هدنة
شراسة الصمت
*شيرين صالح
رائحة الردى ترشح في الجوار، مصير يشقّه جرفٌ متحجّر، مشهد يصقلُ اختراع الموت بشكل يدثّر كل ما هو حيّ على هيئة تماثيل من غبار. في لحظة ما استوقف القتل بينهم، لكنّ الأوان كان قد اغتال الجميع، لم يحظَ أحد بدقيقة من حبرها المتطهرة من آثامها.
كان الناس يرسمون أحلامهم بريشة تحضن وتحمل لغات تُدلقها على صفحات المخيّلة بأشكال وألوان متنوعة، توارى الجميع بصورة أسهل مما كان يتوقّعه الجلاّد، الذي لم يعِ علاقته بضحاياه بعد، فيقيس منظار أهدافه من زوايا الأقبية وأدراج المباني، كمنجل يحصد كروماً / أنقاضاً، ما من أحد هناك ينبسّ ببنت شفة، أطيافهم صور انعتقت عنوة عن فيزيائية الزمن المؤكسد بأجواء مخنوقة، شراسة الصمت تخمد صراخهم المثقلَ بقصص تُروى خارج آفاق الانتباه والتوقع، كانت ثمة بيوت جميلة، يضيئها القمر، ككحل ينفذ إلى عينيّ الناظر بنعومة متناهية، كنظرات الملائكة، بيوت باتت جدرانها خواطر مؤلمة تستوقف الذاكرة، والأسقف غمام.
عصفور يتهاوى في شِباك دخان كثيف، ابتلع زرقة السماء، كظلّ ضخم يتلقّف بدن طريدته الغضّة، أشجار شاهقة تسقطُ إثر بعض، لتنثر بحطامها رماداً يتطاير منها هشيماً متمرداً، عجز الربيع عن لملمة فتات تيجان الياسمين من بين ذرّات غبار الذاكرة، وعن استعادة رائحة التراب الرطبة والمطرّزة بثقوب اﻷرَضَة التي باتت مشوية.
ألم يكن ثمة متسع وقت فيعجّل من تلك الهدنة؟ لربما عدل الجلاد عن آثامه فيجحم قليلاً، ويطوي آلاماً لا يمكن للدهر طيّها في النسيان. هدنة تنفض ربيعاً في ثنايا الخريف، قد يتردّد في خلق نسيم جديد، يستحمّ برائحة الماضي.
الأماكن عذراء، الناس أطياف هزمت الموت وخانت الحياة، بعد أن جفّ الفوز والدم معاً.