رؤساء الغرف الزراعيّة في سوريا ليست لهم علاقةٌ بالزراعة
*م. سامر كعكرلي
نشرت صحيفة تشرين، التابعة للنظام السوريّ، في عددها الصادر بتاريخ 17/5/2016، مقالاً تحت عنوان: ((غرف الزراعة.. واقعٌ صعبٌ وحلولٌ مفقودة!.. الزراعة: نشكّك بأرقام الغرف؟؟ ومشاريعها لا ترقى إلى المستوى المطلوب)).
حاولت الصحيفة في مقالها أن تنقل بعض التجاذب بين الغرف الزراعية السورية، التي يمثلها اتحاد الغرف الزراعية السورية، وتمثل القطاع الخاصّ الزراعيّ في سوريا، وبين الجهات الحكومية، ممثلةً بوزارة الزراعة والإصلاح الزراعيّ التي تعدّ المسؤولة عن الزراعة السورية بشقيها النباتيّ والحيوانيّ.
وصحيحٌ أن مؤسّسات النظام السوريّ، منذ استلام البعث مقاليد السلطة، قد تعوّدت على تقاذف التهم بهدف تمييع القضايا المصيرية التي تهمّ معيشة المواطن؛ إلا أن ذلك لا يعني بحالٍ من الأحوال أن يكون اتحاد الغرف الزراعية السورية مصيباً في نقده الحكومة، لأن هذا الاتحاد -في حقيقة الأمر- ذراعٌ من أذرع النظام ولا يمكنه بأيّ شكلٍ أن يكون إحدى منظمات المجتمع المدنيّ التي من مهامها تقديم يد العون لشريحةٍ مهمةٍ من شرائح المجتمع، إضافةً إلى مراقبة أداء الحكومة.
وبعد أن كانت سوريا قبل نظام البعث رائدةً في العمل المدنيّ، وبعد أن حصلت دمشق على شرف أنها أول مدينةٍ عربيةٍ تُنشئ غرفة زراعة، في عام 1892، تحت اسم غرفة تجارة وزراعة دمشق، ثم انفصلت غرفة زراعة دمشق لتصبح غرفةً مستقلةً عام 1927، وتأسست غرفة زراعة حلب عام 1936؛ ما الذي حوّل هذه المنظمات ذات الطابع المدنيّ لتصبح ذراعاً من أذرع النظام السوريّ؟
قبل الخوض في جواب هذا السؤال يجب تسليط الضوء على القطاع الزراعيّ الخاصّ في سوريا، إذ تتصف الزراعة بأنها تقوم على أكتاف القطاع الخاصّ منذ القدم، ولم تستطع سلطات البعث التي رفعت شعارات الاشتراكية أن تحوّل هذا القطاع إلى قطاعٍ زراعيٍّ عام. وحتى القطاع التعاونيّ، الذي يعدّ شكلاً من أشكال القطاع العام في الدول الشمولية، لم يستطع أن يزيح القطاع الخاصّ الزراعيّ من صدارة المساهمة في القطاع الزراعيّ السوريّ. ولعل لغة الأرقام أصدق دليلٍ على ذلك.
ففي الإحصاءات الزراعية التي تصدرها وزارة الزراعة والإصلاح الزراعيّ التابعة للنظام نجد -على سبيل المثال لا الحصر- أنه على الرغم من رغبة النظام في تحويل القطاع الزراعيّ إلى قطاعٍ تعاونيّ، بتوزيعه أراضي أملاك الدولة على الجمعيات التعاونية، إلا أن نسبة ملكية القطاع الخاصّ للأراضي الزراعية بلغت 58.1% في عام 2014، يقابلها 41.8% للقطاع التعاونيّ. أما بالنسبة إلى الإنتاج فكارثة دعم القطاع التعاونيّ من قبل النظام جليةٌ جداً خلال سنوات الحرب، فعلى الرغم من عدم انخفاض مساحة الأراضي الزراعية الممنوحة للقطاع التعاونيّ في عام 2014 مقارنةً بعام 2010، إلا أن إنتاج القمح (بنوعيه القاسي والطري) قد انخفض في القطاع التعاونيّ بشكلٍ كبيرٍ جداً مقارنةً بالقطاع الخاصّ، إذ بلغت نسبة إنتاج القطاع التعاونيّ للقمح 29.4% في عام 2014، تقابلها في عام 2010 (قبل الثورة) نسبة 42.5%، بينما بلغت مساهمة القطاع الخاص في إنتاج القمح 70.6% في عام 2014، و57.5% في عام 2010، وينعكس ذلك على كافة المنتجات الزراعية. ويدل هذا الأمر على عدم تمسك القطاع التعاونيّ بأراضيه مقارنةً بالقطاع الخاصّ، فعلى الرغم من قذائف الموت ما زال المزارعون السوريون يتمسكون بأرضهم لأنها مصدر رزقهم.
وبالعودة إلى سؤالنا حول أسباب الانهيار المهنيّ والأخلاقيّ لممثلي القطاع الزراعيّ الخاصّ، والممثلين في الغرف الزراعية والاتحاد العام للغرف الزراعية، على الرغم من المساهمة الكبيرة لهذا القطاع في دعم الزراعة، وعلى الرغم أيضاً من التاريخ العريق لتلك الغرف في دعم الزراعة؛ فإن الجواب المنطقيّ الوحيد لهذا الانحدار هو قيام نظام البعث ونظام الأسد الأب بتحويل تلك المنظمات الزراعية إلى سيفٍ مسلطٍ على رقبة المزارعين، وتهميشها والسيطرة عليها عبر التحكم في انتخابات مجالسها ومكاتبها، بما أن قانون الغرف الزراعية رقم 129 لعام 1958 حدّد أن مجلس الغرف الزراعية في المحافظات، المكوّن من اثني عشر عضواً، يتألف من ثمانيةٍ ينتخبهم المُنتسبون إلى الغرفة والأربعة الباقون يعيّنهم وزير الزراعة والإصلاح الزراعيّ. وكان هدف المُشرّع، حين صدور القانون عام 1958، من إعطاء صلاحية تعيين ثلث أعضاء مجلس الغرفة لوزير الزراعة، هو إحداث توازنٍ في مجلس الغرفة بين النشاطات الزراعية المختلفة، ليكون مجلس الغرفة ممثلاً حقيقياً لكافة الأنشطة الزراعية من دواجن إلى أبقارٍ إلى زراعة محاصيل... إلخ. إلا أن الصورة اختلفت عما أراده المُشرّع في ظلّ نظام الأسد، فأصبح ترشيح أعضاء مجالس الغرف المعيّنين يأتي من أمناء فروع حزب البعث، وبتزكيةٍ من الأفرع الأمنية في المحافظات، وعن طريق القيادة القطرية، وعلى وزير الزراعة والإصلاح الزراعيّ الالتزام بتلك الترشيحات دون النظر إلى كفاءتهم.
أما بالنسبة إلى الأعضاء الثمانية المُنتخَبين من قبل المزارعين المُنتسبين إلى الغرفة فكانت الجهات الحزبية والأمنية (كما في كافة الانتخابات في ظلّ حكم الأسد) هي المشرفة على تلك الانتخابات. فكان من غير الممكن انتخاب عضو مجلس أيّ غرفةٍ زراعيةٍ إلا إن ثبت ولاؤه، وكذلك هو الحال في انتخاب مكاتب الغرف المكوّن من خمسة أعضاء يختارهم المجلس. وينصّ قانون الغرف على عدم جواز حضور انتخابات مكاتب الغرف سوى لأعضاء المجلس (المُنتخَبين والمُعيّنين) وممثل وزير الزراعة والإصلاح الزراعيّ، ولكن في حقيقة الأمر لم تجر أيّ انتخابات مكاتب الغرف الزراعية إلا بحضور ممثل فرع الحزب الذي هو بالضرورة ممثل الجهات الأمنية التي همها وصول الموالي لنظام الحكم ولمصالح الجهات الأمنية في المحافظة، سواء أكان كفؤاً أم غير كفء.
ووفق هذه التركيبة ابتليت الغرف الزراعية السورية بأشخاصٍ آخر همهم الزراعة، وكل همهم مصالحهم الشخصية. والمثير للسخرية أن غالبية رؤساء الغرف الزراعية في كافة المحافظات ليست لهم علاقةٌ بالزراعة لا من قريبٍ ولا من بعيد، وأن مجرد امتلاكهم لقطعة أرضٍ، بغضّ النظر عن مساحتها أو عن استثمارها، كان كافياً ليصبحوا رؤساء تلك الغرف، وطبعاً بمباركة الأجهزة الأمنية.
وحتى عندما أُحدث اتحاد الغرف الزراعية السورية، بموجب قرار وزير الزراعة والإصلاح الزراعيّ رقم 27/ت لعام 1990، وكان الهدف المعلن منه توحيد كلمة الغرف الزراعية في المحافظات تحت رايةٍ واحدةٍ هي راية الاتحاد؛ كان الهدف الحقيقيّ لإحداثه تشتيت كلمة الغرف الزراعية لسهولة السيطرة عليها، وذلك بضمان وصول أشخاصٍ إلى مجلس الاتحاد من أصحاب الولاءات لا الكفاءات، ولذلك سُمّي وزير الزراعة والإصلاح الزراعيّ رئيساً لمجلس إدارة الاتحاد، المكوّن من ثلاثة عشر عضواً يمثلون المحافظات السورية، ومُنح الوزير صلاحية حلّ مجلس الاتحاد كيفما شاء.
أدّت تلك الآلية في تشكيل الغرف الزراعية إلى ابتعاد المزارعين الحقيقيين عن مراكز اتخاذ القرار الزراعيّ، وتحوّل عمل الغرف الزراعية كعمل أيّ مؤسّسةٍ حكوميةٍ تخضع لشروط الولاء للنظام. وعلى الرغم من ذلك فإن التجاذب الصوريّ بين تلك الغرف واتحادها ومؤسّسات الدولة ما هو سوى تقاذف التهم والمسؤولية عن انهيار القطاع الزراعيّ ليس أثناء الثورة فحسب بل حتى قبلها. ويؤدي هذا التقاذف حتماً إلى تمييع أيّ قضيةٍ زراعيةٍ تنعكس على معيشة المزراعين.
.
.