info@suwar-magazine.org

لن أكون رماداً.. مجموعة "الرّهان" القصصية

لن أكون رماداً.. مجموعة "الرّهان" القصصية
Whatsapp
Facebook Share

 

*خُناف كانو

 

القصّة القصيرة نوعٌ أدبي له ميّزاته الخاصّة؛ إذ تتأرجح بين الرّواية والقصيدة، آخذةً لغةً شعريّةً كالقصيدة وحبكةً تشبه الرّواية. ورغم تعدّد أنواع القصّة المتمثلة في القصّة الطويلة والقصيرة والقصيرة جدّاً مؤخراً، فإنّ القصّة القصيرة بقيتْ الأقوى والأكثر قراءةً وكتابةً وتأثيراً في السّاحة الأدبيّة. والقصّة القصيرة الكرديّة موجودةٌ مثل القصيدة، فقد حمل الكرد قصصهم عن طريق الرّواية على مرّ الأجيال. والقصّة الكردية الشهيرة "شنكي وبنكي" هي التي تربّى معظمنا في الطفولة عليها، وهي القصّة الفلكلوريّة الأسطوريّة الأكثر تداولاً بين الكرد، يرويها الأجداد للآباء والآباء للأبناء والأبناء للأحفاد. وبحسب المصادر التّاريخية فإنّ ملا محمود بايزيدي (1797) يعدّ أباً للنثر الكردي، فهو مؤلّف كتاب (عادات الأكراد وتقاليدهم)، وهو كتابٌ يبحث في البنية الاجتماعية للأكراد الرحّل، ويتعرّض لمجمل الحالة الكردية البدوية بدقّة الباحث.

 

تحمل القصّة القصيرة أحداثاً واقعيّة، وأبطالها وشخصياتها مرايا لأناسٍ حقيقيين في الواقع، لا سيّما القصّة التي كُتِبَتْ خلال حقبةٍ زمنيّةٍ محدّدةٍ وتحكي عن قصصٍ من الواقع، كفترة الحرب العراقيّة على الكُرد في زمن "صدّام حسين"، وما كانوا يتعرّضون له وقتها، وخاصّةً النّساء الكرديات في جنوب كردستان. هذا ما نراه في المجموعة القصّصية التي تحمل عنوان "الرّهان" للكاتبة سرفراز علي النقشبندي، إذ إنّ هذه المجموعة، التي تتألف من سبع قصصٍ من الأدب الكرديّ في كتابٍ يتكون من 70 صفحة، عن نساءٍ كرديّاتٍ يعانيْنَ من الوحدة ومن الرّجل وأحياناً من بطش النظام العراقيّ الذي قتل أزواجهنّ وأولادهنّ. اللغة التي تستخدمها الكاتبة في صعودٍ وهبوطٍ أشبه بموج البحر، ففي بعض العبارات لغةٌ سهلةٌ بسيطةٌ وواضحة، وفي عباراتٍ أخرى تستخدم لغةً شعريّةً بحتةً تجعل من كلّ جملةٍ صورةً شعريةً مكتوبةً بطريقةٍ نثرية، كهذا المقطع من قصّة الرّهان التي أخذت المجموعة اسمها: "تسأله أن يمسحَ عن فؤادها بعضَ الصّدأ.. كيف.. وكيانها ملغيٌّ حدّ الاختناق، والأيام بحرٌ يلفظُ عمرها في بلادة الإحساس بالأشياء، تغلق مذياع قلبها على مواويله العتيقة وتدخل مع الآخرين في حديثٍ لا تحسّه".

 

كما يبدو الوصف في قصصها كمشهدٍ سينمائيٍّ بأدواتٍ بسيطةٍ ومعانٍ تخترق جدار القلب. وهي تحكي في كلّ قصّةٍ عن نساءٍ معذّباتٍ معنّفاتٍ يسقطنَ من هول الدّمع، ويهرولنَ خلف طيفٍ لا يبتسم. ففي قصّة "اللعنة"، وهي عن مهاجرةٍ لاجئة، واصفةً الاغتراب والبرد الذي يجتاح الغريب الذي لا يصبح أبداً ابناً لهذه البلاد البعيدة والغريبة "عندَ عتبة الباب تتخسّف الذّاكرة، والزّمن عند بوابة الذّهن يتخثّر.. إلى أين أيتها الممسوخة في خطايا الحزن أبداً.. إلى أين.. يذوب السّؤال في ثمالة النحيب ويلتصق بجثة الاغتراب، يدها المقبوضة نحو الباب صخب انعدام النغم في الشريان..".

 

الكرد بأحزانهم وشهدائهم وجبالهم هم أبطال هذه القصص التي كتبت بتواريخ مختلفة، بدءاً من عام 1986 وحتى آخرها عام 2001. القصص مكتوبةٌ في الأصل باللغة الكردية، وقد ترجمتها الكاتبة إلى العربيّة، وهي تفضّل ترجمة أعمالها بنفسها ليصل النّص إلى القارئ بشكله الأصليّ. يكتشف قارئ هذه النّصوص تشابهاً عظيماً بين الأحداث السّياسية في سنوات الثمانينيات والوقت الحاضر، فما تعرّض لهُ كرد العراق في تلك الفترة يتعرّض له الآن الكرد في تركيا وسوريا وإيران، وكأنّ الزمن يصبح أسطوانةً تعيدُ لحنها خلال أكثر من ثلاثين سنة "الكل يتسامر، ولا تزال هي بينها وبين ذاتها سوراً كهربائياً كالذي يطوّق أطفال الكرد في المجتمعات القسرية العائدة للدولة، مسكّنٌ وقتيٌّ إلى حيث يتمُّ دفنهم أحياء ليناموا أبداً دون هدهدة، على دمعتها أن تظلَّ خرساء كالصراخ الأخرس لتلك الأم أمام جثّة ولدها المشنوق في إحدى ساحات مدينة أربيل، إذ لا يجوز النّحيب على الأشرار ساكني الجبال.. هذهِ هي السّنّة المتّبعة عند النّظام..!".

 

تكتب سرفراز بترفٍ وتكثيفٍ شديدين في مخاطبة نفسها، وهي تذكر رموزاً من تاريخ الإنسانية، فتجمع بين قميص النبي يوسف المدمّى ووشاح أمّها، حين التّاريخ يعيد نفسه دائماً في فوضى الحياة والحروب: "إلى يوسف والجبّ وتلاليف القميص المدمّى، وطهارة "زمبيل فروش" بالزندقة توشم.. والحلاج يعتلي سلم المقصلة في كلّ فجر، وأمّي تبحث عن وشاح رأسها المسروق..".

 

للمكان أيضاً وقعه الخاصّ في قصص مجموعة الرّهان، إذ إنّ كلّ شيءٍ في الطبيعة يُذكِّرُ بأمكنة الكاتبة وبطلة القصّة على حدّ سواء، وكأنّ الرّوح تصبح مرآة الذّكرى، والمكان قد زرع جذوره في أرض عين البطلة. المكان شجرٌ لا يشيخ ولا يتغيّر، يمطر الأمكنة الجديدة بماء الشوارع والمدن المدماة من هول الحرب "تبحث هي بين الجثث عن أمهاتٍ كنَّ معها في موسم الحصاد، حينَ طمر الإعصار السّنابل والسيقان، وهبّ ريحٌ أحمق باسم _الأنفال_ قلع أهزوجة الحياة وسمّم ثمار التفاح، لحظاتٌ والنّاس حولها كالأشباح بعيونهم الزّرقاء الملتمعة كعيون قطط مدينة "وان"، اسمي طلسمٌ محنّطٌ في كهفٍ من كهوف "هسن كيف" المغروقة تحت الماء..".

 

صفات بطلات قصص هذه المجموعة متشابهةٌ وقريبةٌ جدّاً من بعضها، وكأنّهنّ كلهنّ امرأةٌ واحدة، هي تارةً أرملةٌ تواجه صحراءَ الحياة، وتارةً مهاجرةٌ تقتفي معنى الانتماء في شوارع البلاد الباردة البعيدة، أو أمٌّ تبحث عن سبعة عناقيد عنبٍ لسبعة أطفال فقدتهم في الحرب، أو حبيبةٌ ضحت بقلبها من أجل الدفاع عن الوطن. كما لم يأتِ اختيار أسماء الأبطال صدفةً بل تمرّداً على التاريخ الذي همّش الكرد، فكانت الأسماء "ديرسم، زوزان، كربوران، ديرين". ففي القصّة التي تحمل عنوان "بنفش"، وهي اسم وردةٍ باللغة الكردية، تتعرّض امرأةٌ وفيّةٌ نقيّةٌ للخيانة من زوجها الذي يدعى "رشو"، وكأنّ الكاتبة تجعل من الأسماء أداةً أخرى للتعبير. فهي تبحثُ باستمرارٍ عن معنى الوجود ومعنى كينونتها كامرأةٍ تجرُّ أذيال حزنٍ مضاعفٍ، لا يرويها المطر والبحر والندى، "ماذا سأفعل في الغد؟ الإحساس بالفجر حيثُ كانَ ينتابُ فؤادي قد مات.. والفارس الذي كنتُ أجهّزُ فرس صيده في الصّباح مرّةً رحل وسقط من على حافة (الأنا) ولم يعد...".

 

سرفراز علي النقشبندي كاتبةٌ وصحافيةٌ كرديةٌ عراقية. وهي مناضلةٌ قاتلت لسنواتٍ ضمن صفوف حزب العمال الكردستاني في الجبال. ولدت في محافظة دهوك في كردستان العراق. من أعمالها المطبوعة:

 

"دليني"، نصوص فلكلورية باللغة الكردية، أربيل 1986

"ئه ز هه بوم تو نه"، مجموعة قصصية باللغة الكردية، أربيل 1989

"لغم في الأحشاء"، رواية باللغة العربية، دمشق 1997

"الرهان"، مجموعة قصصية، برلين 2003

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard