إنّها مسؤوليّتنا..
*راتب شعبو
لم نكن في حاجة إلى كل هذا الدمار في سوريا، وفي حلب اليوم بوجه خاص، لنكتشف ضرورة النقد والمراجعة. فمنذ أن تأسّس التفارق الصارخ أو قُلِ الانفكاك بين قوّة التغيير أو أداة الثورة (جهاديّة إسلاميّة) وطبيعتها (الديموقراطيّة أو تحرير الدولة من استبداد السلطة)، تأسّست آلة الخراب بين نظام لا يتوجّه بمصلحة سوريا عامة بل بمصلحة نظام وطغمة، ومستعدّ للمضيّ إلى النهاية في "حرق البلد" أو "رهن البلد" أو استثمار "الكمونات الطائفية" ..إلخ. وبين قوّات متعدّدة الولاءات الخارجية تواجهه، يجمعها العداء للديموقراطية ولنظام الأسد معاً، وهي في الواقع تعادي الديموقراطية أكثر. هذه القوات لا تتوجّه بمصلحة ثورة، بل بمصلحة مموّلين وداعمين توجهّهم مصالح غير سوريّة، وهي مستعدّة أيضاً للمضيّ إلى النهاية في سحق أيّ صوت ديموقراطي أو علمانيّ أو مستقلّ، وفي التحريض الطائفي، وفي جدّيّتها في مسعى بثّ الروح في ممارسات تجاوزها العصر وفي إحياء مستحاثات تاريخيّة اسمها "إمارات" و"خلافة".
على هذا بتنا أمام صراع عدميّ، كل انتصار فيه هو خسارة. ليس انتصار نظام الأسد انتصاراً للدولة السورية، كما ليس انتصار "الجيوش" التي تقاتله انتصاراً للثورة. واكتملت الخسارة السوريّة حين نام الديموقراطيّون السوريّون "المحافظون" على طبيعة النظام الأسديّ معتبرين أنه ممثّل الدولة السوريّة، وأن مواجهة "الوهابيّين" و"الفاشيّين" توجب السكوت عن جرائمه؛ وحين نام الديموقراطيون السوريون "الثوريون" على التفارُق المذكور، وفشلوا في إبراز وجههم، والتحقوا في المحصّلة بآلة الخراب. الحال الذي يكثّفه قول أحد هؤلاء: "لولا جبهة النصرة لانتهت الثورة".
وإذا كان الديموقراطيّون السوريون ("ثوريّون" أو "محافظون") قد نقلوا سياسة الشرّ الأهون، ونقل البندقية من كتف إلى كتف، عن البلاشفة في الثورة الروسية 1917، دون الانتباه إلى أن البلاشفة كانوا قوة قادرة على استثمار مثل هذا التكتيك، فإن استعارتهم التكتيكية هذه كانت سياسة ضمور ناجحة، أوْدَت بهم إلى الحضيض في لحظة النهوض السوري العامّ من أجل الديموقراطية وباسمها. هذه المفارقة التي لا تجد تفسيرها سوى في بؤس المعارضة الديموقراطية السورية، في تذرّرها التنظيمي (مرض الزعامات الشهير)، وقصر نظرها في التكتيك، والأهمّ ربّما، جبنها السياسيّ وتقصيرها عن تحمّل مسؤوليّاتها.
كان من الطبيعي بعد هذا، أن يثابر من التحق بالنظام من الديموقراطيين السوريين على نزع صفة الثورة عن الانفجار السوريّ وإلحاقه منذ البدايات بمؤامرة وردّة إسلامية خليجية وما إلى ذلك، بما يريحه من مواجهة مهامّه الديموقراطية بعد أن أقنع نفسه أن مهمّة اليوم هي مواجهة الإسلاميين وأن النظام السوريّ هو رأس الحربة في هذه المواجهة؛ وأن يثابر من التحق منهم بالثورة على تقصّي الثوريّة في جهاد المركب الإسلامي المعادي للديموقراطية، بما يريحهم هم الآخرين من تحمّل مسؤوليّتهم السياسية وراء قصر نظر يقول بتجميد كل شيء حتى إسقاط النظام، وبالتالي قبول أيّ أداة تخدم في هذا السبيل، وكأن المهمّة مفصولة عن أداتها.
وقد حصل، مع الوقت، أن أصبح الديموقراطيّون على المَيلين، مأسورين ليس فقط لمسارهم السابق، بل ولأُطُر تنظيمية وارتباطات وعلاقات ونمط حياة تزيد من صعوبة مراجعتهم لخياراتهم. ومن الدلائل البارزة على ذلك أن الأحاديث الخاصّة أو الداخلية لهؤلاء كانت تعكس إدراكاً جيّداً بالخلل، دون أن يترجم ذلك إلى مراجعة جادّة وعلنيّة تقدّم لخطوات عمليّة. الخطوات العمليّة لهؤلاء الديموقراطيين كانت تأخذ شكل إنشاء تنظيمات جديدة متشابهة كأصابع اليد، ولكنها لا تشكّل يداً فاعلة مع ذلك، ولم تكن أكثر من عبث سياسيّ لداعمين، فيه دغدغة طموحات شخصية لطامحين شخصيّين ليس أكثر. وفي كل هذه المسارات كانت الدولة السورية هي المغدورة وكان المجتمع السوري هو الضحية.
الفراغ الذي نجم عن غياب خطّ ديموقراطي علمانيّ مستقلّ في المجال السياسي السوري خلال الثورة، سمح ببروز تصور سياسي يقول إمّا الأسد أو الجهاديّين. التصوّر الذي أربك الموقف الدولي تجاه الثورة، وزاد في الاستقطاب السوري الحادّ حول قطبين عسكريين مضادّين للثورة. ولا يقلّ أهمّية عن ذلك، أن هذا الاستقطاب أهدر كامل الرصيد المعنويّ للمعارضة العلمانية الديموقراطية في عيون الجمهور السوري، فتحوّلت إلى مجرّد تابع للنظام أو تابع لطيف الإسلاميين. وهي فوق هذا تبعيّة ذليلة، أولاً لأنها تبعيّة الضعيف، وثانياً لأن النظام كما الإسلاميين لا يقيمان اعتبار للديموقراطيين. يبقى من اللافت مستوى حماسة الطرفين التابعين، كل من موقعه.
ولا يقلّ أهمّية عن ذلك، أن الفراغ الذي أحدثه جبن الديموقراطيين السوريين، الذي تحجّب وراء سياسة "أهون الشرّين"، جعل النقد الوحيد أو الأبرز للإسلاميين هو النقد الذي ينطلق من موقع النظام والملتحقين به، بعد أن انسحب الديموقراطيون من مواقعهم. قد تقع على نقد "نظريّ" للإسلاميين، لكنه يشبه ما كان يُكتب من نقد نظريّ للنظام السوري مع السكوت السياسي عنه. راكم هذا سياسياً في رصيد النظام، مع كل عمل إرهابيّ خارجي يقوم به الجهاديون، ومع كل ممارسات همجية يرتكبونها في الداخل، سواء في سوريا أو العراق أو ليبيا أو مصر ..إلخ. وقد توجّه الديموقراطيون السوريون بالنقد إلى اليسار العالمي، والأوروبي خاصة، دون أن يلتفتوا إلى نقد دورهم في رسم اللوحة السورية بما يدفع اليسار واليمين العالمي إلى مواقفهم الحالية.
هل كان يمكن للديموقراطيين السوريين أن يغيّروا في مسار الحدث؟ هل كان لوجود جسم ديموقراطي علمانيّ مستقلّ ونشيط سياسياً أن يؤثّر في ظلّ العَسكَرة؟ نميل للإجابة بنعم. قوّة مثل هذا الجسم تنبع من ملاءمته لغالبية الجمهور السوري، وملاءمته للتصوّرات السياسية للدول الفاعلة التي لن تقبل بطيف الإسلام الجهادي. وجود هذا الجسم المستقلّ وغير المسلّح والمتمكّن سياسياً كان يمكن أن يشكل الجواب على السؤال الذي طالما تكرّر وشكّل ركيزة اصطفاف مضادّ للثورة: ما هو البديل عن الأسد؟ كان يمكن لقطب ديموقراطي سوري مستقلّ ومتماسك أن يشكّل محلّاً لاستقبال الثقل الدولي المضادّ للأسد وللإسلاميين، أي أن يشكّل جسراً بين طموح الشعب السوري، والمعايير العالمية المعلنة عن شكل الحكم.
.
.