول) في منتدى الأتاسي.
جاء اعتقاله على خلفية محاضراته وندواته المستمرة ضد تصاعد الفساد الاقتصادي في البلاد، وكان من بين أبرز الوجوه التي تحضر وتحاضر في ندوات «ربيع دمشق » الداعية إلى دمقرطة النظام السياسي في سوريا. ليحكم عليه بالسجن لمدة عشرة سنوات بتهمة «محاولة تغيير الدستور والنظام بالقوة، وتقويض همة الأمة في زمن الحرب » أُطلق سراحه بعد مطالبات كثيرة ، بسبب تدهور خطير في أوضاعه الصحية.
وفي ٣٠ حزيران (يونيو) ٢٠١١ شارك مع مجموعة من الشخصيات والأحزاب المعارضة بتأسيس (هيئة التنسيق للتغيير الوطني الديمقراطي).
بكم تقدر حجم الخسائر التي طالت الاقتصاد السوري؟
بحسب تقديري تتراوح ما بين خمسة إلى عشرة أضعاف الدخل القومي السنوي لعام 2010، واستنزاف 40-50 سنة قادمة فقط للعودة إلى الحياة، دون تعويض الخسائر المادية والإنسانية في عالم لم يعد فيه من يمد يدّ العون بمشروع مارشال جديد، كما فعلت الولايات المتحدة مع أوروبا وبالأخص منها (ألمانيا) بعد الحرب العالمية الثانية، بل على العكس، في ظل استمرار العقوبات والحصار الدولي وفي ظروف استمرار الفساد وهدر الموارد والفرص، أياً كان النظام القادم، فإني لا أرى في هذه التخمينات أي غضاضة أو مبالغة.
يضاف إلى كل ذلك فقدان المكانة الجيوسياسية لسورية كأهم عقدة اتصال وتواصل بين الشرق والغرب. وبين أهم مخزون للطاقة في العالم وأهم أسواق التصريف، ناهيك عن مخزون القيمة الأثرية والتاريخية المهدورة والمسروقة والمدمرة وهي غير قابلة للقياس.
والخوف ألّا يتوقف الصراع والتدمير والقتل في القريب العاجل، بل أن تستمر الكلمة والقرار في أيدي حملة السلاح وداعميهم في الداخل والخارج إلى أجل غير معروف، عندها لا قيمة أو مكانة لأي تقدير.
انهارت الليرة السورية إلى ادنى مستوياتها، وبحسب تقديرات غير رسمية فقدت أكثر من 90 بالمئة من قيمتها، رغم المحاولات التي بذلتها الحكومة والبنك المركزي لدعم العملة؟
من المثير للتساؤل أن يصدر البنك المركزي قراراً ملزماً للمصارف وشركات الصرافة أن تشتري مليون دولار من البنك المركزي بسعر (620) ليرة للدولار عندما كان يباع في السوق بأقل من خمسمائة ليرة، وذلك تحت التهديد بإغلاق المكاتب التي لا تنفذ هذا القرار، وقد لوحظ بعد أن باع المركزي هذه الدولارات بهذا السعر المرتفع المحدد إدارياً عادت أسعار صرف الدولار في السوق إلى سعرها قبل فرض هذا السعر الإجباري المرتفع للدوار أي إلى أقل من (500) ليرة.
وهذا مثال واضح على إدارة السوق النقدية بطريقة "مافيوية" مخالفة للمنطق الاقتصادي، واستخدام المركزي كأداة في يد هذه القوى لـتتلاعب في السوق وبالتالي تشليح المواطنين أموالهم الخاصة لتكوين ثروات خيالية في حساباتهم. هؤلاء الذين هم مسؤولون بالدرجة الأولى عن تدني القيمة الشرائية لليرة السورية، وعن نهب المواطنين والدولة. الحّري بالسلطة أن تتوجه إلى هذه الشريحة لوقف طرق الإثراء غير المشروعة التي يكونون المليارات من خلالها، وإعادة الحقوق المنهوبة لأصحابها لتمكينهم من توفير الحد الأدنى للمعيشة، بعد أن بلغت نسبة الفقر في سوريا 75 بالمئة وهي المستوى الأعلى بالعالم.
صنفت (صور) في عددها السابق الاقتصاد السوري بانه "اقتصاد عسكرياتي" تتم إدارته من قبل العسكر، سواء في منطقة سيطرة النظام أم في المناطق الخارجة عن سيطرته، ما هو رأيك في هذا التصنيف؟
في سوريا الآن ما يشبه الاقتصاد الحربي الذي لا يمكن الركون فيه على قوى السوق (العرض والطلب) في تخصيص الموارد وتحديد الكميات والأسعار، وحتىّ القانون الدولي يحّمل سلطات الأمر الواقع "المحتلة" المسؤولية عن حياة السكان المدنيين الواقعين تحت احتلالها، لأنّ الهجوم الأساسي لتلك السلطات يتركز على ظروف حياة الناس المعيشية، بدءاً بتدمير المسكن الذي يمثل جنى عمرهم، إلى تدمير المؤسسات التي توفر حاجاتهم الغذائية والصحية والتعليمية، إلى تقويض مقومات العملية الإنتاجية والتسويقية للحياة الاقتصادية على المستوى المحلّي والمجتمعي.
لذا يجب على القوى المهيمنة الفعلية أن تضع توفير احتياجات السكان المعيشية في مناطقها بالدرجة الاولى من الأهمية، حتىّ يتوقف إطلاق النار وتنفتح كل أطراف البلاد على بعضها وتزول الحدود المصطنعة فيما بينها.
كنت إحدى الشخصيات التي شاركت باجتماع موسكو 2 الذي انعقد في بداية آذار (مارس) 2015، الذي بحث بشكل من التفصيل الشؤون الإنسانية والمعيشية للمدنيين بالمناطق المحاصرة، لماذا لم يتفق السوريون؟، وأي جهة تحمل المسؤولية؟
بعد أن وافق جميع السوريين الذين التقوا في موسكو ٢، المرسلين من الداخل والقادمين من مختلف بلدان الشتات، ودون أي تحفظ أو اعتراض، على ورقة الشؤون الإنسانية "إجراءات بناء الثقة" بعد عمل يومين كاملين، وهو أول اتفاق للسوريين على شيء ذي قيمة منذ اندلاع الصراع المسلح، جاء الوفد الحكومي الرسمي برئاسة بشار الجعفري وبأوامر من دمشق، ليرفض كل كلمة كتبت في الاتفاق وضرب بعرض الحائط نص الاتفاق، وليضع على الطاولة بند واحد "التعاون على تصفية الاٍرهاب" كمهمة وحيدة أمام السوريين، والأنكى من ذلك أن كل ما جرى رفضه بعنجهية جوفاء من قبل الوفد الحكومي؛ جاءت منزلة بقرار مجلس الأمن والذي حّمل الرقم ٢٢٥٤، وتوصيفها بأنها "حقوق غير قابلة للتفاوض".
لقاءات موسكو كانت مقدمة للبدء بمحادثات جنيف 3 السياسية، والتي كّنا نتمنى أن تبدأ من مقدمات توافق إيجابية سورية -سورية، مع العلم أن جميع المشاركين في موسكو2 دون استثناء القادمين من الداخل والخارج، وبدون أي اعتراض أو تحفظ وافقوا على الورقة.
تسعى الأمم المتحدة ومن خلال مبعوثها ستيفان دي ميستورا وضع حد للحرب المستعرة في سوريا، وعقدت عدة جولات من محادثات السلام في جنيف لكن لم يكتب لها النجاح. برايك ما هي أبرز التحديات والعقبات التي تحّول دون تحقيق اختراق يذكر؟
رسمت الأمم المتحدة خطة طريق للحل السياسي تبدأ بإنشاء مجلس حكم انتقالي، يشارك فيه ممثلون عن السلطة وعن المعارضة وعن المجتمع المدني-شخصيات وطنية- كامل الصلاحيات لوقف الصراع المسلح وحل المشكلات الإنسانية.
ثم الانتقال إلى إعادة تشكيل المؤسستين العسكرية والأمنية وتخضعان لتنفيذ المرحلة الانتقالية في المواعيد المرسومة لها دون تدخل. تبدأ بوضع دستور أو إعلان دستوري مؤقت لإدارة البلد خلال هذه المرحلة، وتنتهي بالاستفتاء على دستور دائم يحددّ شكّل النظام السياسي ومؤسساته والعلاقة بينها وإنشاء قانون انتخابات تجري على أساسه الانتخابات التشريعية، والرئاسية وصولاً الى إنشاء المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية والاعلامية الجديدة.
هذا مجرد تصور أولي عن مسار المرحلة الانتقالية نحّو بناء النظام الديمقراطي الجديد لدولة قانون تعيد بناء سوريا دولة موحدة أرضا وشعباً. ولكن تبدو خطة الطريق الأولية أعلاه حلماً طوباوياً أمام استمرار التشظي والتدمير والقتل والتهجير وتزايد استشراس جميع الاطراف المتحّاربة الداخلية منها والخارجية على الأراضي السورية؛ من هنا يبرز السؤال عن قدرة الموفد الدولي دي ميستورا المكلف بالتوصل إلى حل سياسي للكارثة السورية.
طول الفترة السابقة لم يحقق المبعوث الأممي أكثر من الوصول إلى نقطة البداية التي أعلنها الاخضر الابراهيمي، والأخير حاول جمع السوريين المتحاربين ليوقفوا العسكرة ويعودوا إلى السياسة، حتى يئس واستقال نزولاً عند إصرارهم على الاستمرار في تنفيذ رغبات أولياء نعمتهم.
مع قناعة عامة بأنّ كل الأطراف المسلحة المتصارعة تفتقد إلى الرؤية السياسية، وليس لديها غير فكرة واحدة وهي الانتصار العسكري على الطرف الآخر، مع تمسك كل طرف بصورته للدولة وشكل نظامها السياسي وهي نقيضة للصورة الخارجية التي يحملها الطرف الآخخر ، لكّنها متطابقة معها في الجوهر.
في حال فشل دي ميستورا وانهيار المفاوضات؛ برأيك ما المطلوب لوضع حد لهذا الصراع؟
ما تحتاجه سوريا للخروج من "نكبتها العظيمة" هو أن يضع أصحاب الأنا "أناهم " عند الباب، قبل الولوج إلى غرفة الاجتماع والجلوس على الطاولة. وأن يغفلوا أسماءهم ويخرجوا من جلودهم ويضعوا اسماً واحداً وسط الطاولة وهو "سوريا". مع لوحة أمام كل واحد منهم تحمل كلمة "سوري" فقط، وأن يكون الباب مفتوحاً لمشاركة كل إنسان تنطبق عليه هذه التسمية دون احتكار أو استئثار أو إقصاء، فالدعوة التي أطلقتها ومازالت أكررها منذ أكثر من أربع سنوات، عقد مؤتمر سوري وطني عام ليكون الحل بيدّ السوريين.