كلام في البكاء
*نبيل الملحم
من حقنا أن يعترينا الرعب ونحن نسأل:
- أين رجالات الدولة؟
لا نبحث عمن هم بقامات شارل ديغول، ولا عمن هم بحجم ونستون تشرشل أو نلسون مانديلا.. لا نطمح حتى إلى أن يكون لنا مهاتير محمد، كل ما أردناه هو أن نخرج من الأدغال، هذا أقصى ما كنا نطلبه. وكانت النتائج أن رُسمت الدولة على حجم مصطفى طلاس بنياشينه الألف، بعد حروبه الألف المنتصرة، وعبد القادر قدورة بسبحته وفصاحته، ورجال ظلٍّ يتقنون سبي الرغيف من أفواه بشرٍ يعوزهم الرغيف.. ووحده كان (الشاهق) بين بشرٍ قصار، ولن يكون شاهقاً بغير قصرهم.
هي حكمة "الأمير" ميكافيلي: "كلما نزل رملٌ أكثر من ساعة حياتنا الرملية نستطيع أن نرى من خلالها أكثر". كان عليه أن يخلي حياتنا من الزمن، وكان أن أخلاها كي يرانا من زجاجته.. زجاجته وحده، فصار الإله بين بشرٍ يُبجّلون عبوديتهم، وصار اسمه:
هو الأمر كذلك، بتنا بلا ساعةٍ سوى تلك الساعات المائعة. ولو كان دالي بيننا لما تردد في القول:
- أنا أرسمكم أيها السادة.
سيقول "السادة" لتهذيبٍ فيه، لا لأننا نلنا شرف السيادة. فالجامعات خلت من الوازنين وقد راحوا غيلةً أو انتهاكاً، والقضاء بات "النيل من عزيمة الأمة"، والجيش تحوّل إلى خدم منازل في الشمس المحرقة ورجال عصاباتٍ يأخذون كلّ الوقت لاستراحة المحارب (الذي لم يحارب). وبات السؤال اللاحق بعد سؤال: أين رجال الدولة:
- أين الدولة؟
كلها مقدماتٌ لإعلاء شأن الإمارة والحط من شأننا فانحططنا، وأيّ انحطاطٍ يساوي هذا الذي نحن فيه حيث الثوار على موائد السفارات، والبلاد سائبةٌ سوى من حملة السواطير، مرّةً بربطات العنق، وثانيةً بالعمامة والجلابيب المقصوصة. وفي كلّ مرّةٍ يترعرع "الإرهابيّ" فينا، حتى تغدو الخيانة مشروعة، والزوجات منتهكات، وذبح البشر لا يعني أكثر من ثرثراتٍ يتقيؤها كتّاب مواقع التواصل الاجتماعي وقد مهروها بتوقيع: "شاعر".
كانت تلك المقدمات عصيةً على إنتاج سوى هذه النتائج، فالعنزة لا تخلف مهراً، والخنزيرة لا تنجب وردة، وها نحن نتسول الوقت:
- سيدي الوقت، هات ما عندك.
نعرف أننا لن نكون سويسرا الشرق، ونعرف أن أفغانستان باتت أقرب إلينا من حبل وريدنا، وما زلنا نحبل بالكلام.. تحوّلنا إلى كلام.. مجرّد كلام.. ناس تحكي.. لتكون شريكةً في صناعة الانهيار.
لم لا؟ الانهيار كذلك صناعة، وقد تكون الأثقل من بين الصناعات، وقد فزنا بـ"ثورة الكلام"، مع أنها مكلفةٌ بما لا يوازي ولا يساوي أياً من الثورات السابقة عليها.. هي أكثر تكلفةً من إطلاق الآلة البخارية.. هي أعلى دماً من إنجاز ثورة الاتصالات، وهي الثورة الوحيدة التي ترتد بالحياة إلى ما دون الحياة حيث ترتدي الجثث وجوهنا، فنصدّق أننا على قيد الحياة، فلا نحن أحياء، وتعوزنا همّة الانتحار.
كتبت بنتٌ كلماتٍ سريعةً فتمنت رصاصةً تأخذها إلى حيث شأنٍ آخر، ومكانٍ آخر، وزمانٍ غير زمان.
بكيت..
أنا رجلٌ يبكي.. من قال إن الرجال لا يبكون؟
بكيت، فقط من أجل فكّ ذلك الخلط بين البشر والماعز.. من أجل أن أتيقن أن بي ما هو (على قيد الحياة).. وحده البكاء يمنحني هذا الدليل.
بكيت، من أجل أن أعيد لتلك الساعة شيئاً من رمال الوقت.
- أنا ابن الرمال الخالية من الوقت.
ابن الضغينة.. حين أكون في فراغ الوقت أكون فيها.
أعرفتم لماذا يكرهنا الله؟
.
.