بين الوطنية وانتقام السوريين
*سردار ملادرويش
يعيشُ السوريون اليوم واقعاً مريراً يقتصّر في سنّوات عجّاف، ربمّا يقارب ما عاشته بعض الدول من العذابات بخمسة قرون. خمسة أعوام لم يبقَ شعارٌ وطنيٌ وثوريٌ وتحرريٌ إلا وأنتجه أو استهلكه السوريون بيّن ضفتيّن متوازيتيّن غيّر متقابلتيّن في معضلةٍ رائداها سُمّيا معارضة وموالاة.
الطرفان عاشّا على أمل النجاة من الطوفّان، وأن يعود المنتصر فيهما لبنّاء مجتمعه بحسب فكره وإيديولوجيته المنبثقة أساسًا من فكرتّين تابعتّين لطرفّين، إحداها أن زوّال النظام السوري سينهي حقبة كاملة، كما سيزول معها التطرّف "الدخيل" الذي يجتاح الثورة ويسيطر على كمّ من مفاصلها اليوم، وآخر أصرَّ على إنهاء "مؤامرة ثمانين دولةٍ" عن نظامٍ يوعدهم من خمس سنوات بالقضاء على إرهابٍ (لم ينتهِ) ووعودٍ بعودة إلى حضن وطنٍ يوصف بـ"الدافئ" برغم برودّة الحرّب فيه. فلا المعارضة استطاعت إنجاز مكتسبٍ رسمته لنفسها، ولا الموالاة لاقت حلم دحض المؤامرة ضد المقاومة حتى اليوم.
الطرفان السوريّان باتّا خارج معادلةٍ تلّوح بها دولٌ إقليميةٌ وعربيةٌ ودوليةٌ، عملّت على جعل اسم سوريا كمفهوم وطني مجرّد شعارٍ، والشعب السوري والأرض السورية آلية تنفيذ وجسر عبورٍ نحو هتك هذا البلد، بامتيازات ومشاريع خارجية، وبتنفيذ سوري يُكسبهم الشرعية، فهو شيء أشبه بـ"سورنّة الحرب".
مُذ انطلاقة الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، عمل السوريون المناهضون للنظام ببدء تميّز مجتمعهم "متعدد المكونات"، في محاولةٍ لسحّب الشرعية عن النظام، فتبنّوا علم الاستقلال بدل العلم السوري الحالي، وخلقّوا شعارات تقطع أمل أي علاقة مع الطرف الأخر مثل "الشعب يريد إسقاط النظام". النظام من جانبه قام بتخيير مواليه بين التمسك بشخص "بشار الأسد" وبين محبة الأخير طوعًا أو جبرًا، مع رفع شعار "سوريا بخير". ليفشل الطرفان في التوصل إلى بارقة أمل تخلص السوريين من ويلات حرب لم تُلمح بعد نهايتها، اختار النظام لها الطريق الأسهل عليه بالقتّل والفتّك واستخدام الجيش والطيران والبراميل المتفجرة والغاز الكيماوي، وهو الطريق الأصعّب والشّاق للشعب.
كانت المعارضة السورية حتى مرحلة مبكرة من الثورة تقاوم بشكلٍ سلمي قبل أن تتشكل قوى خارج البلاد اعتقدت أنها بخيار الردّ عبر السلاح ستُجبّر المجتمع الدولي على التدخل وإسقاط الحكّم، وتأتي هي لإحلال مكان النظام، لكن لم يحدث هذا المشهد، وماذا لو حدث! هل كانت المعارضة ستختلف عن النظام من حيث العقلية والتفكير! .. يردد ذلك السوريون اليوم كثيرًا. هل هناك فعلًا كتلة مدنية ديمقراطية ستحكم البلاد بدل التطرف وقاذفي اسطوانات الغاز والمتشددين.
ينحدر النظام السوري من منظومة حزب البعث. الحزب الذي ظلم وأساء وفتك بشعبيّ سوريا والعراق، ونصّب فوق رؤوس الشعبين حكامًا مستبدّين بسطّوا سيطرتهم على مفاصل الحياة، أفضل انجازاتهم هي صناعة أجهزة مخابرات زرعت الرعبَّ حتى في جدران المنازل، مقابل ضبط إيقاع تطور وتقدم الشعوب وعدم البحث عن الحرية والكرامة، ونسيان أن هناك مفهوم يسمى الديمقراطية في الحياة، فهل من السهل أن يقود روادّ تلك الحقبة مثلًا حقبة ربيع الديمقراطية الجديد! أيضًا يتساءل ويتباحث السوريون اليوم في هذا، برغم أنّ أصواتًا عالية تأتي من العراق البلد الشقيق، بأن تجربة البديل لديهم لم تغير سوى التسميات والأشخاص.
إن البعث السوري الذي حكم البلاد على مر خمسة عقود، لم تكّن سنوات خمس كافية لإزالة ما زرع في العقول وصنع من شخصيات.
يحتكم السوريون اليوم لسياسة المحاور، المعارضة والموالاة كل منهما مجرد خيطٍ لدى محور غير وطني، مع ذلك يصرّ البعض على حجب الشمس بالغربال بتمسكه برفع شعارات كـ"وحدة الأرض" و"وحدة الشعب" و"سوريا أرضٌ موحدة". مع كل هذه الاختلافات نستطيع بجرأة أن نقول بأن لا يوجد طرفٌ سوري يفكر بالانسلاخ عن سوريا أو الانفصال عنها، وإن كان هناك طموح وهدف لفئة بتشكيل إدارة أوالفدرالية فإن هذا مشروع طالما لا يطرح فكرة التقسيم ويصر على البقاء ضمن جغرافية البلد الواحدة، لكن هذا ما لا يريد فهمه شريحة من السوريين ممن يرمّون التهم جزّافًا بحق من يخالفّهم، فيتضح أن السوريين ينقصهم بعض الضمير وبعض الثقة كي يعملوا على إبقاء الجميع ضمن مضمار سوري واحد.
مناسبة حديثنا هذا يأتي مع الخطر الذي بات يهدد البلاد واقعًا ويداهم الوطن، فإن كان تصرف مكونٍ أو جهة سورية شكل هاجسًا مبالغًا به في السابق، فإن القادم غير الوطني قد بدأ بالتغيير على الأرض، فإن كان دخول قوات إيرانية وحزب الله وروسيا إلى سوريا لوحّ بتخوف من انسلاخ وتقسيم في سوريا لفئة، فإن دخول دولٍ أخرى كالخليج وتركيا في الساحة السورية أيضًا يخوف فئة الضفة الأخرى، من هنا تحتاج الفئتين إلى الخروج من حالة الصراع والبحث عن عقدٍ يؤمّن لكل سوري حقوقه. فاليوم قطاعات متعددّة تتحكم بالجغرافية السورية، وهناك جنود وفيالق عسكرية حاكمّة بمختلف مشاربها، و جهات سياسية معارضة متعددة يتبعها تجمعات شبابية عدّة، جميعها منقاد بعوامل خارجية، تتحكم بها، وتجعلها أداةً لمشاريع عدّة وقودها السوريون ذاتهم، والخاسر الوحيد الشعب السوري المغلوب على أمره، بل الجميع يتحدث باسمه، وأنه يعمل لأجله، فيما الواقع يظهر أن قتل فردٍ أو مجموعة سورية بات يبررها قاتل ويدافع عنها نقيض القاتل.
الكرد في سوريا كمكون وحدهم من طرح مشروع رؤية لسوريا، تجسد باتفاق كردي عام على أن تكون سوريا دولة فيديرالية "اتحادية" لا مركزية، يحق فيها للكرد إدارة مناطقهم. هذا الإجماع الكردي قوبل بعدم الرضّى والإساءة من السوريين، واتهاماتٍ اعتادها الكرد في زمن حزب البعث على أنهم انفصاليين.
إن الصورة القادمة من سوريا تؤكد أن لا شيء يرسمه ابناؤها الذي باتوا يشرعون التدخل الخارجي الذي يناسب رؤيتهم، دون إدراك أن اللاوطنية والخطر الحقيقي يكمنان في هذه الرؤية التي تدمر البلاد، وتفتت الشعب وتقسم الجغرافية بيدٍ سورية. بينما الخوف الأعظم يبقى بأن تستمر حرب التفرقة، وتزداد دموية، ويكون أطرافها سوريون بمخطط غير سوري، فهذا التخوف ليس هاجسًا يُدّق ناقوس خطره، بل يظهر أكثر في أن السوريين تحولوا من باحثين عن الوطنية باستبدال ذلك بتكريس الانتقام.
.
.