جنيف4 بين العسكر والسياسة
(رؤية لمستقبل سوريا )
*ريناس سينو
مرّة جديدة يترقّب السوريّون وهم محمّلون بالآلام والآمال ساعة الصفر لانطلاق مفاوضات جديدة تشكّل المرحلة الرابعة من سلسلة مفاوضات جنيف التي قد تطول لتتعدّى أصابع اليدين.
ومن الطبيعيّ أن يكثر الحديث في بداية كل مفاوضات عن النسبة والتناسب في الحجوم والمقاسات والامتدادات والخلفيّات والمرجعيّات والسوابق واللواحق والاتّجاهات والتوجّهات.. لما يحمل من دلالات سياسيّة بالغة الأهمّية في المستقبل إذا ما تحقّقت الاتّفاقية السياسيّة، ومن الطبيعيّ أيضاً أن يتمّ الحديث عن المستويات الأساسيّة للصراع وجزئيّاتها، متمثّلة في المستوى الأمنيّ وإزالة آثار الحرب، والمستوى السياسيّ وما يمكن أن يُنتَج فيه ويُجنى منه، والمستوى المستقبليّ متمثّلاً باستشراف آفاق الاستقرار.
ونظراً إلى العلاقة العضويّة بين مباحثات الأستانا وجنيف ٤ التي صنعتها الأطراف الراعية للأستانا ( روسيا-تركيا- إيران)، لابدّ من إلقاء الضوء على هذه المباحثات كمدخل إلى الموضوع الأساسي.
فالقراءة الأوّليّة لهذه المباحثات مُبهِرَة في دلالاتها بأنها كانت فعّالة نظراً إلى ما توصّلت إليه الأطراف أثناء المحادثات وبعدها، حيث يُعَدّ جلوس العسكريّين، الذين صُنّفوا إرهابيين قبلاً من قبل النظام مع النظام في القاعة نفسها سابقة لم يكن أحدٌ يتوقّع إنجازها (لولا مأساة حلب)، والتأكيد على تثبيت وقف إطلاق النار في كلّ سورية ماعدا مناطق تواجد (جبهة فتح الشام وتنظيم الدولة الاسلامية )، بالإضافة إلى عمليّات تبادل الأسرى التي حدثت بعد المباحثات، ومن خلال هذه الدلالات وغيرها تتبيّن أهمّية مشاركة العسكر في المفاوضات أثناء الأزمات لكونهم طرفاً في الصراع يمتلك القدرة على تطبيق أيّة اتّفاقية قد تتوصّل إليها الأطراف المتصارعة، ولديه إمكانيّة تحديد خطوط الاشتباك، ولكن يجب ألّا يتعدّى الدور العسكريّ إلى الدور السياسيّ أو يتغوّل عليه؛ لما يحمله من مخاطر كثيرة على مستقبل الديمقراطية في البلاد، وذلك لأنّ:
١- فصل الجيش عن السياسة وحياديّته تجاه الدولة والمجتمع هو مبدأ من مبادئ الحكم الديمقراطيّ، ولذلك يجب أن يؤسّس له من الآن، ولكنّ المؤشّرات تقول إن العسكريّين يسعوَن إلى أن يكون لهم دورٌ في الحكم في المستقبل، وذلك قد يجعلنا أمام نموذج يشبه إلى حدٍّ ما نموذج سيسي مصر، معيداً إلى الأذهان نكهة السياسة الدوليّة بعد الحرب العالمية الثانية، التي دعمت أنظمة تتمتّع بالاستقرار على حساب الديمقراطيّة والتنمية وحقوق الإنسان، إذ لم تتمكّن الثورة السوريّة -حتى الآن- من إنتاج قيادة سياسيّة قادرة على بلورة ملامح حكم ينسجم مع المتغيّرات في سوريا، ومنسجماً مع السياسة الدوليّة ومتطلّباتها.
٢- افتقاد العسكريّين إلى الخبرة السياسيّة التي تخوّلهم خوض غمار مباحثات سياسيّة بهذا الحجم، تقرّر مستقبل شعب ودولة بحجم وأهمّيّة سوريا الجيوسياسيّة.
٣- الورقة العسكريّة لم تعد ذات الورقة التي يمكن أن تكون ذات تأثير كبير على المباحثات، وخاصّة بعد سلسلة الهزائم التي مُنيت بها، وآخرها حلب، ولذلك ستكون أكثر عرضة للابتزاز السياسيّ من قِبَل الدوَل المتدخّلة في الصراع السوريّ، وخاصّة في ظلّ التوافقات الأخيرة بين مجموعة دول، ساهمت عداوتها في إبقاء العسكر واستمرارهم، بل صمودهم من جميع الأطراف.
٤- من المؤكّد أن النظام سيرفض أيّ اقتراح متعلّق بالعدالة الانتقاليّة نظراً لما تشكّله العدالة بداية إنهاء رموز النظام لحجم الانتهاكات التي ارتكبوها، والمسلك نفسه ستسلكه الأطراف العسكريّة الأخرى؛ بسبب الخروقات للقوانين الإنسانيّة الدوليّة و الانتهاكات التي ارتُكبت من قِبَلهم أيضاً.
5- وأخطر ما في الأمر أن يؤدّي في النهاية إلى تفريغ القضيّة من محتواها السياسيّ، وتحويلها إلى مباحثات بين حكومة شرعيّة ومتمرّدين، بهدف تحقيق الأمن والأمان فقط.
بالنظر إلى الوفد المشكّل للمشاركة في مباحثات جنيف ٤، نرى أن دور العسكريّين منظّم ومدروس، إذ إنهم يشكّلون ٥٠٪ من الفريق المفاوض، وتقريبا نفس النسبة موجودة في الوفد الاستشاريّ، و الشيء نفسه ينطبق على الوفد الإعلاميّ، وكأنّما الأمر تطويق للعمليّة بشكل كامل، وهذا ما يؤكّد أن العسكريّين مقتنعون بالدور السياسيّ الذي تسعى الدول الراعية لمباحثات أستانا إلى اعادة شرعنة العسكري بعد فشلهم في كسب الشرعية والمشروعية و تكريسه في جنيف ٤ للعسكريّين.
وأمّا الأطراف السياسيّة فليست بأفضل حال من العسكريّين، فهي إلى يومنا هذا، مازالت تتخبّط، ولَم تحقّق أي شيء يُذكَر باستثناء وجودها الرمزيّ، ويمكن تلخيصه بثلاث نقاط رئيسة:
١- الخلافات والاختلافات بين المنصّات السياسيّة المختلفة، يجعلنا نبدي تشاؤماً من قدرتها على إيجاد حلول ناجعة.
٢- وفد من لون واحد، حيث لا نجد التضمين والشمول الكافي، وحتى إن وجدت بعض الأسماء من أطراف أخرى فإنّ التمثيل الأكبر والأقوى مقتصر على هيئة المفاوضات والائتلاف وهو المتحكّم بزمام الأمور.
٢- افتقار الأطراف الى رؤية واستراتيجية سياسيّة واضحة حول مستقبل سوريا.
ولعلّ أهمّ ما يميّز وفد المعارضة بشقّيه السياسيّ والعسكريّ، هو سيطرة الإسلام بمعناه السياسيّ، وهو السمة البارزة ذاتها للدولة الداعمة للوفد المتمثّل بتركيا والسعودية وقطر، و ذلك ما يؤكّد مخاوف الغرق أكثر في دوّامة الصراع الطائفيّ، وهذا بالمطلق يخدم إستراتيجيّة النظام وحليفه الإيرانيّ الروسيّ. علماً أن كلا الطرفين يجعل من ماهيّة اصطفاف الآخر سبباً لماهيّة اصطفافه.
وبناء على ما عرَضناه آنفاً من توصيفات ومقاسات لدى كلّ من الطرفين الخصمين، فلا بدّ من اتّخاذ خطوات أساسيّة لتوضيح الرؤية وتصحيح المسار، يمكن إيجازاها في النقاط الآتية:
١- على العسكر التخلّي عن طموحاتهم في بناء نظام سياسيّ ذي صبغة دينيّة، وأن يقتصر تمثيلهم ضمن وفدٍ تقنيّ مسؤول عن اتّفاقيّات وقف إطلاق النار التي تخوضها الأطراف المتفاوضة.
٢- على الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات التخلّي عن عقليّة السيطرة والإقصاء والاستحواذ التي يمارسانها تجاه الأطراف الأخرى، وأن يسعيا بشكل حقيقيّ ليتحقّق تضمين أكبر لكل الأطراف، وليس على أساس المنصّات السياسيّة فقط، إنّما على أساس القضايا التي تحملها الأطراف، مع مراعاة تمثيل المكوّنات السوريّة تمثيلاً عادلاً، وأن يكون التضمين حقيقيّاً وفعّالاً وليس صوريّاً.
٣- ليس مطلوباً من المعارضة أن تندمج في جسم واحد، وإنّما المطلوب امتلاكهم لرؤية واحدة لمستقبل سوريا، والاتّفاق على إستراتيجيّة واحدة لمواجهة الطرف الآخر في المفاوضات متمثّلاً بالنظام؛ لإنهاء حكم الاستبداد ودولة ما قبل الوطنيّة.
٣- يمكن تقسيم العمليّة إلى ثلاثة أُطرٍ زمنيّة مختلفة، وعدم السعي خلف اتّفاقات هشّة من شأنها إطالة أمد الصراع. ففي المرحلة الأولى: يتمّ التركيز على ما يسمّى إجراءات بناء الثقة وحُسن النوايا، وذلك بإيقاف القتل وفكّ الحصار وإطلاق سراح المعتقلين وتحسين أوضاع النازحين واللاجئين.
أمّا المرحلة الثانية: فيتمّ فيها تثبت المبادئ التي يجب أن تحكم مستقبل سوريا، وفتح الباب على القضايا التراكمية الأكثر تعقيداً والاتّفاق على آليّة لوضع دستور يشارك فيه ويقبل فيه الجميع، ثمّ إجراء الانتخابات بشكلها الذي أُقرّ في الدستور الجديد.
أمّا المرحلة الثالثة: فهي مرحلة الاستقرار، ويتمّ التركيز فيها على بناء وتدعيم وتمكين وتثبيت مؤسّسات الحكم التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، ووضع خطط تنمية مُستدامة والبدء بتفعيل العدالة الانتقاليّة.
إن تلمّس الطريق لخلاص المواطنين السوريين من مأساة قلّ نظيرها في عالمنا المعاصر، والعمل على تمكين شعبها من القبض على زمام أمره متحرّراً من قيود التبعيّة والارتهان بكافة أشكالها ومضامينها ومسمّياتها، ربّما يجعل من جنيف4 جسراً يعبر عليه ومن خلاله السوريّون من الآلام إلى الآمال.
.
.
مدير مشارك في مركز المجتمع المدني والديمقراطية.