info@suwar-magazine.org

من الضجيج إلى الكلام.. من السجال إلى الحوار

من الضجيج إلى الكلام.. من السجال إلى الحوار
Whatsapp
Facebook Share

  

 *جاد الكريم الجباعي

 

كشفت الأزمة التي تعيشها سوريا منذ عام 2011 أن التعصّب والتطرّف والتحاجز والتفاصل وهدر الإنسانية، وما ينجرُّ عنها من هدر الطاقات والموارد والإمكانات وهدر المؤسّسات وهدر الوطن والمواطنة، من السمات البارزة للحياة الاجتماعية والسياسية. كما كشفت عن انحطاطٍ أخلاقيٍّ مريعٍ ومظاهر نكوصٍ إلى التوحش والهمجية، كالقتل على الهوية، والمجازر الجماعية، والتمثيل بجثث القتلى والرقص على أشلائها، وتدمير المدن والحواضر والأوابد التاريخية والبنى التحتية والمؤسّسات، علاوةً على الخطف والاغتصاب والاعتقال وتعذيب المعتقلين حتى الموت، ومحاصرة المدنيين، وسياسة "الجوع أو الركوع"،.. مما يكشف عن الروابط السببية العميقة بين التعصب والتطرّف والإرهاب من جهةٍ، والانحطاط الأخلاقيّ وكلبية السلطة، على اختلاف مستوياتها، من الجهة المقابلة. ويسمح بافتراض أن الانحطاط الأخلاقيّ وكلبية السلطة، اللذين يغذي كلٌّ منها الآخر، عاملان أساسيان من عوامل إنتاج العنف الماديّ والرمزيّ وتحوله إلى إرهاب. والتعصّب (ومنه العصبية) هو ما يحول دون الإمكانية الجذرية للحوار، وهو الحدّ الفارق بين النشاط الاجتماعيّ التفاصليّ وبين النشاط الاجتماعيّ التواصليّ.

 


لقد أقمنا، في غير هذا المقام، تقابلاً، على التضادّ، بين الضجيج والحوار، هو في واقع الأمر تقابلٌ بين التعصّب، بوصفه أساس التفاصل الاجتماعيّ–السياسيّ والإنسانيّ، وبين الحوار، بوصفه فعلاً تواصلياً أو نشاطاً تواصلياً، اجتماعياً وإنسانياً، أي بين قولٍ بلا فعل، أو "قولٍ على قول" هو مجرّد ضجيج، تتحوّل معه اللغة إلى فخفخةٍ لفظيةٍ وبلاغةٍ جوفاء، يتخللها فحيحٌ ذكوريٌّ وعنترياتٌ أيديولوجية، وبين فعلٍ تواصليٍّ منتجٍ للمعنى والقيمة، لا تنفصل لغته عن أخلاقياته الإنسانية.


ولما كان الحوار تداولاً للحرية، فإنه -في الوقت نفسه- تداولٌ للمعرفة وسعيٌ مشتركٌ إلى تجديدها وتجديد لغتها، وإنتاج حقيقةٍ تواصليةٍ تقيم الحدّ على الوثوقية واليقينية المطمئنتين إلى أن المعرفة تساوي الحقيقة، وإلى أن الرأي المدعم بهاتين الوثوقية واليقينية (الدوغماتيكية) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ فالرأي المستند إلى مقولاتٍ دينيةٍ ونصوصٍ تأسيسيةٍ وفتاوى شرعيةٍ كالرأي المستند إلى مقولات "علمية"، يُرفعان كلاهما إلى مصاف الحقيقة الكلية الناجزة والمطلقة، والخطاب الذي يتأسّس على أيٍّ منهما صالحٌ لكلّ زمانٍ ومكان. 


ثمة وثوقيةٌ يقينيةٌ "عِلمانية" (بكسر العين) وعلموية، وأخرى دينيةٌ / مذهبية، تتعاوران الخطاب الثقافيّ والسياسيّ، وتنتج كلاً منهما أيديولوجيةٌ مغلقةٌ صمّاء مكتفيةٌ بذاتها، وما أكثر ما تتبادلان المواقع. فإن من شأن الوثوقية واليقينية أن تحوّلا التوق إلى وهم، وأن تحوّلا الأخير إلى تعصّب، إذ الوهم والتعصّب صنوان ودعامتان من دعامات الاستبداد. الوثوقية واليقينية تثويان في أساس التعصّب والتطرّف، وتعيدان إنتاجهما في جميع تفاصيل الحياة. لذلك نفترض أن ثمة ارتباطاً وثيقاً وعلاقةً لا تنفصم بين وثوقية الخطاب ويقينيته من جهةٍ وحصرية المصالح من الجهة المقابلة؛ فما يسمّيه الفرد أو الحزب أو الحكم رأيه هو في الحقيقة القناع الأيديولوجيّ لمصلحته المباشرة، وهي مصلحةٌ مشروعةٌ على كلّ حال، ما لم تكن حصرية، تنفي ما يقابلها ويعارضها، ولا ترى فيه سوى عقبةٍ تجب إزالتها، وشرٍّ يجب استئصاله. ومن ثم، فإن الرأي ملازمٌ للمصلحة الشخصية والخاصّة لا ينفكّ عنهما، ما دام التعارض الذي يخترق المجتمع ويلازمه في جميع أطوار نموّه هو التعارض بين الفرد الذي يسعى من أجل تلبية مصالحه وإشباع حاجاته المتطوّرة باستمرارٍ وبين المواطن الذي يتطلع إلى الحرية والانعتاق والعدالة والمساواة، بين ما هو فرديٌّ تضرب جذوره عميقاً في حياة الفرد الطبيعية وما هو نزوعٌ إلى الكلية الاجتماعية والإنسانية في الفرد ذاته أو ذاتها، فليس هناك شيءٌ في المجتمع ليس موجوداً في الفرد بالقوّة أو بالفعل. هذه التعارضات هي تعارضاتٌ بين الروح الذاتية، منظوراً إليها في فرديتها وجوّانيتها، والروح الموضوعية وقد خرجت من جوّانيتها وغدت علاقاتٍ وبنىً ومؤسّساتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ وتمثيلاتٍ ثقافيةٍ وأخلاقية، بين الوجود الحقيقيّ للفرد الطبيعيّ والوجود الرمزيّ والمجرّد للمواطن والمواطِنة.


المواطن والمواطنة، استطراداً، هو أو هي الفرد الطبيعيّ، فلان أو فلانة، وقد تجرَّد من جميع خصائصه الفردية، سوى ما يُثبَت في بطاقته الشخصية أو جواز سفره، فتحوَّل إلى شخصٍ سياسيٍّ، قانونيٍّ وأخلاقيّ، بالتلازم الضروريّ بين القانون والأخلاق (سياسيّ = قانونيّ–أخلاقيّ). المواطن أو المواطنة شخصٌ معنويّ، من طبيعة الدولة، بصفتها شخصاً معنوياً، سياسياً، قانونياً وأخلاقياً، في مجتمع الدول. فالحياة السياسية هي الحياة القانونية والأخلاقية، ليس غير، وهي بذلك أحد أشكال الحياة الإنسانية أو النوعية. على هذا المعنى الأعمق للسياسة ينبغي أن تتأسّس كلّ سلطة. هنا بالضبط تتجلى ضرورة الحوار وأهميته، وإيتيقا الحوار والاكتمال بالأخرى المختلفة والآخر المختلف، على اعتبار كلّ فردٍ إنسانيٍّ أنا وآخر و / أو أنا وأخرى، في الوقت نفسه. 


على هذا اللحن المتموّج تنبني سمفونية التذوات. السياسة ليست مجرّد غاياتٍ وأهدافٍ ووسائل وأساليب لتحقيق هذه الغاية أو تلك، بل هي حياةٌ قانونيةٌ أخلاقية، وإلا فهي "كلبيةٌ" صريحةٌ أو ضمنية، كما هي الحال عندنا. وعليه، فإن غاية الحوار هي التواصل والتوصل إلى حياةٍ سياسيةٍ، قانونيةٍ–أخلاقيةٍ تليق بالإنسان. ولا تتحقق هذه الغاية إلا بإدراك المنخرطين في الحوار أو المناقشة العمومية سموّ الرابطة الاجتماعية وسموّ الرابطة الإنسانية وسموّ القانون. في هذه الحال فقط، تمارس الرابطة الاجتماعية–الإنسانية تأثيرها في المتحاورين الذين يحوز كلٌّ منهم سلطةً معرفيةً (إبستمية)، بصيغة المتكلم، أو "حرّيةً تواصلية"  يمكن أن تتجه نحو البحث عن توافقٍ عقلانيٍّ يترجم إلى اتفاق. 


يتعلق الأمر هنا بـ"الفعل التواصليّ"، الذي يرسي معقوليةً سلوكيةً مفادها أن شخصاً معيناً، مهما يكن محيطه الاجتماعيّ ولغته وشكل حياته الثقافية، ليس بمقدوره عدم الانخراط في ممارسةٍ تواصلية، وليس بمقدوره، من ثمّ، ألا يبدي اهتماماً ببعض الافتراضات التداولية ذات المنحى العام (كارتفاع الأسعار على الأقل)، ... التي يجد الأفراد أنفسهم منخرطين فيها من دون أن يدركوا أنهم يشاركون في ممارساتٍ ثقافيةٍ حقيقية (هابرماس، 2010، ص 30).


وإذا كان الحوار المجدي يقتضي زحزحة الذات عن مركزها ومركزيتها، فإن هذا لا يتمّ إلا بشرطين: أولهما قدرة الفرد على أن يضع نفسه في موقع الآخر لتفهم وجهة نظره، والثاني إدراج رؤية الآخر المختلف في الافتراضات التداولية للمناقشة، على أساس المقبولية العقلية ومعاييرها الاجتماعية، لا على أنها الحقيقة. ومن ثم فإن الهدف الأبعد للحوار هو التأليف بين المساواة والحرية، وبين الوحدة والتعدد، بين التشابه والاختلاف، في تركيبٍ يشبه التركيب الكيمياويّ، وذلك بنزع طابع الإطلاقية عن هذه الحدود. فإن صلاحية المعايير الاجتماعية، أي المعترف بها بين الذوات، لا تتأسّس إلا انطلاقاً من تذاوتٍ وتفاهمٍ بين أفراد الجماعة المعنية والمجتمع المعنيّ. فالقناعات المتفق عليها بطريقةٍ تذاوتيةٍ تشكل التزاماً متبادلاً بين المشاركين في التفاعل. واعتباراً لهذه القاعدة فإن "القناعات المونولوجية، أي ما يعتبره كلّ واحدٍ في داخله صحيحاً أو خاطئاً لا يمكن أن تؤثر إلا في المواقف الفردية" .


 فالحوار لا يهدف إلى إلغاء ذاتية الأفراد المنخرطين أو المنخرطات فيه، ولا يصادر خياراتهم وتفضيلاتهم الشخصية، ولا يحجر على حريتهم الشخصية، بل يهدف إلى التوافق على "الحل الأمثل"، في الشروط المعطاة، لمسائل معينة، تهمهم جميعاً. أي إنه يُظهر، أو يظهِّر، البعد النوعي، الاجتماعيّ–الإنساني، الملازم للبعد الشخصيّ لهؤلاء الأفراد، وذلك هو قوام الاجتماع المدنيّ، والحياة الاجتماعية–السياسية، بما هي "الحياة النوعية للإنسان"، بتعبير كارل ماركس، أو الحياة الأخلاقية، ولا فرق.


الحوار نشاطٌ تواصليٌّ على خلفية العالم المعيش؛ فالمشاركون في التواصل، أو المنخرطون في الحوار أو النقاش العام، من أجل التفاهم على وضعيةٍ ما، يرتبط كلٌّ منهم بتراثٍ ثقافيٍّ يستمدّ منه بعض العناصر، ويعمل على تجديدها. لذلك فإن النشاط التواصليّ، من الزاوية الوظيفية للتفاهم، يعمل على نقل المعرفة الثقافية وتجديدها؛ ومن زاوية تنسيق الفعل يقوم بوظائف الاندماج الاجتماعيّ وخلق التضامن؛ ومن زاوية التنشئة يسهم في تشكيل الهويات الفردية (وإعادة تشكيلها باطِّراد). أي إن النشاط التواصليّ يعيد إنتاج البنيات الرمزية للعالم المعيش، من خلال الاحتفاظ بما هو صالحٌ منها وتجديده، ويعمل، من جهةٍ أخرى، على استقرار أشكال التضامن بين أعضاء الجماعة، ويسهم، من جهةٍ ثالثة، في تكوين فاعلين مسؤولين (أفاية، ص 189)، وفاعلاتٍ مسؤولاتٍ بالطبع. وهذا يقتضي الاعتراف المتبادل بتساوي المرجعيات الرمزية للأفراد المختلفين والجماعات المختلفة، فلا تكون أيٌّ منها مرجعيةً معياريةً وحيدة، ولو كانت مرجعية الأكثرية العددية. 

 


"وهكذا، فإن الحقل الدلاليّ للمضامين الثقافية والمجال الاجتماعيّ والزمن التاريخيّ تشكل معاً الأبعاد التي تتطوّر فيها الأنشطة التواصلية. فالتفاعلات التي تنسج شبكة الممارسة التواصلية اليومية تكوِّن الوسط الذي من خلاله تتمّ إعادة إنتاج الثقافة والمجتمع والشخص" (أفاية، ص 190). والشخص هنا هو الفرد القادرة أو القادر على الكلام والفعل، على اعتبار الكلام إنتاجاً للمعنى، والفعل إنتاجاً للقيمة، فلا معنى قبل الكلام ومن دونه، ولا قيمة قبل الفعل ومن دونه. 


المعاني والقيم الموروثة أنتجها أشخاصٌ غيرنا في زمنٍ آخر وشروطٍ أخرى، وتبنّيها الأعمى وتكرارها لا يجعلان منا أشخاصاً أحراراً وحرائر.

.

.

 

اقرأ المزيد للكاتب.. 

 

 

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard