عن المزاح و"قيادات بلد"
*نبيل الملحم
هؤلاء الذين يرسمون:أفكارنا، يصيغون مزاجنا، وينوبون عنّا في رسم مصائرنا وخرائطنا، هؤلاء ماضي إدارة البلاد، حاضرها، وفوق ذلك هم ركّاب مستقبلها؟
و.. مجازفة اصطلاحية نطلق عليهم سلطة / معارضة.
- هي مزحة!!
غير أنها من المزاح الدامي إن شئت، المزاح القاتل، ذاك المزاح الذي يكشف عن المقتول فينا (ربما لإعادة قتله)، وكنت أنا من أطلق المزحة، والمزحة حملت عنوان:"قيادات وطن"، ونُشرت على الصفحات الزرقاء من أيّامنا الصفراء وأعني "الفيس بوك".
في يوم واحد، عثرت على قرابة (40) شخصية سورية من نظام ومعارضة "قوميون وإسلاميون، ليبراليون وماركسيون".. أربعون، كانوا مساحة شاسعة للسخرية، وكان أيّ منهم لايتجاوز كلمات قليلة للتعريف به.. وكان سؤالي:
- هل أنا بالغ الفطنة، الذكاء، الموهبة حتى أتجول في مساحات (المسخور منهم) بسهولة تتجاوز سهولة إعداد فنجان قهوة، أو حشو لفافة تبغ مثلاً؟ أم أن المسخور منهم، مسخرة إلى الدرجة التي لا تطالب موهوباً بأن يُعمِل ذاكرته في رسم المفارقة؟
بما أنني أعرف نفسي، وبما أنني لست مخدوعاً بي، أعرف أنني ذكي بما ينبغي، وفطين بما يجب، وخبير بحدود ما يلزم، غير أن مجمل مواهبي لاتساوي فانوس أديسون ولا طاسة أرخميدس.. وهذا يعني في محصلته، أن المسخور منهم، متوفرون بما يسمح لكائن طبيعي مثلي أن يتناولهم بالسخرية دون أن ينال منهم، لأنهم هم من شرّعوا أبوابهم ليكونوا هكذا، مادة للسخرية.
ذات يوم، التقيت رسام الكاريكاتير الفلسطيني الراحل ناجي العلي، وكان صاحب كاريكاتير يومي في السفير اللبنانية ، وبنوع من الإعجاب الفارط سألته، كيف له أن يبتكر مع كل يوم كاريكاتيراً جديداً.. فأجابني بما معناه:"نحن في عالم يوفر ما يفيض عن حاجة رسام ساخر من السخرية".
هو الأمر كذلك، ولكننا اليوم في مقتلة، مع مجزرة تتنقل من ركام بيت إلى ركام رجل، إلى ركام زورق، إلى مدن طاردة، ما يعني أننا لسنا في مساحات الضحك، ومع ذلك ثمة من يقتلنا ضحكاً.
-ضحكاً؟ نعم.
- ولكن أين؟
أعملوا ذاكراتكم إن شئتوا، وتعالوا نختبر الأسئلة معاً:
- كم نجّاراً تعرفتم إليه شكّل بالنسبة إليكم مادة للسخرية؟ كم بلاّطاً ؟ حدّاداً ؟ مزارعاً ؟ راعيَ غنم؟
"ترزيّاً" ؟ يمكنه أن يكون مادة للسخرية؟
قريتي كانت بالغة الصغر.. كان فيها ربما رجل، ثلاثة رجال، بجدران واطئة يمكن القفز فوقها ليكونوا مادة للسخرية.. مادة للسخرية؟ نعم، ولكن ليس ثمة قاتل من بينهم.
السياسيون وحدهم يتشكلون كأغلبية مضحكة، و (قاتلة).. هو الأمر كذلك، وهم مضحكون، مع أن سكاكينهم دامية، فهم كما قلنا "صانعو الخرائط، الحروب، التفاوض، وربما هم بائعو السلاّح، مورّدو الموت، مصدّرو المهاجرين"، ولا أجازف إن قلت وهم القوادة أيضاً.
إذا كان استخلاصي هذا صحيحاً، وهو صحيح وباليقين، هذا يعني أن صنّاع مصائرنا، هم قتلتنا، ما يستدعي الذهاب نحو وجع آخر يلخصّه سؤال:
- كيف لنا أن نصنع مصائرنا دون شراكة ممن نسخر منهم من الفاتكين بدمنا؟ كيف لنا أن نمتنع عن الصراخ (هذا يمثلنا)؟
مؤتمرات، ملتقيات، كواليس، شاشات، يافطات طرقية، لبشر جلّ إنجازاتهم أنهم أبكونا على الدوام وأضحكونا للحظة واحدة.
لهذا :
صانع السجّاد يمثلني.. زارع التوت يمثلني.. نجّار وحدّاد وترزي وبلاّط ومعماري يمثلونني، وفوقهم كلهم، ورافع رايتهم، تلك المُرضِعة الصامتة التي تُدر حليبها من لهاث قلبها.. لهذا بوسعي أن أصرخ وبملء صوتي:
- ياكلاب إدارة مصير البلد.. ارحلوا من دمي.. دمي يمثلني و"أمّي" كذلك.
.
.