معتقلون ومشردون.. الطفولة السورية في السنة الخامسة للحرب
في سجون النظام: أطفالٌ يتساوون بالكبار
(1)
*محمد همام زيادة
"لن أنسى كيف تمّت تعريتي بشكلٍ كاملٍ في فرع المخابرات الجوّية بدرعا، ورشّي بالماء البارد في كانون الثاني من عام 2012. لن أنسى كيف كنت أُضرَب بالكبل الرباعيّ حتى يغمى عليّ. لن أنسى كيف كانوا يشتمون أمي وأبي. سقوط النظام لن يشفي غليلي، ومحاكمتهم لن تشفي غليلي، حمل السلاح ومحاربتهم هو ما يطفئ النار في داخلي".
هذا ما قاله عبد الرحمن، ابن التاسعة عشرة، من مدينة بصرى الشام، عن تعذيبه في سجون النظام عندما كان عمره 15 عاماً. أصبح عبد الرحمن اليوم شاباً، وتحوّل إلى مقاتلٍ مع إحدى الفصائل العسكرية المعارضة بمحافظة درعا.
أحمد حمادي طفلٌ من مدينة حلب، يقول لمجلة صوَر: "اعتقلت من داخل مدرسة بسام العمر بحيّ صلاح الدين بسبب مشاركتي بمظاهرةٍ فيها. أتت دوريةٌ من الأمن الجنائيّ بعدما اشتكى مدير المدرسة علينا. حملني عنصران، مع الضرب المبرّح باستخدام هراوةٍ كهربائية. وضعاني في صندوق السيارة وأغلقا بابها بقوّةٍ على ظهري، الأمر الذي تسبّب في رضٍّ دائمٍ فيه. سجنت لمدّة شهرٍ ذقت فيه كلّ أنواع التعذيب كـ"الشبح" و"الدولاب"، وأطلق القاضي سراحي لأني قاصرٌ، وبعدما دفع والدي مبلغ مئة ألف ليرةٍ رشوةً له".
حكاياتٌ من آلاف الحكايا، يرويها أطفال سوريا عن حوادث اعتقالٍ وتعذيبٍ تعرّضوا لها منذ بداية الثورة السورية. يدوّن الأطفال هذه الأحداث في ذاكرتهم، ويتناقلوها في أحاديثهم، وتتحوّل إلى كوابيس أثناء نومهم. ستبقى محفورةً في نفوسهم طوال حياتهم، وسينقلوها لأولادهم مستقبلاً، كما تقول السيدة جمانة، وهي أمٌّ لطفلٍ معتقلٍ سابق، وتضيف: "بعد مرور عامٍ على خروج ابني يستيقظ ليلاً ويبكي، ويقول: "ماما ما فيني انسى شكل السجان، بحسّ وأنا نايم عم يهجم عليّ ويضربني".
أرقامٌ صادمة
ركّزت المنظمات الحقوقية السورية جهودها، منذ بداية الحراك الشعبيّ في البلاد، على توثيق الانتهاكات التي تطال الأطفال لأنهم من الفئات الأشدّ ضعفاً وحاجةً إلى الحماية في أوقات الأزمات.
ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقلّ عن 10413 حالةً تعرّض الأطفال فيها لتجربة الاعتقال التعسفيّ، ومنهم من تكرّر اعتقاله مرّاتٍ عدّة، كما وثقت ما يزيد على 1850 طفلاً في عداد المختفين قسراً. وذلك مع إنكارٍ كاملٍ من حكومة النظام لاحتجاز الأطفال، رغم أنّ كافة روايات الأهالي والشهود تؤكد أنها المسؤولة عن عمليات الاعتقال.
وتجمع منظماتٌ حقوقيةٌ أنّ ما يزيد على 90% من حالات الاعتقال تتمّ بسبب مشاركة الأطفال في المظاهرات، أو نشاطهم المناهض للنظام في وسائل التواصل الاجتماعيّ وخصوصاً موقع فيسبوك، أو نتيجة عملهم في الحقلين الإعلاميّ والإغاثيّ. كما تمّ تسجيل مئاتٍ من حالات الاعتقال كوسيلة ضغطٍ على العائلات لإجبار الآباء على تسليم أنفسهم، وحالاتٍ أخرى تمّ فيها اعتقال الأب والابن معاً، وجرى تعذيبهما أمام بعضهما، إضافةً إلى اعتقالاتٍ طالت أسراً بأكملها، كما حصل مع طبيبة الأسنان وبطلة الجمهورية بالشطرنج رانيا العباسي، عندما اعتقلت مع أطفالها الستة وزوجها بتاريخ 11/3/2013، ولم يزالوا حتى الآن مغيبين ومجهولي المصير.
تعذيبٌ ممنهج
يتعرّض الأطفال في السجون المركزية التابعة لوزارة الداخلية بحكومة النظام، وفي المعتقلات التابعة للأجهزة الأمنية المعروفة والمجهولة، لطرق التعذيب نفسها التي يتلقاها الكبار. وسجّلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 46 أسلوباً للتعذيب يتعرّض له الأطفال في الفروع الأمنية، ووثقت مقتل ما لا يقل عن 159 طفلاً تحت التعذيب حتى تشرين الثاني 2015.
وتحرم حكومة النظام غالبية الأطفال المعتقلين من أبسط الحقوق التي يكفلها القانون، كمعرفة سبب الاعتقال، والحقّ في توكيل محامٍ للدفاع عن المتهم والاعتراض على التهمة والطعن بها، وحقّ المثول أمام القاضي والطعن بالأحكام الصادرة، إضافةً إلى حرمان الأسرة من حقّها الطبيعي في معرفة سبب ومكان اعتقال الطفل وزيارته، وحقّ الاتصال مع العالم الخارجيّ.
يقول المحامي عروة السوسي، عضو تجمع المحامين الأحرار، لمجلة صوَر: "خلال العامين 2012 و2013 شاهدتُ بأمّ عيني، في القصرين العدليّين بمدينتَي اللاذقية وجبلة، إحالاتٍ من مختلف الفروع الأمنية، عُرِض فيها الأطفال أمام قضاة التحقيق، ووُجّهت لهم تهمٌ غريبة، كتزعم عصابةٍ مسلحةٍ أو تخريب المنشآت الحكومية أو القيام بأعمالٍ إرهابية، علماً أن المدينتين لم تشهدا أيّ صراعٍ مسلحٍ حقيقيٍّ منذ بداية الأحداث في سوريا".
ويتابع: "اللافت أيضاً في التهم والمحاكمات أنّها لا تميّز بين الكبير والطفل، إذ توجّه لهم ذات التهم كالنيل من هيبة الدولة ومحاولة الانقلاب على النظام والتواصل مع جهاتٍ خارجيةٍ معاديةٍ للوطن".
ويضيف: "اعتقال الأطفال سياسةٌ ممنهجةٌ للنظام، تتمّ بأمرٍ وتوجيهاتٍ من رأس النظام بشار الأسد بصفته رئيس الجمهورية والقائد العام للجيش والقوات المسلحة، الذي قالها صراحةً في أحد خطاباته، بحضور أعضاء من الحكومة ومجلس الشعب، بأن هناك جيلاً قد تربى على العنف والسلاح ويجب استئصال جذور الإرهاب التي زُرعت فيه. والمجتمع الدوليّ يعرف ذلك بدقة، فأرشيف قيصر، الذي وصل إلى جميع حكومات ومنظمات العالم، يضمّ الكثير من الصور التي توثق حوادث مقتل الأطفال تحت التعذيب".
أما في المعتقلات الخاضعة بشكلٍ كاملٍ لسلطة الأجهزة الأمنية، كمطار حماة العسكريّ الخاضع لسيطرة المخابرات الجوية، وفروعٍ أمنيةٍ أخرى، فيحرم الأطفال من أدنى الشروط الإنسانية، بما فيها منعهم من الطعام لعدّة أيام، وحرمانهم من الرعاية الطبية الأساسية.
يقول الناشط الإعلاميّ همام الحموي لمجلة صوَر: "يتساوى الطفل مع الكبير في سجن مطار حماة العسكريّ، ويوضعون في مهاجع كانت سابقاً هنغاراتٍ لصيانة الطائرة... مصنع تعذيبٍ متكامل".
وفي سياقٍ آخر أكد ناشطون من حماة وجود معتقلين من الأطفال في سجونٍ خاضعةٍ لسيطرة ميليشيات أجنبية، كمعسكر دير شميل بريف حماة، والذي يعدّ من أكبر مراكز تدريب وتجمع ميليشيا الحرس الثوريّ الإيرانيّ، والفوج 45 قوّات خاصّة بالقرب من مدينة حماة، أحد معاقل الشبّيحة وميليشيا حزب الله اللبنانيّ.
يقول همام الحموي: "يُجبَر الأطفال في هذه المعتقلات على خدمة الضباط وقادة هذه الميليشيات الأجنبية، وتُفرَض عليهم ممارسة أعمالٍ شاقةٍ كنقل الحجارة المعدّة للبناء".
الأطفال والإعلام
يواصل النظام السوريّ، منذ بداية الحراك الشعبيّ، حملة تضليلٍ وتشويهٍ إعلاميين لما يجري في البلاد، لم يستثنِ الأطفال منها، رغم منع القوانين عرض الشهادات والصور وإجراء المقابلات المصوّرة قبل صدور الحكم من المحكمة المختصّة، ورغم التشدّد في هذه القوانين. إلا أن النظام يستمرّ في ممارسة هذه التجاوزات والانتهاكات بصورةٍ فاضحةٍ طالت جميع الأعمار، وقد اعتاد على انتزاع الاعترافات بالقوّة وتحت التهديد.
وفي هذا الشأن عرضت قناة الفضائية السورية، بتاريخ 5/10/2013، اعترافات المعتقل شعبان عبد الله حميدة، الطفل ذي الـ13 عاماً، التي قال فيها إنّه أقدم على قتل 23 شخصاً. كما وثق مركز توثيق الانتهاكات، في تقريرٍ موسّعٍ، فيلماً عرض على قناة الإخبارية السورية التابعة للنظام، يتحدّث عن فتياتٍ تحت الثامنة عشرة قلن إنهنّ مارسن علاقاتٍ جنسيةً مع مقاتلين تابعين للمعارضة. وأجرت القناة خلال الفيلم لقاءً مع الطفلة سارة خالد العلاو (15 عاماً) التي ذكرت أنها أميرة جبهة النصرة بمدينة البوكمال، وأنها تقيم علاقاتٍ جنسيةً مع المقاتلين. وفي السياق ذاته عرضت قناة الإخبارية السورية خلال 2013 مقابلةً مع الطفلة روان ميلاد قداح (16 عاماً)، قالت فيها إن والدها كان يجلب لها المقاتلين لممارسة علاقاتٍ جنسيةٍ غير مشروعةٍ معهم، في حين تؤكد جميع المنظمات الحقوقية وشهود العيان أنه تمّ اختطافها من قبل الأجهزة الأمنية الحكومية خلال شهر تشرين الثاني 2012.
اعتقال الأطفال والقوانين الدولية
تركّز القوانين الدولية واتفاقيات حقوق الطفل على وجوب حماية الأطفال في أوقات السلم، وتشدّد على حمايتهم في أوقات الصراعات السياسية والعسكرية، وتوجد عشرات المواد والفقرات التي تحضّ على ذلك. وتوفر اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وبروتوكولاها الإضافيان لعام 1977، حمايةً خاصّةً للأطفال خلال النزاعات المسلحة، بشكلين؛ الأول حمايةٌ عامةٌ بصفتهم مدنيين أو أشخاصاً لا يشاركون في أعمالٍ عدائيةٍ أو كفّوا عن المشاركة فيها، والثانية حمايةٌ خاصّةٌ بصفتهم أطفالاً.
وتؤكد المادة 16 من اتفاقية حقوق الطفل أنه لا يجوز التعرّض للأطفال بشكلٍ تعسفيٍّ أو غير قانونيٍّ في حياتهم الخاصّة أو مع أسرتهم أو في المنزل أو في المراسلات، ويحظر المساس غير القانونيّ بشرفهم أو بسمعتهم، وأن للطفل الحقّ في أن يحميه القانون من التعرّض لهذه الانتهاكات.
أما المادة 19 من الاتفاقية ذاتها فتؤكد أن على الدول الأطراف الموقعة تأمين جميع التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من كافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية والإهمال أو المعاملة المنطوية على إهمالٍ وإساءة المعاملة أو الاستغلال، بما في ذلك الإساءة الجنسية، وهو في رعاية الوالد (الوالدين) أو الوصيّ القانونيّ (الأوصياء القانونيين) عليه، أو أيّ شخصٍ آخر يتعهد برعايته.
وتنصّ المادة 37/ ب من الاتفاقية على: "لا يُحرم أيّ طفلٍ من حرّيته بصورةٍ غير قانونيةٍ أو تعسفية، ولا يُلجأ إلى اعتقاله أو سجنه وفقاً للقانون إلا كملجأٍ أخيرٍ ولأقصر فترةٍ زمنية".
***
يتامى سوريون يواجهون تحدّيات الحياة بلا سند
(2)
*ليليا نحاس
مأساةٌ حقيقيةٌ يعيشها الأطفال السوريون ممن غيّب الموت بالقصف أو بالرصاص ذويهم، وممن يعيش آباؤهم في ظلمة أقبية نظامٍ قمعيٍّ تركهم يصارعون الحياة وحدهم، في ظلّ ظروفٍ قاسيةٍ لا يقوى على تحمّلها حتى الكبار.
يعيش مئات آلاف الأطفال السوريين اليوم دون معيلٍ أو معين، منهم من انتهى المطاف بهم في دور الأيتام، وآخرون دخلوا سوق العمل في سورية أو في دول الجوار لتأمين لقمة العيش.
إذ لم يترافق التزايد الكبير في أعداد الأطفال السوريين اليتامى، داخل البلد وفي دول الجوار، مع الاستجابة المطلوبة من المنظمات والتجمعات الأهلية المعنيّة، ومع واقع غياب هذه المؤسّسات تغيب معها إحصائيةٌ دقيقةٌ لأعداد اليتامى السوريين. وقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقريرٍ لها فقدان 82 ألف أسرةٍ سوريةٍ على الأقلّ معيلها، وفقدان 2300 أسرةٍ الأم. وقدّرت إحصائيةٌ لمنظماتٍ تركيةٍ أن الصراع السوريّ خلّف نحو 600 ألف يتيمٍ داخل سورية وخارجها.
وفي وقتٍ لا يحظى فيه الأطفال اليتامى برعايةٍ قانونيةٍ أو أهلية، ينتقل معظمهم للعيش مع أقاربهم الذين يعانون بدورهم من أعباء المعيشة، فيتعرّض اليتيم بينهم -عن قصدٍ أو عن غير قصد- لضغطٍ نفسيٍّ كبير، يدفع الذكور إلى العمل بهدف كسب المال وإعالة أنفسهم وأخوتهم، كما يدفع الكثير من القاصرات إلى الزواج في سنٍّ مبكّرة.
لم تكن بشرى تتجاوز الرابعة من عمرها حين خطف الموت والديها في قصفٍ لطيران النظام على منزلهم في ريف حلب، ونجت هي بأعجوبة. بعد الحادثة نقلها أحد الجيران للعيش مع عمها محمد المقيم في مدينة "كلس" التركية، الذي يقول: "مرّت عدّة أشهرٍ على استشهاد أخي وزوجته ولا تزال بشرى تسأل عنهما. لم يكن انتقالها للعيش معنا سهلاً عليها، فظروف الحرب أبعدتني عن عائلة أخي ولم تكن الطفلة تعرفنا بشكلٍ جيدٍ قبل الحادثة. ورغم احتوائنا لها تفتقد بشرى إلى حنان والديها. أحاول تعويضها قدر إمكانيتي، لكنني هنا أعمل طوال النهار، وأكاد لا أرى عائلتي إلا بضع ساعات".
ويضيف: "تعاني بشرى نوعاً من العزلة لم نستطع كسرها حتى الآن، إضافةً إلى الكوابيس بين الحين والآخر. والموقف الأصعب بالنسبة إلينا هو الإجابة عن أسئلتها، لا نعرف حقاً كيف يمكن أن نفسّر لها ما حدث. مع هذا بشرى محظوظةٌ بوجود من يرعاها، وسأضمن لها هذا طالما بقيتُ حياً".
في أحيانٍ أخرى يخسر الطفل كامل عائلته، ولا يكون له قريبٌ أو معيلٌ ليعيش معه، فيكون عرضةً للتشرّد والعمل في الشوارع، إلى أن تقوم إحدى الجمعيات المعنية برعاية الأيتام في الداخل أو الخارج بتبنيه والاهتمام به.
يقول مصعب، من جمعية "الأمل" لرعاية الأيتام بدرعا: "لم تعد دور الأيتام تستطيع استيعاب المزيد، بسبب عدم قدرتها على توفير مساحاتٍ جديدة، وشحّ وانخفاض التبرّعات من المنظمات لها، على الرغم من تزايد عدد الأيتام. إلى درجة أن اليتيم بات يحتاج إلى واسطةٍ ليقبل في إحدى الدور".
ويضيف: "نعمل منذ سنتين على توجيه التبرّعات والجهود لكفالة الأيتام الذين يعيشون عند أقاربهم، فهم يشكلون الفئة الأكبر. تضمن هذه الكفالة، إلى حدٍّ ما، عدم زجّ الطفل في سوق العمل. ومع هذا هناك آلاف الأيتام الذين يسكنون الشوارع مشرّدين دون معيلٍ أو مرشد، يعانون من الجوع والبرد والمرض، وقد يكونون عرضةً للانحراف أو للخطف من تجار الأعضاء. فيما يعاني الكثير من الأطفال في دور الأيتام من سوء المعاملة. وأحد أكبر التحديات هو غياب الدعم المناسب لهذه الشريحة من الأطفال، فهم في حاجةٍ إلى إعادة تأهيلٍ نفسيٍّ وجسديٍّ وإلى تدريبٍ مهنيٍّ لاستثمار مواهبهم وقدراتهم بالشكل الصحيح".
يبلغ زياد من العمر 11 عاماً. قتلت والدته برصاصة قناصٍ وغيّب المعتقل والده، ولم يكن لديه إلا خالةٌ واحدةٌ لم تستطع رعايته فأرسلته إلى دارٍ للأيتام. يقول: "لا تستطيع خالتي إطعام أولادها. تركت والدتي مبلغاً من المال دفعته خالتي رشوةً لأحدهم ليتوسّط لقبولي في الميتم، خاصّةً أن والدي لا يزال حياً. لست غاضباً منها ولكنني أفتقد أهلي كثيراً، كلّ يومٍ أنتظر من يأتي ويقول لي إن والدي خرج من المعتقل".
وتقول المرشدة النفسية نورا الملاح للمجلة: "يتعرّض الأطفال، حين يفقدون والديهم أو أحدهما، لصدمةٍ نفسيةٍ تختلف مظاهرها من طفلٍ إلى آخر؛ فمنهم من يصبح أكثر انطوائيةً وتخوّفاً ممن حوله، ومنهم من يصبح أكثر عدوانيةً ويحمل في داخله رغبةً في الانتقام لما حلّ به، ومنهم من يُظهر الخوف والحاجة إلى من حوله لحمايته. وفي جميع الحالات يصبح الطفل في حاجةٍ إلى علاجٍ ودعمٍ نفسيين يساعدانه على تخطّي فظاعة ما مرّ به وعلى أن يصبح إنسانا سوياً في المستقبل".
وتضيف: "يجب أن يُبنى التعامل مع الأطفال على الحبّ والاهتمام، فهما الوسيلة الوحيدة لكسب ثقتهم وتعويضهم عن الظروف القاسية التي عاشوها. ومن حظ الأطفال، في معظم المياتم السورية الموجودة في تركيا، أنهم يحظون بمعلمين وإداريين عطوفين. كما أن النشاطات الترفيهية والرسم واللعب مع الأطفال تسهم، بشكلٍ كبيرٍ، في علاجهم نفسياً وتقويم سلوكياتهم. وللتدريب المهنيّ دورٌ مهمٌّ في إعادة ثقة الطفل بقدراته، وبأنه يستطيع أن يعتمد على نفسه وأن يحقق ما يحلم به في المستقبل".
بسام طفلٌ من مدينة حلب، يعيش في شوارع مدينة "كلس" التركية ويعمل في ورشةٍ لتصليح السيارات، وتعمل أخته هدى في بيع المحارم في الشارع ذاته. يقول: "ذهب والدي إلى الجبهة ولم نسمع عنه خبراً، فجئنا إلى تركيا. في طريقنا قام قناصٌ بقتل أمي وبقيت أنا وأختي وحدنا. واصلنا طريقنا وقطعنا الحدود ووصلنا إلى هنا. لم نكن نعرف أحداً ولا نعرف لغتهم. نمنا في الحدائق لأيامٍ طويلةٍ دون أن يكون معنا ثمن الطعام. أعمل الآن في ورشةٍ وأختي تبيع المحارم في شارع الورشة، لا أستطيع تركها وحدها". ويضيف: "أريد أن أحمي أختي وأن نسكن في مكانٍ نظيفٍ لا يوجد فيه قصفٌ ولا حرب".
وفي السياق، يصطدم آلاف الأطفال السوريون ممن يعيشون في دول الجوار بصعوبة الحياة في ظلّ قوانين الدول التي لا تراعي وضعهم ومأساتهم. وعلى الرغم من رغبة بعض مواطني دول الجوار في تقديم العون والمساعدة لهم، إلا أن هؤلاء يصدمون بعادات المجتمع وبالقوانين التي تحول دون تبنّي الأطفال السوريين. خديجة سيدةٌ تركيةٌ صدمت بوضع الأطفال السوريين، وكانت لديها رغبةٌ في تبنّي أحدهم ومساعدته وتعليمه، إلا أنها فوجئت بالقوانين التركية التي تمنع تبنّي الأطفال من جنسياتٍ غير التركية. تقول: "سعيت جاهدةً إلى أن أتبنى طفلاً سورياً وأعتني به، لكن القوانين لم تسمح لي بذلك. أحاول مساعدتهم مادياً، وأزورهم من حينٍ لآخر. أتمنى أن يتمّ تعديل هذه القوانين، مع الوقت، لنتمكن من مساعدة هؤلاء الأطفال بشكلٍ أكبر".