حلب.. بين غياب الإرادة السورية وحضور المصالح الإقليمية
*ريناس سينو
حلب تراجيديا سوريّة جديدة بواقع وظروف ومناخات مختلفة، فرضتها التحالفات الإقليمية الجديدة التي باتت تلوح في الأفق، أعطت قوة وزخم لبعض اللاعبين وغيبت بعض اللاعبين الآخرين عن المشهد.
فما شهدناه من مآسٍ إنسانيّة في حلب، جعلت العالم أمام مأزق أخلاقي مرتبط بالقيم التي ينادي بها، فبعد أخذ وردّ طويلين بين الروس والأتراك، أُبرم اتّفاق الذي يقضي بخروج المقاتلين مع عائلاتهم، وفرز وتوزيع المقاتلين،الخارجين من حلب الشرقية على أساس إرسال عناصر جبهة النصرة إلى إدلب، وإرسال بقية المقاتلين التابعة لفصائل الأخرى إلى مناطق سيطرة قوات "درع الفرات".
هذا الاتّفاق أتى استجابة لحالة إنسانيّة كارثيّة، التي حلت بحلب الشرقية نتيجة حصار دام اكثر من 120 يوماً وهو الشيء الأهمّ الذي تحقّق، ولكنّ هذه الاستجابة الإنسانيّة تخفي وراءها الكثير من الأهداف السياسيّة، فمثل هذه الاتّفاقات تعزّز من سلطة أمراء الحروب من دول وجماعات.
فالنظام يعتبر هذا الاتفاق نصراً سياسيًّا كبيراً له، غير أن هذا الانتصار سوف لن يمكنه من إعادة السيطرة سياسيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً على كامل البلاد، إذ إن الجغرافيا في الحروب والثورات ليست كل شيء، على الرغم من أهمّيّتها، ناهيك عن عدم قدرته على الحفاظ على مساحة - فراغ بحجم مساحة حلب بعد كلّ هذه السنوات من الاستنزاف.
المؤكّد أن الصراع السوريّ سيأخذ منحى جديداً، ولكن ليس بين الأطراف السورية المتصارعة، بل بين الفاعلين الإقليميّين والدوليّين المنخرطين في الشأن السوري للحفاظ على مصالحهم ومناطق نفوذهم، في ظلّ افتقاد اللاعبين السوريّين القرار والإرادة في الجلوس إلى طاولة واحدة.
وفي ظل هذا التعقيد في المشهد السوري لا يمكننا بأيّ حال من الأحوال قراءة المستقبل في سوريا، ولكن يمكننا قراءة محتوى وفحوى ما آلت إليه الأوضاع بعد هذا الاتّفاق بعيداً عن الاستجابة للوضع الإنسانيّ، فروسيا وتركيا هما المنتصرتان الوحيدتان في هذه المعركة، رغم محاولة إيران امتطاء الاتّفاق في محاولة لتحقيق مكاسب بعد كلّ التضحيات التي قدّمتها.
حقّق الروس مكسباً سياسيّاً كبيراً على الإدارة الأميركيّة الحاليّة، والمتمثّل في إثباتها للعالم قدرتها على فكّ الارتباط بين الفصائل المتطرّفة المتمثّلة بجهة النصرة عن فصائل المعارضة المعتدلة، ونقلهم إلى إدلب، وبذلك تخلق ذريعة أكبر لشنّ هجوم سيكون أكثر شراسة من هجومها على حلب.
أمّا الأتراك فهم أمام فرصة كبيرة لتحقيق انتصارات عدّة، أوّلها تقوية قوات "درع الفرات" التي تقودها من خلال زَجّ الفصائل القادمة من حلب الشرقيّة ضمنها، وبالتالي استحواذها على أكبر عدد من فصائل المعارضة المسلّحة، ممّا يُشَرْعِنُ وجودها أكثر في سوريا، كما سيسمح لها بالاستمرار في التقدّم للحصول على مناطق سيطرة تنظيم الدولة "داعش"، وقد يتمّ توجيهها إلى الرقة بهدف إغلاق الطريق على "قوات سوريا الديمقراطية"، لكسب مزيد من الشرعيّة الدوليّة، حيث إن إستراتيجيّة الأتراك قائمة بشكل أساسيّ على تقليص مناطق نفوذ " قسد "، وليس على مواجهة مباشرة معها في هذه المرحلة على الأقل . كما أن نقل المدنيين إلى "جرابلس" سوف يسمح للأتراك بإدارة كتلة بشريّة أكبر، وجعلها الملاذ الآمن لجميع النازحين من مناطق الصراع الأخرى، وهذا ما يعنيه خلق منطقة عازلة طالما سَعَت وراءها.
في ظلّ كل هذا الجنون والتعقيد، بطبيعية الحال، لا يمكن على المدى المنظور تصوّر حلاً واضحاً في سوريا، إلا أن الحلّ الوحيد يبقى بأيدي الفرقاء السوريّين، وقدرتهم على بناء شراكات محلّية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين لكلّ الأطراف.
.
.