info@suwar-magazine.org

"القاعدة" وتحوّلاتها في سوريا

"القاعدة" وتحوّلاتها في سوريا
Whatsapp
Facebook Share

 

 

 *طارق عزيزة

 

 

 

مدخل

 

منذ القضاء على البنية الأساسية للتنظيم، بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان إثر هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، باتت "قاعدة الجهاد" تشكّل نهجاً ومجموعة من الأفكار وحالة رمزية في أوساط الجهاديين، أكثر بكثير مما هي تنظيمٌ متماسك واضح المعالم. وقد دفعت الظروف المستجدّة بأنصار القاعدة ومعتنقي نهجها إلى التكيّف مع الواقع والعمل بقدر أكبر من اللامركزية، لا سيما بعد قتل أو اعتقال الكوادر الرئيسية في أفغانستان، وتشرّد وتخفّي من بقي منهم، الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام "جيل جهاديّ" جديد للقاعدة، بدا نسبيّاً أنّه أقلّ انخراطاً في الجهاد المعولم، وأكثر اهتماماً بفرض نفسه محلّياً. لكنّ هذا الجيل "أكثر صلابةً وتشدّداً واندفاعاً من الجيل المؤسّس، لأنه في معظمه من الشباب أولاً، ويعمل في بيئته وعلى أرض بلاده ثانياً، أي أنه لا يوجد في أرض غريبة عليه مثلما كانت حال أقرانه في أفغانستان"[1].

 

 

وفي حين جاء الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 فرصةً ذهبيةً للقاعدة، سمحت لها بإعادة تجميع مقاتليها وإعادة تنظيم نفسها عسكرياً وبدء عملية لامركزية القرار، على ما يرى عدد من الباحثين[2]، إلا أنّ تجربتها هناك عبر المراحل والمنعطفات التي مرّت بها، كثيراً ما أسست لخلافات في الرؤى والإستراتيجيات والتكتيكات داخل "مجتمع القاعدة"، وصلت في نهاية المطاف إلى انقسام كبير فيه، أفضى إلى النزاع على راية "الجهاد العالمي" ما بين التنظيم الأم وأحد تطورّاته الهجينة التي أفرزتها تجربة العراق وامتدّت إلى سوريا، أي "الدولة الإسلامية"، بعد خلاف الأخيرة مع الفرع السوري للقاعدة، المسمّى حينها "جبهة النصرة لأهل الشام". هذه الجبهة التي لم يتوقّف الجدل يوماً بشأن دورها في سوريا، منذ ظهورها الأول بعد أشهر من انطلاق الثورة، وحتى بعد أن أعلن زعيمها "الشيخ الفاتح أبو محمد الجولاني" رسمياً فكّ ارتباط جماعته مع تنظيم القاعدة، وتغيير اسمها إلى "جبهة فتح الشام".

 

 

وإذ تتناول هذه الدراسة ظهور القاعدة وتحوّلاتها في سوريا بعد الثورة، من خلال تتبّع فرعها الرسمي (جبهة النصرة) تحديداً، تجدر الإشارة إلى وجود عشرات المجموعات الصغرى، يضيق المجال عن ذكرها، تشكّلت خلال الصراع الحالي وتسير على نهج القاعدة أيضاً، إذ لديها "إيمانها الواضح والمعلن بأفكار هذا التنظيم وأدبياته، تتبنّى شعاراته وقادته التاريخيين، ورموزه البصرية وتنويعات من رايته"[3].

 

جبهة النصرة لأهل الشام

 

كما في غيرها من بلدان "الربيع العربي"، كانت سوريا إحدى الوجهات التي قصدها عناصر القاعدة، مستفيدين من حالة الحراك الشعبي العارم، ثمّ فوضى السلاح التي حصلت بعد جنوح الثورة إلى العسكرة، والذي ترافق مع "أسلمة الثورة"[4]. وعلى نحو ما فعلت فروع عديدة للقاعدة بأن اتّخذت تسميات لا توحي بـ"قاعديّتها" ("أنصار الشريعة" في اليمن مثلاً)، كذلك كان حال الفرع السوري للتنظيم بادئ الأمر، فلم يكشف في بيانه الأول عن ارتباطه بالقاعدة. هذا الأسلوب اتّبعته القاعدة لتسهيل تغلغلها في المجتمعات المحلية لاسيما بعد انطلاق "الربيع العربي"، ولا يُستبعد أن يكون في هذا صدىً لما تردّد من "أنّ أسامة بن لادن كان يفكّر في تغيير اسم القاعدة"[5].

 

هكذا أعلن أبو محمد الجولاني، في 24 كانون الثاني/ يناير 2012 عن تشكيل (جبهة النصرة) لأهل الشام من مجاهدي الشام، عبر تسجيل مصوّر (لم يظهر هو فيه) حمل عنوان "شام الجهاد"، أصدرته "مؤسسة المنارة البيضاء للإنتاج الإعلامي" التابعة للجبهة، وبثّته العديد من المواقع الجهاديّة المرتبطة بالقاعدة، كموقع "شموخ الإسلام" وسواه. دعا الجولاني السوريين إلى الجهاد وحمل السلاح في وجه النظام، وأكّد أن (جبهة النصرة) لم تظهر إلا "لإعادة سلطان الله إلى أرضه"[6].

 

بادئ الأمر لم يلقَ التسجيل اهتماماً كبيراً في أوساط نشطاء الثورة، لا سيما أولئك الذين حاولوا الحفاظ على الوجه السلمي المدني لها، متجاهلين "اللغة الجهادية" التي بدأ تداولها. في حين ردّ بعضهم بالتأكيد على الشعارات الأساسية المطالبة بالحرية، مع التركيز على وحدة الشعب السوري ونبذ الطائفية، وبالتالي رفض المصطلحات الدينية والطائفية الفاقعة، والخطاب السلفي الجهادي في توصيف طبيعة الصراع في سوريا، فيما نفى قياديون معارضون بارزون ورفضوا أيّ دور للقاعدة في سوريا، معتبرين هذا من "نسيج النظام لتحويل الأنظار عمّا يحصل"[7]. لكنّه موقف لم يستمرّ طويلاً[8].

 

وعلى الرغم من أسبقية "الجيش السوري الحر" في التشكّل والقتال ضدّ النظام، وتلقّيه الدعم من قبل المعارضة والدول المساندة لها، بدأ حضور (النصرة) يطغى عليه في العديد من المناطق. فقد أظهرت فاعلية ميدانيّة كبيرة، وحققت انتشاراً واسعاً في مدّة قياسية، لتغدو إحدى أبرز المجموعات التي تقاتل النظام، ومن ثمّ عملت مع غيرها من المجموعات الإسلامية، ومن ورائهم الرعاة الإقليميون، على تحجيم دور "الجيش الحر" وإحلال الرايات الجهادية محلّ علم الثورة الذي كان يرفعه. وإنّ ممّا نفخ في نار الأسلمة والتطييف وشجّع تصدّر الجهاديين للمشهد، كان تعاطي قوى إقليمية عدّة مع ما يجري في سوريا من منظور "الصراع السنّي - الشيعي"، الذي يغلّف التنافس الإقليمي على سوريا واصطفافاته بغلاف مذهبي. فباتت البلاد ساحة للحروب الدينية "المقدّسة" بين مجانين الجهاد، سنّة وشيعة، مع تقاطر "المجاهدين الشيعة" للدفاع عن النظام في مواجهة "المجاهدين السنّة"!

 

 

في كل الأحوال، لم تتمّ (جبهة النصرة) عامها الأول إلا وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أدرجتها على قائمتها للمنظمات الإرهابية، وذلك في كانون الأول/ ديسمبر 2012، على الرغم من عدم إعلان الجبهة في ذلك الوقت صلتها بالقاعدة صراحةً (اتخذ مجلس الأمن الدولي قراراً مماثلاً في أيار/ مايو 2013[9]، أي بعد إعلان الجولاني تبعيّته للقاعدة وبيعته للظواهري)، ما أثار موجة تعاطف معها في بعض أوساط المتظاهرين والمعارضين، الذين رفضوا وسم النصرة بالإرهاب وعبّروا عن هذا الموقف بتسمية مظاهرات يوم الجمعة التالي للقرار باسم "لا إرهاب في سورية سوى إرهاب الأسد"[10]، ونُظِر إلى الجبهة وعناصرها بوصفهم جزءاً من الثورة.

 

أدرك قادة (القاعدة) ضرورة مراعاة الظروف المحلية في سوريا وعدم تكرار أخطاء التنظيم في العراق. فبعد نجاح النصرة في إثبات فاعليّة عسكرية، بدأت العمل على تعزيز وجودها بين السكان واستمالتهم، لا سيما في مناطق ثقلها الأساسي (حلب وإدلب وأريافهما) من خلال العمل الدعوي والعديد من الجوانب الخدمية، اعتماداً على التمويل الجيّد الذي تتمتّع به. ذلك أنّه إلى جانب التبرعات و"الغنائم"، وضعت الجبهة يدها على صوامع الحبوب في حلب، وتولت حماية المصانع فيها، فحصلت من التجار الخائفين على مصانعهم من السرقة والنهب على مقابل مادي، كما سيطرت على عدة آبار للنفط في المنطقة الشرقية واستخدمتها في تمويل نشاطاتها. وأقامت مشاريع خدمية مثل مشروع "باصات النقل العام" في حلب وريفها والتي عادت على الجبهة بمردود مالي كبير[11].

 

على أنّ ذلك كلّه لم يمنع خروج الناس في مظاهرات تندّد بالنصرة وزعيمها، في مناسبات مختلفة شملت العديد من مناطق انتشارها، نتيجة فرض نموذجها الديني المتشدّد وممارسة العديد من الانتهاكات بحق المدنيين، ومنهم نشطاء في الثورة، وأيضاً بسبب قتالها ضدّ فصائل من الجيش الحر[12].

 

الشقاق مع فرع العراق

 

ثمة علاقة مبكّرة جمعت (النصرة) مع (القاعدة) في العراق، اختُلف في تحديد ماهيّتها. فهناك من يعتقد أنّ الجولاني كان مكلّفاً من قبل (قاعدة) العراق، وكان اسمها "دولة العراق الإسلامية" بزعامة أبو بكر البغدادي، بتشكيل نواة (النصرة) لتكون امتداداً للقاعدة في سوريا، وأنّه اختلف مع البغدادي لاحقاً. ويرى آخرون أنّ المسألة لم تتعدّ الدّعم والتنسيق بينهما، لكون الجولاني ومعظم مقاتليه سبق وعملوا تحت لواء القاعدة في العراق، ونالوا مباركة أيمن الظواهري بعد تشكيل الجبهة، لكنّ البغدادي أراد "سحب البساط" من تحت الجولاني والسيطرة على (النصرة)، بعدما قويت شوكتها وتصاعد دورها، ولم يعدم كلّ من الفريقين أسباباً ومبرّرات لموقفه تجاه الآخر[13].

 

وقع الطلاق بينهما في 9 نيسان/ أبريل 2013، بعد نشر تسجيل للبغدادي يعلن "أن (جبهة النصرة) ما هي إلا امتداد لدولة العراق الإسلامية، وجزء منها" وقراره توحيد الجماعتين بقيادته[14]، وهو ما رفضه الجولاني إذ نفى علمه بالقرار أو أنّ أحداً استشاره قبل اتّخاذه، مع ذكر فضل "الأخوة في العراق" وأنه دين عليه، لموافقة البغدادي على مشروعه للتمدد في سوريا وتقديم المال والرجال لمساعدته، وأكّد بيعته وجماعته للظواهري.[15]

 

مع اشتداد الخلاف تدخّل الظواهري، وقرّر إلغاء "الدولة الإسلامية في العراق والشام" واستمرار العمل بـ"دولة العراق الإسلامية"، وأن تكون (النصرة) "فرعاً مستقلا لجماعة (قاعدة الجهاد) يتبع القيادة العامة". وأمر المجموعتين بالكف "عن أي اعتداء بالقول أو بالفعل ضد الطرف الآخر"، وبتقديم الدعم بشكل متبادل. ووجّه انتقاداً للبغدادي والجولاني لأنهما أخطأا باتّخاذ قرارات دون الرجوع إليه، لكنّه أقرّهما في منصبيهما لمدة عام يجتمع بعده مجلس شورى كل من الجماعتين ويرفع تقريره لقيادة (القاعدة[16]). كان موقف الظواهري محاولة لتأكيد سلطته كزعيم للقاعدة، ومنع تجاوزه من أيّ فرع لها مهما بلغت قوّته.

 

في بداية الخلاف التزمت (النصرة) بقرار الظواهري عدم التهجم على الفريق الآخر، وتركت باب المصالحة مفتوحاً دون نتيجة، فالبغدادي لم يوقف حربه الكلامية ضدّ الجولاني والظواهري، وكان رأس حربتها أبو محمد العدناني، الناطق باسم الدولة الإسلامية (قتل آواخر أب/أغسطس 2016 بغارة استهدفته شمال سوريا)، فاتهم الظواهري بالعمالة والحرب على الإسلام، وأن "هذا الإسلام الوطني أو المعتدل أو الأمريكي هو النسخة المستحدثة التي سعى الظواهري إلى تطبيقها"[17]. فلم تجد (النصرة) بدّاً من المحاججة الشرعية والفقهية رداً على أطروحات الدولة الإسلامية، وبلغ الأمر حدّ اتّهامها للدولة صراحة بالتعامل مع المخابرات الإيرانية والسورية[18]. واستمرّ التراشق بينهما، فشرعيّو الجبهة يصفون عناصر الدولة بالخوارج والبغاة، وهؤلاء يصفون النصرة بالمرتدّين.

 

 

وانقسمت القاعدة بين الفريقين، وتوزّع "المهاجرون" بينهما، فيما نأى قسم منهم عنهما نتيجة الانقسام ليشكّلوا مجموعاتهم الخاصّة أو ينخرطوا في كتائب جهادية أخرى. اقتتل أخوة الأمس مراراً، وقطع تنظيم البغدادي صلاته بالقاعدة معتبراً أنها لم تعد موجودة، ثم نصّب نفسه خليفة في نهاية حزيران/ يونيو 2014، ليعلن الجولاني بعده بأيام إقامة "إمارة إسلامية على أرض الشام تطبق شرع الله، تجبي الزكاة وتقيم الحدود"[19].

 

مواجهات وتحالفات

 

غلب التوتّر والخلاف على العلاقة بين (النصرة) و(الجيش الحرّ)، وسُجّلت عدة عمليات اغتيال في صفوفه نُسبت إليها، إضافة إلى خوضها معارك ضدّ عدد من فصائله في مناسبات متفرقة، مثل "لواء أحفاد الرسول" و"الفرقة 13"، والقضاء على أخرى كـ"حركة حزم"، عدا عن استقطاب المقاتلين ذوي الميول الجهادية لحثّهم على تركه والانخراط في صفوفها، وقد أصابت نجاحاً كبيراً في هذا، على حساب بنية وتماسك مجموعاته المختلفة. كما قامت (بالتعاون مع شقيقتها اللدود، الدولة الإسلامية) بشنّ هجمات كبيرة وعمليات تفجير واغتيالات استهدفت المناطق ذات الكثافة السكانية الكردية، ما دفع "وحدات الحماية الشعبية" الكردية إلى إعلان "النفير العام" لمواجهتها[20]، وكانت الحرب هي عنوان العلاقة بين الجانبين في أي منطقة يكونان على تماسّ فيها.

 

في المقابل، وضمن رؤيتها الإستراتيجية وسعيها لتكريس حضورها في المشهد السوري، شرعت (النصرة) في فرض نفسها على الجماعات المقاتلة ذات الهوية الإسلامية التي تكاثر ظهورها، ونسجت علاقات وثيقة مع العديد منها. ساعدها في ذلك نجاحها في السيطرة على نقاط ومواقع حيوية شمال البلاد تتقاطع مع طرق إمداد الفصائل الأخرى، التي وجدت بدورها مصلحة في التعامل مع النصرة والاستفادة من شدّة بأس مقاتليها وخبراتهم. بدأت (النصرة) بتنفيذ بعض العمليات العسكرية المشتركة مع بقية الفصائل، ثم شاركت في "الهيئات الشرعية"، وقامت بإصدار بيانات وإعلان مواقف سياسية موحدة مع بعضهم في مناسبات عديدة، (كالموقف من تشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، أو الحكومة المؤقتة، أو العملية السياسية)، وصولاً إلى التحالف الأوثق الذي توصّلت إلى عقده مع العديد من المجموعات الجهادية، وحمل اسم "جيش الفتح"[21]، والذي استطاع قلب الموازين العسكرية ويهزم قوات النظام في العديد من المناطق، خصوصاً بعد السيطرة على محافظة إدلب بالكامل.

 

على أنّ حالة التقارب والتحالف والتنسيق العسكري وإن جمّدت الكثير من الخلافات الجوهرية بين الجبهة وبقية الفصائل لكنّها لم تلغها، ولم توقف التنافس والتجاذبات داخل المعسكر الواحد.

 

جبهة فتح الشام

 

نتيجة لما سبّبته مرجعية (النصرة) وهويتها القاعدية من "إحراج" للمعارضة السورية، أطلقت الأخيرة العديد من الدعوات للجولاني تحثّه على فك ارتباطه بالقاعدة[22]. غير أنّ هذه الخطوة قد تأخّرت حتّى 27 تموز/ يوليو 2016، حين أعلن أبو محمد الجولاني إلغاء العمل باسم "جبهة النصرة"، وإعادة تشكيل جماعة جديدة ضمن جبهة عمل تحمل اسم "جبهة فتح الشام". كان واضحاً أنّ "فك الارتباط" هذا لم يكن أكثر من إجراء شكلي، فقد جاء بتوجيهات ومباركة من قيادة تنظيم القاعدة، وفق ما ذكر الجولاني نفسه، عدا عن أنّ التشكيل الجديد أعلن استمراره على النهج ذاته[23].

 

 

بحسب الجولاني، كان من بين أسباب إنشاء التشكيل الجديد إفساح المجال لمزيد من التقارب والتعاون وصولاً إلى التوحد والاندماج مع بقية الفصائل الإسلامية الفاعلة. وبوشِرت المشاورات بهذا الشأن ووصلت إلى مرحلة متقدّمة على ما أعلن في أول لقاء صحفي أجراه بعد تشكيل "جبهة فتح الشام"، مؤكداً على الدوافع "الشرعية" و"الفطرية" للاندماج، وكذلك الدافع "السياسي" مع "غضّ الطرف عن الاختلافات إلا ما يمسّ المبادئ العامة"[24].

 

غير أنّه في ضوء عدم القيام بمراجعات أو إجراء تغيير في نهج عمل الجبهة ووسائلها وأهدافها، يجدر التساؤل، كيف يستقيم التوحّد والاندماج مع "حركة أحرار الشام" مثلاً، وقد انضمّت إلى "العملية السياسية"، منذ مشاركتها في مؤتمر الرياض ومن ثمّ الهيئة العليا للمفاوضات، في حين أنّ الجولاني نفسه، في تسجيل سابق تداولته مواقع إلكترونية جهادية، يقول ما نصّه: "نحن كمسلمين لا نؤمن بعملية ولا بأحزاب سياسية ولا بانتخابات برلمانية، بل نؤمن بنظام حكم إسلامي تبسط فيه الشورى ويُنشر فيه العدل وسبيلنا لتحكيم الشريعة هو الجهاد في سبيل الله"[25].

 

ولعلّ المؤشّر الأهمّ من ذلك على صعوبة اندماج الجماعتين هو الخلاف الذي استجدّ بينهما، حول الموقف من المشاركة في عملية "درع الفرات" التي ينفّذها الجيش التركي شمال سوريا، بمشاركة عدد من فصائل الجيش السوري الحر، وبدعم من الولايات المتّحدة والتحالف الدولي الذي تقوده، تحت عنوان محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية"، إلى جانب الأهداف التركية المعلنة عن طرد المقاتلين الأكراد من الشريط الحدودي.

 

فبعد نحو شهر على انطلاق العملية (بدأت في 24 أب/ أغسطس 2016)، أصدر "المجلس الشرعي" في حركة أحرار الشام "فتوى" تسمح لها ولحلفائها قتال "الدولة الإسلامية" بالتنسيق مع الجيش التركي[26]. وجاء الرد سريعاً من قبل جبهة فتح الشام، إذ أصدرت بياناً أعلنت فيه "حرمة القتال بريف حلب الشمالي تحت أي طرف إقليمي أو تحالف دولي لا على جهة الاستعانة ولا من باب التنسيق لعدم توفر الشروط الشرعية بهذه الحالة"[27].

 

 

أدّى قرار "أحرار الشام" إلى انشقاقات واستقالات داخل الحركة. وبما أنّ موقف "فتح الشام" ينسجم مع المنشقّين عن الأولى، فلا يُستبعد في هذه الأجواء أن ينضمّ هؤلاء إليها لا سيّما وأنّ هناك سوابق كهذه[28]. على أنّ هذه التطورات لن يقتصر أثرها على الفصيلين المعنيين فحسب، وإنما قد تطال تحالف "جيش الفتح" نفسه، فهما يمتلكان القدرات الميدانية والعسكرية الأكبر فيه، عدا عن كون كلّ منهما المنافس الأبرز للآخر، في توجيه مسارات عمل هذا التحالف وأولوياته.

 

العدوّ الأمريكي

 

تغيير الأسماء لم يكن ليغيّر من الهويّة الإرهابيّة لفروع (القاعدة) في العالم، وأولوية محاربتها في معادلة الأمن القومي الأمريكي، التي يعتقد القائمون عليها "أن التهديد الرئيسي اليوم لم يعد يأتي من القيادة المركزية لتنظيم القاعدة. ولكنه بدلاً من ذلك، يأتي من المتطرفين والجماعات المنتسبة لتنظيم (القاعدة)، والتي للعديد منها توجّهات تتركّز في البلدان التي تعمل فيها"[29]. وجرياً على ذلك، كان نهج (النصرة) القاعدي كافياً لتصنيفها على لوائح الإرهاب حتى قبل أن تكشف انتماءها إلى (القاعدة) بشكل علني، كما مر بيانه.

 

كذلك الحال بعد "فك الارتباط"، وإنهاء العمل باسم "جبهة النصرة" والإعلان عن التشكيل الجديد. ففي أول ردّ فعلٍ أمريكي على تشكيل "جبهة فتح الشام"، أعلن البيت الأبيض أن تقييمه للنصرة لم يتغير رغم فك ارتباطها بتنظيم القاعدة، كما قالت وزارة الخارجية الأميركية إن الجبهة ما زالت هدفاً للقصف بسوريا[30]. وهو ما جرى بالفعل، حيث قامت طائرات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة باستهداف "أبو عمر سراقب"، أحد القادة البارزين في "جبهة فتح الشام" والقائد العسكري لتحالف "جيش الفتح"، الذي قضى مع عدد آخر نتيجة للغارة[31].

 

مقابل ذلك، في أول لقاء صحفي يجريه بعد تغيير اسم جماعته، أطلق "الجولاني" ما بدا أقرب إلى تهديد لأمريكا. ففي سياق تعليقه على الاتفاق الروسي – الأمريكي والهدنة التي أُعلن عن بدئها في 12 أيلول/ سبتمبر 2016، واستثنيت منها الجبهة (لم تصمد الهدنة وسقطت خلال أيام)، قال زعيم "فتح الشام" أنّ أمريكا "وضعت نفسها في صف الروس والنظام وستجد نفسها في صدام ليس في مواجهة فصيل واحد وإنما في مواجهة الشعب"[32]. ثم بعد ذلك بأيام قليلة، كانت أدبيات القاعدة التقليدية تجاه الولايات المتحدة حاضرةً في البيان الذي أصدرته الجبهة بخصوص عملية "درع الفرات" السابق ذكرها. كالقول: "فالأمريكان عدو كافر صائل مباشر على المسلمين، فيحرم التعامل معه بأي نوع من أنواع التعامل، تحت أي مبرر وذريعة، مهما تأوّل المتأوّلون حينها فلن يجنوا سوى الحكم عليهم بحكم من يتولى الكافرين"[33].

 

خلاصة

 

قد يبدو صحيحاً القول إنّ فرع القاعدة الرسمي في سوريا (جبهة النصرة لأهل الشام، ثم جبهة فتح الشام)، قد تميّز بمرونة نسبية طبعت تكتيكاته المختلفة، إن كان من حيث ترتيب الأولويات وعقد التحالفات، أو لجهة التقرّب من السكان عبر بسط الأمن وتقديم الخدمات، ووصولاً إلى الاقتصاد في الذبح وترهيب الناس قياساً بأقرانه في "الدولة الإسلامية".

 

 

غير أن ذلك كلّه لم يجعل منه فصيلاً سورياً، ولم يحل دون بقائه قوّة دخيلة على المجتمع السوري. فلا مرجعيته ولا أدبياته ولا أهدافه اختلفت كثيراً عن القاعدة الأم، لأن هذا جزء من تكوينه ويظهر دوماً في خطابه وسلوكه ومشروعه الطائفي المذهبي، و"الإمارة الإسلامية" التي أعلنها. الأمر الذي لا يتّفق البتّة مع الثورة السورية وأهدافها، ناهيك عن تناقضه مع حقيقة التنوّع الديني والمذهبي في سوريا. وحتى فيما خصّ "أهل السنّة في الشام"، الذين يدّعي الدفاع عنهم ويتحدّث باسمهم، فإسلامهم لم يكن يوماً على مقاس الإسلام القاعدي وتشدّده.

 

لا يخفى أنّ المجتمع الدولي، المتواطئ أساساً على ثورة السوريين، سيجد دوماً شمّاعة لتبرير تقاعسه عن كفّ الأسد عن إجرامه، وهي حكاية "الحرب على الإرهاب"، وليس هناك من عنوان أكثر جاذبية لهذه الحرب من "القاعدة"، فهي منظّمة إرهابية في حقيقتها، وليس لأن الغرب أراد أن يقول ذلك. التعامل مع هذا الواقع والحذر من تبعاته سيشكّلان تحدّياً يواجه حلفاء القاعدة/ النصرة/ فتح الشام، على الأرض. ولعلّهم يدركون أنّ التحالف معها على كارثية تبعاته، لا يمكن تحقيقه بسهولة، فهي كحالة نموذجية للسلفية الجهادية، ترى نفسها نقيّةً فيما تنظر إلى الآخرين بأنهم بحاجة إلى التنقية في الاعتقاد والممارسة. والأهم هو كونها، كأي حركة دينية/عسكرية، لا تقبل مشاركة سلطتها بسهولة، ولا توفّر جهداً لإضعاف الخصوم والمنافسين (والحلفاء أيضاً) للهيمنة عليهم.

 

إن جوهر القاعدة وخطرها لن يتغيّر مهما حاولت أن تبدّل جلدها أو اسمها طالما أن مرجعيتها ومشروعها العدمي هو ذاته. وهي لن تكون جزءاً من ثورة الشعب السوري فقط لمجرّد شدّة بأس مقاتليها في مواجهة النظام، "فالجماعة التي تقاتل النظام الأسديّ بكفاءة، على ما قال المدافعون عنها يوم اعتبرها الأميركيّون منظّمة إرهابيّة، إنّما تقاتل الثورة بكفاءة أكبر، مطيلةً عمر النظام الذي تقاتله، وممعنة في تفتيت مجتمع مفتّت أصلاً"[34].

 

 

 


[1] عبد الباري عطوان، (ما بعد بن لادن. القاعدة، الجيل التالي)، ترجمة سعيد العظم. دار الساقي، الطبعة الأولى 2013. ص12

[2] للمزيد حول هذا راجع: فؤاد جرجس (القاعدة، الصعود والأفول). مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2012

[3]مجلة عين المدينة (طيف القاعدة، الحركات السلفية الجهادية الصغرى في سورية). إصدار خاص، تموز 2016. وفيه معلومات تفصيلية عن هذه الجماعات التي وصفتها المجلة بـ"طيف القاعدة"، منها جماعات انضمّت لاحقاً إمّا إلى جبهة النصرة أو الدولة الإسلامية بعد الخلاف بينهما، فيما تشكّل بعضها من من جهاديين أثروا النأي عن الخلاف وعدم الانحياز لأحدهما، في حين واصل عدد آخر العمل بصورة مستقلة منذ البداية وحتى الآن. غالبية هذه الجماعات مدرجة على لوائح الإرهاب.

[4] حول هذا الموضوع انظر: (قراءة في ظاهرة "أسلمة" الثورة السورية). مجلة صور ومركز دراسات الجمهورية الديمقراطية.

[5] ما بعد بن لادن. (مصدر سابق) ص 340

[6] التسجيل متوفر على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=Q3ERodHVHgo

[7] "معارضون سوريون يقللون من أهمية دور القاعدة في الثورة" http://www.arabsea.com.sa/news-action-s-id-2812.htm   

[8] للمزيد من التفاصيل انظر: قراءة في ظاهرة "أسلمة" الثورة. (مصدر سابق). تجدر الإشارة أنّ منظّرين معتبرين في التيار الجهادي شكّكوا بالجبهة أول الأمر، ومنهم أبو بصير الطرطوسي،  الذي انحاز فيما بعد إلى جانب الجولاني بعد خلافه مع البغدادي.

[10] تمكن مشاهدة "برومو" الترويج لتلك الجمعة على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=khfNdIb6Vbs

[11] حمزة مصطفى المصطفى (جبهة النصرة: من التأسيس إلى الانقسام). سياسات عربية، العدد 5، تشرين الثاني/ نوفمبر 2013

[12] تمكن مشاهدة العشرات من المقاطع المصورة منشورة على يوتيوب توثّق ذلك.

[13] للتوسّع في نقاط الخلاف، راجع (جبهة النصرة: من التأسيس إلى الانقسام). مصدر سابق.

[14] يمكن الاستماع إلى التسجيل عبر الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=Prmdig_KvEg

[15] يمكن الاستماع إلى التسجيل عبر الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=fuBud6e8ehc

[16] يمكن الاستماع إلى رسالة الظواهري على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=FzZFwKjehtQ

[17] انظر: (قاعدة الظواهري وإمارة الجولاني إلى أين) على الرابط:  http://www.aljana.3abber.com/post/245260 ضمن منتدى "المشتاقون إلى الجنة"،ويمكن على مواقف العدناني كافّة في الموقع نفسه.

[18] تسجيل نُشر بتاريخ 29 كانون الأول/  ديسمبر 2013، على الرابط https://www.youtube.com/watch?v=SDMUfbSd8eE

[19] تسجيل نُشر بتاريخ 11 تموز/ يوليو 2014، على الرابط https://www.youtube.com/watch?v=kzV2mI70edw

[20] الأكراد يعلنون "النفير العام" لمواجهة الجهاديين في سوريا، 31 تموز/يوليو 2013 http://www.kurdtalk.net/2013/2161

[21] تشكّل في 24 آذار/ مارس 2015، وضمّ "أحرار الشام"، و"جبهة النصرة"، و"جند الأقصى"، و"جيش السنة"، و"فيلق الشام"، و"لواء الحق"، و"أجناد الشام". لاحقاً خرج منه "جند الأقصى" بعد اتهامهم بالتعاون مع "الدولة الإسلامية"، وقيام "جند الأقصى" بتخوين فصائل من "جيش الفتح"، لمشاركتها في مؤتمر الرياض. أعيد تشكيله مجدداً مطلع أيار/ مايو 2016 من الفصائل المؤسسة ذاتها عدا "جند الأقصى"، وانضمّ إليه "الحزب الإسلامي التركستاني".

[22] إحدى تلك الدعوات صدرت عن خالد الخوجة، الرئيس السابق للائتلاف الوطني، وذلك في أول تصريح له بعد انتخابه رئيساً. وأخرى من محمد حكمت وليد، المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا.

[23] إعلان تشيل "جبهة فتح الشام"، على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=oossAtDYbrs

[24] تمكن مشاهدة اللقاء على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=kd7HIJTLPcY

[25] "وقابل الأيام خير من ماضيها"، نُشر في 21 تموز/ يوليو 2013 على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=o6NOFiJRqSw

[26] "أحرار الشام" تشارك في معارك "درع الفرات" شمالي حلبhttps://smartnews-agency.com/ar/wires/200074

[27] "جبهة فتح الشام "تحرّم" قتال الفصائل إلى جانب الجيش التركي!". أورينت نت، 23/9/2016.

[28] " انشقاقات في «حركة أحرار الشام» على خلفية فتوى الاستعانة بالجيش التركي"، القدس العربي، 23 أيلول/سبتمبر 2016

[29] "مقتطفات من خطاب الرئيس أوباما في حفل تخرج طلاب أكاديمية وست بوينت العسكرية"، 28 أيار/ مايو 2014، على الرابط: http://translations.state.gov/st/arabic/texttrans/2014/05/20140528300295.html#axzz4Ks9zQaUH

[30] "واشنطن: الموقف من جبهة النصرة لم يتغير". الجزيرة.نت، 28/7/2016.

[31] "مقتل أبو عمر سراقب أحد قادة جبهة فتح الشام البارزين في غارة جوية على حلب" بي بي سي، 9 أيلول/ سبتمبر 2016.

[32] راجع الهامش رقم 24.

[33] راجع الهامش رقم 27.

[34]حازم صاغية، (الثورة أو "النصرة"). الحياة، 28 كانون الثاني/ يناير 2013. http://www.alhayat.com/OpinionsDetails/477199

.

.

اقرأ المزيد للكاتب   

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard