تحوّلات في حياة الشباب الدمشقيّ ما بعد آذار 2011
*بسام سفر
بين باب شرقي( البوّابة الشرقية للمدينة القديمة في دمشق)، وبين مأذنة الشحم على مدخل سوق مدحت باشا، تكاثرتِ الحانات والملاهي والبارات والمطاعم بكافّة المسمّيات العربية واللغات الأجنبية. وإيقاع السهر اليومي في مربع من" باب توما إلى القيمريّة وقهوة النوفرة وصولاً إلى حديقة القشلة وباب شرقي يفوق المُتَصوّر ما قبل الثورة، ومع الإيقاعات الجديدة لا تغلق هذه المنطقة إلا في الصباح ولساعات قليلة، روّادها شباب من كافة المناطق الدمشقيّة.
غيّرت الثورة السورية في حياة الشباب السوري الثائر خصوصاً في بداياتها والأشهر الأولى، حيث وضعته أمام تحدّياتٍ ومهامّ جديدة بعيدة كل البعد عن الحياة التقليدية الكلاسيكية، فمن قضيّة التظاهُر الأسبوعي نهار الجمعة، إلى التظاهُر اليومي في بعض الأماكن الثابتة إلى المظاهرات الطيّارة، وأشكال أخرى من النضال اليوميّ، حيث تشكّلت فرق الإغاثة الطبّية، وجمع المساعدات الإنسانية والغذائية إلى المناطق المنكوبة والمهجّرين.
الراحل "أنس عمارة، أبو مالك" حمل على ظهره حقيبة من الأدوية الطبّية، وسار بها حتى أوصلها إلى المحتاجين لها في دوما في إحدى الليالي عندما كان خطّ السير الاعتياديّ بين دمشق ودوما مفتوحاَ.
وفرضت الثورة إيقاعاَ مختلفاً على العديد من الشخصيات التقليدية منها، الراحل (عبد الحي السقّال) الذي غادر أسرته وحياته الخاصة، وتخفّى من شوارع وأحياء دمشق، وبقي أميناَ إلى العمل المدني الأهلي حتى فرضت العسكرة ذاتها على العديد من الشباب السوري الثائر، ورغم الحوارات العميقة والمختلفة مع هؤلاء الشباب الراحلين، والخلاف حول العسكرة إلا أن الحوارات والنقاشات معهم لم تنقطع حتى لحظة اغتيالهم في الريف الدمشقيّ.
وبالمقابل على الضفة الأخرى من الشباب السوريّ الثائر الذي لم يقتنع بالعسكرة، ولم يذهب باتّجاه الفصائل العسكريّة، ماذا فعل بعد خطف العسكرة للشقّ المدني- الإنساني- المتظاهر؟ برزت ظاهرة من أخطر الظواهر في حياة الشباب السوريّ الذي انكفأ على ذاته نحو داخله، ولم يستطيع إيجاد مساحة جديدة تليق به.
تلك المجموعات لم تستطيع الاستمرار في التظاهُر اليوميّ أو الأسبوعيّ في أيام الجمعة، وتحوّلت إلى فرق للدعم والمساعدات والإغاثة للكثير من المناطق المنكوبة خصوصاً في العام 2012، حيث تشكّلت مجموعات كبيرة لهذا الدعم وعملت على نقل المساعدات الغذائية والتموينية والطبّية إلى المدارس والمراكز التي يتجمّع فيها المنكوبون من جميع البقاع الدمشقية سواء" الحجر الأسود واليرموك أم المليحة وحرستا وتل منين والسبينة والحسينية وعين ترما وجوبر".
هذه المجموعات والفرق عملت على جمع المساعدات من الأهالي وإيصالها إلى المراكز في المناطق المتوفّرة في دمشق سواء كانت في" جرمانا، مخيم جرمانا، قدسيا، ضاحية قدسيا، الدويلعة، الطبالة، باب شرقي، باب توما، حي الأمين، الشاغور، ركن الدين، المهاجرين، وغيرهم......".
في صيف 2012، ظهرت أزمة الخبز في أحياء دمشق، فبادر عدد من الشباب وفي مقدّمتهم مهدي الناصر وزملاؤه حملوا الخبز من فرن الهامة إلى مدارس مخيّم جرمانا وجرمانا، و حمل عدد من الراحلين المعونات الغذائية من الميدان إلى ذات المراكز، والمعونات الإغاثية الطبّية من مخيم اليرموك إلى ذات المركز.
العسكرة وهزيمة القوى السياسية المدنية:
فرضت العسكرة إيقاعها على الشباب السوريّ الثائر، وخصوصاً قسم من تنسيقيّات الأحياء الكلاسيكية، سواء في الميدان أو الحجر الأسود، وغيرها من تنسيقيّات الأحياء القريبة من دمشق، وتنسيقيّات ريف دمشق التي فعلت فعلها في بداية الحراك الجماهيري الشعبيّ، لكن مع تحوّل العسكرة والتمويل والتخلّي عن المظاهرات لمصلحة السلاح، حيث دفع عنف النظام قسم من هؤلاء الشباب إلى حمل السلاح من بوّابة حماية التظاهرات ليصبح الشكل العسكريّ هو الأساس، والتظاهُر فعل شكلانيّ لدى حملة السلاح.
بالإضافة إلى ذلك لم تستطيع قوى المعارضة السياسية الكلاسيكية احتواء الفعل الشعبي الجماهيريّ، والعمل على استمراره، نتيجة خطابها السياسي النخبويّ وحصر فعلها في أوساط النخبة، ولم تستطيع جعله خطاباً جماهيرياً واسعاً، وإنما بقي فعلها في إطار الشعارات على الأكثر، وعملت على بلورة خطاب سياسي نخبويّ يتضمّن نواة الحلّ السياسي الذي ظهر منذ نهايات العام 2011، لكنّ رهان القوى الإسلامية (الإخوان المسلمين، حزب التحرير) على العسكرة والردّ على الرصاص بالرصاص لعب دوراً كبيراً في بداية المرحلة الأولى من العسكرة في كتابة الحياة لمشروع النظام، فالنظام الذي هزمته القوى السياسية والمدنيّة في عدم الانجرار وراء العسكرة، واستطاع ذلك من خلال الفصائل المسلّحة بثّ الروح في مشروع هزيمة الثورة حيث قادها إلى ملعبه وساحته، وهو الحقل العسكري، ورغم النجاحات العامة في البداية قبل تحوّل قسم من هذه القوى إلى فصائل إسلامية أصوليّة وحشد الرأي العام العالميّ والمحلّي ضدّ القوى والعديد من الفصائل المصنّفة على قوائم الإرهاب" داعش، والنصرة وغيرها".
وبذلك قاد العمل العسكري بشكل غير مباشر إلى حقول التصنيفات الدولية والأممية للإرهاب، وحيث لا يوجد تصنيف موحّد للإرهاب، أصبح الجميع يخضع للوقائع الميدانية. وأمام هذا الوضع شطبت وهضمت الفصائل الكبرى مثل داعش والنصرة الفصائل الصغيرة لاحتوائها في إطارها ليس كجماعات، وإنما كأفراد من خلال تقديم المبايعة للأميرين" أبو عمر البغدادي" و" أبو محمد الجولاني".
وكانت كافة الفصائل العسكرية قد ساهمت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بشطب الحراك المدني والأهلي" التظاهُر"، من أمام النظام، بدفع قيادته لتكون في قيادات الفعل العسكري في البداية، على طريق إخراجها من الفعل الميداني التظاهُريّ نحو الفعل العسكري.
وبقي قسم من الشباب في ميدان العمل الأهلي الإغاثي (من لم يقتنع بالعمل العسكري)، وبذلك تحوّل العديد من الشباب المتظاهرين خارج إطار الفعل المواجه للنظام. وهذا ما مهّد الطريق إلى تحوّل آخر في صفوف هؤلاء الشباب، من الساحات العامة والتظاهُر والفعل إلى الانزواء والإحباط والتقوقع على الذات بعيداً عن الفعل والإرادة الجماعية.
الهروب من الواقع المؤلم:
أمام التحوّلات الكبرى في الثورة السورية، والواقع الجديد فيها، من التظاهُر والعمل المدني الأهلي إلى العسكرة، أُجبر العديد من الشباب إلى مغادرة مناطق سيطرة النظام، والمناطق التي خرجت من سيطرته، أُجبر الشباب فيها وفي عموم الوطن السوري على أحد الخيارات:
الهجرة واللجوء: غادر الأراضي السورية إلى دول الجوار العديد من الشبّان والأهالي السوريين إلى خارج حدود الوطن نتيجة عنف النظام، والردّ العنيف الآخر من الفصائل المسلّحة التي سيطرت على مساحات واسعة من البلاد، ووضعت العباد في مواضع غير ماكانوا عليها قبل الثورة، وبهذا الخيار الذي لجأ إليه الآلاف من الشباب السوري، حيث أصبحوا على طريق المنفى الاختياري في بلاد المغترب الأوروبي والعالمي.
الحشيش" حالة هروب": أصبحت هناك ظاهرة فاعلة جداً في الأوساط الشبابية السورية هي ظاهرة التحشيش الجماعيّ، بدأت في حلقات ضيقة في شباب يثقون ببعض مثل عدد من طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية، وعدد من طلاب كلية الفنون الجميلة، ويعود سبب ذلك لمحدودية عدد الطلاب في كل قسم بالمعهد، والفئات في كلية الفنون، هذا شكل من أشكال التواجد ذي الثقة، بالإضافة إلى المجموعات التي تعرّفت على ذاتها في أواسط مهنيّة أو في أشكال التواصل السابقة في أيام المشاركة والشغل الجماعيّ في صفوف الثورة وأصبحت تعرف هذه الجلسات ب" جلسات لفّ ورق العنب" أو" جلسات الرواق" أو ما إلى هناك من تسميات أخرى عن ذلك قال السيد (درويش) الاسم المستعار :
"بعد تحوّل الثورة من السلميّة إلى المسلّحة وظهور الجماعات الإسلامية أصبحنا بحاجة إلى موازنة أنفسنا بوجه تلك الجماعات الإسلامية، لكن للأسف لم نستطيع أن نقف من جديد، وفي ظلّ الإحباط الذي عايشناه وتحطّم الأحلام وفقدان الأمل من إعادة تصويب خطّ الثورة، وبعد كل تلك الهزائم كان علينا بوسيلة أو بأخرى الهروب من هذا الواقع الأليم، فالبعض اختار السفر والاخر اختار القتال، وبقيت فئة متفرّجة عاجزة عن أن تفعل أي شيء، فكان المهرب الوحيد لها من هذه الحالة هو تعاطي الحشيش، والكثير الكثير من الشرب".
انقسمت هذه الفئة الأخيرة إلى قسمين: الأول ظنّ أن هذه هي الحرية التي يريد من خلال تعاطي الحشيش والسهر والشرب والجنس، والقسم الآخر الذي تعاطى الحشيش والكحول هرباً من كل الضغوطات التي تفرض علينا كشباب من خدمة علم إلى الدراسة الجامعية إلى الإهانة على الحواجز والوضع المادي، فكان الحشيش هو المنقذ من هذه الحالة.
ويضيف درويش "حالياً أنا أشعر بالخزي لأنني سلكت هذا الطريق، وفي كل يوم أحاول أن أحدث أيّ شيء يسعى لتغيير هذه الحالة بالنسبة لي أو لبقية أقراني".
بينما قالت (رانيا ) الاسم المستعار " في زمن الخيبات الكبرى، ونتيجة عدم القدرة على الهروب الكبير، كما فعل العديد من نشطاء الظواهر الميدانية والسياسية نسعى إلى الهروب الصغير" الساعيّ " أي محسوب علينا بالساعات". أرجعت رانيا ما وصلت إليها حال الشباب إلى فشل في الوصول إلى الحرية والكرامة والعدالة الإنسانية، وسرقت الثورة منهم إلى ملاعب واتّجاهات عسكرية وإسلامية وإقليمية ودولية، وتضيف "أصبحنا ورقة في مهب الريح تتقاذفها الأقدام، ذهبنا في خيار غير متوافر بشكل يومي، ربما في أحسن الأحوال بشكل أسبوعي، نحلّق في جلستنا مع كل جونت، سيجارة مدكوكة".
في حين أكّد "مروان" أن حالة التعاطي" التحشيش" تضع الإنسان في وضعيّة البسط، ويصبح في قمّة السعادة والفرح، ويشعر بأنه جالس على سطح القمر يرقص ويغنّي، وأنه لوحده، ولايوجد مع إنسان لدرجة أنه على استعداد أن ينزع كل ملابسه حتى الداخلية دون شعور أو إحساس حتى أنه فعل هذا الأمر، وتنفتح القريحة الذاتية في أغلب الأحيان، ويصبح الغناء والعتابا والمواويل التي يحفظها الإنسان، ويحاول أن يقاربها من إبداعاته.
الحانات والبارات وتعديل المزاج
تقدّم الكثير من البارات الحشيش وغيره بشكل غير علنيّ، بالإضافة إلى المشروب وبمعرفة أصحاب المحلات، لكن من دون الإعلان، ورشوة حواجز المنطقة التي تخضع إلى تقسيم طائفي أيضاً، فعلى بوابة البزورية القائمون على الحواجز من طائفة معيّنة، وما إن نصل إلى مدخل مكتب عنبر في امتداد مدحت باشا حتى يصبح الحاجز من طائفة أخرى، أمّا حاجز القشلة إلى باب شرقي فمن أبناء هذا الحيّ.
وتجدر الإشارة إلى أن ما يُصرف في هذه المنطقة من دمشق بشكل يومي وأسبوعي يفوق الخيال، وأحيانا يكون بيع الحشيش والهيروئين، وأدوات المهدئات" الكابتكون، وغيره" بشكل شبه علنيّ....، ويبقى في هذه المنطقة رغم ما يحصل بها حالات هروب جمعية عشوائية غير منظّمة نتيجة الواقع الدمشقي السوري. إنه واقع جديد يُفرض في ظلّ الحرب السورية- السورية المتداخلة مع الحالة الإقليمية والدولية.
فالإدمان الكحولي الشبابي هنا جزء من الحياة اليومية المضبوطة، بإيقاع ذاتي متداخل مع وجود مندوبي كل الفروع الأمنية والحواجز المذكورة وأحياناً الجيش.
هل يمكن استعادة الشباب؟!
إن الواقع في دمشق يتّجه إلى إيقاعات هروبيّة جديدة بعيدة كل البعد عمّا كان سائداً قبل الثورة السورية، فالشباب في الجامعات السورية لم يعد الشكل الدراسي الكلاسيكي هو المطلوب لديهم، وحتى إن تخرّج الشاب أو الشابة منهم ماذا ينتظره؟! في ظل استمرار الحرب، وعدم تكشّف طبيعة المستقبل أمام هؤلاء الشباب يصبح ذروة طموحهم هو حالة الهروب الأولى" الهجرة واللجوء"، خصوصاً الشابات، نتيجة الكثرة العددية لهن، يصبح همّهنّ اليومي الارتباط بشاب مهاجر من خلال عقد" زواج".
إن الإجابة على إمكانيّة استعادة الشباب في الدخول إلى الحلّ السياسيّ والمرحلة الانتقالية التي قد تخلق حالة استقرار ونهج وأسلوب إعادة تنظيم الصراع والحياة السياسية السورية التي تفتح لهؤلاء الشباب والشابات بوّابات الأمل في حياة سورية مستقرّة، نحو حياة أفضل ممّا وصل إليه الواقع السوري من سوء.
فالخراب الحاصل في البقاع السوريّة يجب إيقافه من بوّابة وقف الحرب واجتراح حلّ سياسي يقوم على الصيغة التي أقرّتها القرارات الدولية من بيان جنيف(1) إلى فيينا وبقية القرارات الدولية التي تساعد على وضع ركائز للحلّ السياسي الذي يشكّل نوعاً من الاستقرار بعيداً عن الحرب ومساراتها المناطقيّة.
دور الشباب:
كما ظهر دور الشباب جليّاً وواضحاً في الثورة السوريّة منذ آذار 2011، حتى الآن، على جزء من النظام والقوى السياسية والمدنية والأهلية السورية وغيرها من المنظمات الدولية المساعدة في إظهار وتظهير دور الشباب ووضعه في مكانه الصحيح، حتى نستطيع توجيه خطاب مباشر إلى هذه الفئة والشريحة العمريّة للقيام بدورها وفعلها في الحالة المستقبلية لسورية.
ومع إيضاح قضية أن التصادم مع الواقع البيروقراطي في الحياة السوريّة على كافة المستويات والمواقع بعيداً عن الرغبوية والنوايا الطيّبة، وإنما بالنظر إلى هذا الواقع كجزء من تركيبة سياسية- اقتصادية- اجتماعية" يجب العمل على تفكيكها وإعادة تركيبها وفق المعطيات والواقع الجديد الذي تسعى إليه الفئات الشبابيّة السوريّة التي تنظر إلى المستقبل السوري بعقل منفتح على قراءة الواقع والوقائع بعيداً عن الأطر والمواقف المسبقة.
هذا الدور الذي يجب أن تلعبه الأجيال الشابة في الواقع السوريّ الجديد يساهم في وضع سوريا الجديدة على طريق الحرّية والديمقراطية والكرامة الإنسانية بعيداً عن التعصب القوميّ والطائفي والعرقيّ والسياسيّ.
.
.